كتب : محمد حبوشة
لاشك أن النجوم يحظون باحتفاء وترحيب أينما وجدوا، يسارع الجميع نحوهم من أجل صورة أو توقيع، يخطفون الأنظار، ويتلقون الاهتمام والمديح من كل صوب، لكن حياة المشاهير هذه لا تنسحب على الفضاء الإلكتروني، حيث يتعرّض هؤلاء – أكثر من غيرهم – الى التنمر، عبر تعليقات جارحة من حسابات متابعيهم، ولعل الثورة الهائلة التي شهدتها وسائل التواصل والاتصال، فرضت أشكالا جديدة في علاقة النجم بالجمهور، حتى باتت حياة النجوم متاحة أمام الجميع، ما غير كثيرا في هذه العلاقة، فالفنان كان هو (الحلم) أو ربما الصورة المشتهاة في عيون محبيه، وفرصة اللقاء به شبه مستحيلة، لكن مواقع التواصل خلقت مساحة مفتوحة للتلاقي الدائم، واليومي معه، هكذا تقلصت المسافات، وبات الفنان (المثال) شخصا عاديا ومتاحا عبر فيديوهات تكشف تفاصيل حياته مع عائلته، وأصدقائه، في المطعم والمطبخ وغرف النوم والصالات الرياضية.
وشيئاً فشيئا، صارت هيبة (النجم) تتضاءل، وإن ظلت أرقام المتابعين تتضخم، وليس كل هؤلاء المتابعين هم بالضرورة من المعجبين، كثيرون منهم يلحقون هذا الفنان أو ذاك لمجرد المتعة في التلصص على حياته، ومعرفة تفاصيل خفية عنه، ومنهم من وجد في صفحات المشاهير المفتوحة أمام الجميع فرصة لإثبات وجوده، وإذا كان الفنان يستشعر تفوقه بماله وملابسه وأرقام المتابعين، فإن بعض المتابعين يحاولون الاستقواء عليه بكلامه الجارح، وبالتنمر، والشتائم.
وهو ماحدث مع (جارة القمر) السيدة (فيروز) خلال الأيام الماضية عندما تنمر بها من شاهت وجوههم الكريهة وجفت أقلامهم المسمومة، في إطار ظاهرة يعيشها الناس هذه الأيام تسمى (بالتنمر)، وذلك بأن تترصد شخص ويصبح هو شاغلك الأول، في تحركاته، وما يقوم به من أعمال، في طريقة ارتدائه لملابسه، أو في ممارسته لأنشطة حياته اليومية، هذا أمر صعب جدا، وغريب على مجتمعنا، فلم يسلم من ذلك لا المشاهير، ولا الأشخاص العاديين، فقد سمعنا في الآونة الأخيرة عن انتشار هذه الظاهرة في المدارس والجامعات، وكأنها عادة محمودة يتم اتباعها.
وهنا لابد أن نوجه سؤالا لكل من يقوم بممارسة التنمر على السيدة (فيروز) أو غيرها من نجوم المجتمع: عندما تتنمر على شخص ما، لمجرد أنه لا يلق لديك القبول اللازم لاحترامه بسبب صورة تعكس كبره في السن، هذا ليس معناه أنه يستحق منك تلك المعاملة (لا يسخر قومٌ من قومٍ، عسى أن يكونوا خيرًا منهم)، ليس ذلك فقط، هل تعلم ما عاناه هذا الشخص في حياته حتى يصل إلى المرحلة التي رآك فيها، واضطرته الظروف للتعامل معك؟!، هل تعلم ما الذي خاضه من معارك حتى يقف على قدميه بقوة وصلابة – على الأقل ظاهرية – والله وحده يعلم ما الذي يُكابده؟!، هل أدركت سلوكك غير السوي لأي درجة يؤثر على نفسيته؟!، هل كنت تعلم أن كثير من الحالات التي عانت من ظاهرة التنمر أو فلنقل الترصد، قد فكرت كثيرا في الانتحار ومنها من أقدم على ذلك بالفعل وأنهى حياته بيده؛ كي يتخلص منك ومن سلوكك الشائن.
هل كنت تدرك كل تلك الأمور؟!، هل جالت في خاطرك ولو للحظة قبل أن تهم بالقيام بفعلتك الشنعاء تلك؟!، هل وضعت نفسك مكان هذا الشخص في يوم ما؟!، أعتقد أن الإجابة بـ لا، وإلا فما كنت أقدمت على فعلها شخص قبيح الوجه – من وجهة نظرك – ليس هناك شخص قبيح؛ فالله سبحانه وتعالى خلقنا جميعا في أحسن تقويم، بل ما رأته عينك منه هو ما صورته إليك نفسك، فقبح وجهه الذي رأيته مستمد من نفسك القبيحة شاه وجهك الكريه وجف قلمك الذي يقطر سما على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن أصبحت ساحة مفتوحة للعبث وتشويه كل ما هو جميل في حياتنا مثل (فيروز) التي تربت الروح العربية وتغزى وجدانها على أغانيها في الصباح والمساء وأغانيها لـ (لبنان ودمشق ومصر والعراق والقدس والإمارات والسعودية)، فضلا عن أغنايتها الساحرة لكل عناصر الطبيعة والزراع والكرامون وصناع الحرف وغيرهم من وجوه البشر باختلاف أشكالهم وألوانهم.
في أغلب بلدان العالم يصحو الناس على أصوات العصافير والمنبهات المزاجية، للحاق بالعمل أو الدوام المدرسي وغيرها من الالتزامات اليومية المعتادة، أما سوريا ولبنان ومصر، وتقريبا بلاد الشام كلها، فتصحو على صوت فيروز الذي يعطي لهذا المزاج العربي المتخبط، دفعة من الأمل الموقت، وجرعة تحفيز، للابتعاد عن الكوابيس والواقع التعيس، كتنهيدة بلبل يصبح عليك بمقطوعة (يسعد صباحك يا حلو)، ثم يروي لك قصة عن (عيون عليا وسكان تنورين)، ويأخذك بعدها لتعديل مزاجك (في قهوة على المفرق)، ويقنعك وقتها بطرب سحري ويخبرك بـ (خليك بالبيت)، كما أن صوت جارة القمر عبارة عن منبه موسمي يعلمك بقدوم كل فصل، فتارة يحكي لك (عن آخر أيام الصيفية) وتارة يستقبل معك فصلا جديدا بأغنية (رجعت الشتوية).
هذا البلبل (صوت فيروز) تحول إلى (مرسال المراسيل) لينقل لنا صورة (ريما الحندقة) برفقة (جارة القمر) لتطل علينا (فيروز الشرق الأوسط) بصورة طفت على سطح مواقع السوشال ميديا، وكأن تجاعيد الوجه المثقلة بالحب، حملت معها أعواما من الصباحات الجميلة وحفلات الغناء البهية، حتى من كان (يصطهج) على صوتها الفيروزي، يعي تماما من هى (عصفورة الشرق)، أو نهاد حداد التي أصبحت أيقونة لبنانية الجسد، عربية الروح كانت ولا تزال مرجعا للأذن الراقية، والذائقة السمعية الفريدة لكل عربي أينما كان من البلدان التي أدمنت صوتها الملائكي، وللعلم سيبقون بانتظارها ويرددون أغنيتها (تعال كفاك دلال) على أمل ألا تصبح كل هذه الكلمات على مبدأ مقطوعة (كتبنا وما كتبنا).
التنمّر على عجوز تجاوزت الثمانين من العمر، تعيش في عزلة اختيارية، شعارها: (وش على أنا من الناس وش على الناس مني)، أمر غير مفهوم: السخرية بلؤم وعنف وتشف من امرأة وحيدة لم تهاجم أحدا في حياتها الطويلة، والتهجم عليها بسبب مقطع صغير نشرته ابنتها، بمحبة لأمها، أمر معيب: لم تهاجم فيروز يوما أي شخص على وجه البسيطة: لا في شبابها، ولا في عز شهرتها الأسطورية، ولا بعد طلاقها من عاصي، ولا خلال الحرب الأهلية الطويلة، ولا بعد انتهاء الحرب: لم تتقرب من المسؤولين وصناع القرار، ولم تلاحق المثقفين.
لا يكاد المرء يعثر على لقاءات صحافية للسيدة فيروز: اللقاءات القليلة جداً، تتكلم فيها بخجل شديد، وببساطة لا تصدّق، وبتلقائية: تكاد فيروز لا تعرف شهرتها التي طبقت الآفاق: تنصت في اللقاءات، وترد ردودا مقتضبة مباشرة: ليس عند صاحبة الصوت المغاير لمفهوم الناس للنجومية ما تقوله عن الغناء والفن: هذا ما تفعله، هى تغني فقط، ولا يعنيها التنظير، والصراع، والكلام الكبير، والكلام الصغير، ولم تؤذ فيروز يوما أي كائن بشري، وغنت بفرح لكل شيء: للحب وللضيعة وللمدن، وللحزن وللبحر، وللطفولة وللعجائز.
اتركوها يا رواد مواقع (التفرقة الاجتماعية) من الأغبياء والقبيحين، فهى مجرد عجوز تعيش سنواتها الأخيرة وحيدة، تصلي لله، بصدق وإيمان لم يتضعضع ولم يتغير منذ طفولتها الفقيرة جدا، تدندن وحدها كي تمضي الأيام أنقى وألطف على جسدها المتعب المنهك، وظني أنه على الأغلب، ينصت الله لها بانتباه شديد، ويبتسم.
في واحدة من أغانيها غير المشهورة جدا، تقول السيدة:
يا ميْةْ مسا ع اللي اشتكى
و عَ حفّة الباب اتّكى
ع اللي انحكى وعالـ ما انحكى
و ع اللي انتسى وما بينتسى…”
يا مية مسا يا فيروز.
اتركوا صاحبة صوت الصباح و جارة القمر الذي اجتمع على حبها الوطن العربي كله، فمن من منا لم يصادف اسم فيروز وصوتها في كل صباح أثناء القيادة وفي محلات الحلويات والمطاعم وأكشاك القهوة التي تقدم أكوابا تحمل اسمها وصورتها، فهي التي تعطينا الفرح والرقي، ترسلنا للضيعة (القرية) لـ (حجل صنين لزمن البيلسان والتين لبحر صور وتراب الجنوب، لكمشة تراب من عنطورة لقمر مشغرة في ليل جميل، لبوسطة حملايا الذاهبة لتنورين، لدراج بعلبك تأخذنا لشوارع القدس العتيقة لبيسان، لبحر يافا، لعمان فتضعها بالقلب وترى الأردن بشعر سعيد عقل، أنه بحجم بعض الورد ترسلنا للحنين (يا جبل إلي بعيد خلفك حبايبنا وجايبلي سلام)، ولا تكتمل صباحات الكثيرين من محبي فيروز ومفردات أيامهم السعيدة إلا بصوت (جارة القمر).
ينبعث (صوت فيروز) دافئا هامسا من مذياع قديم من سيارة، أو من أعماق مقهى عتيق ومعتق، صوت معجزة يمنح الفرح والتفاؤل ويعزز بعذوبته ورِقّته امتحان الحياة اليومي، فيروز ترجعنا لطفولتنا لـ (تك تك يا أم سليمان، لريما الحندقة، وطيري يا طيارة)، فيروز ليل وصفاء الماضي في (سكن الليل، وليلة بترجع يا ليل، ونحنا والقمر جيران، وسهار بعد سهار)، فيروز الفصول بكل تنوعاتها، ففي الربيع (طل وسألني، أجا نيسان، دق الباب) وفي الصيف (صيف يا صيف)، وفي الخريف (ورق الأصفر ورق أيلول)، فيروز نداء المطر ودعاء للغيث (شتي يا دنيا، وثلج ثلج)، فيروز بصوتها تستدعي الحبيبة في قهوة ع المفرق لتهديها وردة ليكون الجواب (حبيتك والشوق أنقال)، لتلك الجميلة السمراء والتي تلبس تنورة نيلية ليظل (عودك رنان).
بالفرح والحياة فيروز بصوتها الثمانيني الذي استعصى على السنين وطوعه نجلها زياد بحسه الموسيقى الراقي لثورته الموسيقية، قدمت السيدة فيروز نمطا مختلفا عن السائد بعمقه ورقته لتستمر الصباحات الجميلة وسط فوضى اللحن والكلمة، فيروز تلك السيدة الراقية في إنسانيتها وفنها، أعطتنا منذ نصف قرن وأكثر بصوتها أغنيات جميلة قديمة تدفئنا، كأنها تغني لتكسونا فرح وتفاؤل وطاقة إيجابية في زمن الكلمة الرديئة واللحن الهابط والصوت النشاز، وفي زمن التنمر والخبث والضحك على صورة لفيروز وضعتها ابنتها ريما فكان الكلام السيئ في زمن لا يمتلك الثقافة ولا يمتلك الروح وجمال الصبح والتي تعطينا فيروز مقابل إنسان جاهل يمتلك السلبية وعدم احترام سيدة الصباحات الجميلة فيروز.
(زي خيول الحكومة لما بتعجز بتنضرب بالنار)، استحضرت تلك المقولة الشهيرة وأنا أطالع كم التعليقات السلبية والتنمر والهجوم على أحدث ظهور لجارة القمر فيروز في صورة لها مع ابنتها ريما الرحباني؛ نشرتها الأخيرة على حسابها عبر تويتر وأحدثت تفاعلا وجدلا واسعا على السوشيال ميديا، وحملت أغلب التعليقات من السخافة و الوقاحة ما جعلني أتساءل: هل أصبح الجمهور يعامل النجوم (كبار السن) معاملة (خيول الحكومة)، وكيف ومتى (توحش) الجمهور العربي على اختلاف أشكاله وألوانه لدرجة السخرية من ملامح الشيخوخة والتطاول على شخص لأنه – فقط – أصبح عجوزا!
الصورة التي نشرت لجارة القمر جاءت عفوية صوّرتها ابنة فيروز بطريقة (السيلفي)، وأطلت فيها النجمة اللبنانية بابتسامة هادئة وشعر مسندل بدون فلتر، كما ظهرت ريما الرحباني بشعر قصير وهى تضحك في سعادة، وجاءت بعض التعليقات على فيروز: (هي لسه عايشة؟، كانت متصورتش أحسن، أعوذ بالله)، بل امتد التنمر لريما ووصفها بأنها ذكرا وليست أنثى بسبب قصر شعرها، وكتبت إحداهم: (يا مامي زي العفاريت زي الزومبي هى وابنها المتحول!)، والتعليق الأقل حدة استنكر نشر الصورة بدون استعدادات أو طابع رسمي ولام على ريما بأنها عرّضت والدتها لتلك الانتقادات.
أيها المتنمر الفج القبيح : فيروز ليست (كائنا فضائيا)، ولكنها إنسانة مثلنا جميعا، وعلى المتنمرين على صورتها أن يعوا جيدا حقيقة واضحة لا تقبل النقاش؛ وهى أن الناس لن يظلوا شبابا دائما وسوف يمرون بمرحلة الشيخوخة لا محالة إذا امتد بهم العمر، ومن هؤلاء المتنمرين من ينشر صوره مع أبيه أو جده أو أمه المسنة بكل سعادة، فهل يقبلون التنمر على مظهر أقاربهم لمجرد أنهم من كبار السن؟، ثم ألا يدري هؤلاء المتنمرين أن التنمر Bullying ينعكس شبكل سلبي على الأفراد المتعرضين له، حيث يؤدي التنمر إلى مشاكل نفسية وعاطفية وسلوكية على المدى الطويل كالاكتئاب والشعور بالوحدة والانطوائية والقلق.
لقد أصبحت ظاهرة التنمر الإلكتروني أو (الابتزاز الإلكتروني) منتشرة بكثرة في مجتمعاتنا العربية في الآونة الأخيرة وخاصة بين الشباب في المدارس والجامعات، والتنمر الإلكتروني هو استغلال التكنولوجيا والإنترنت وتقنياته لإيذاء أشخاص آخرين بطريقة متعمدة ومتكررة وعدائية، ومن الأمثلة على التنمر الإلكتروني: الاتصالات والرسائل التي تسعى للترهيب والإيذاء والتخويف والتلاعب والقمع وتشويه السمعة أو إذلال المتلقي، تعديل صور الأشخاص على الإنترنت ونشرها أو انتقادها بشكل مهين كما حدث مع السيدة فيروز، وقد يكون التنمر الإلكتروني من خلال انتحال الشخصية، أو استبعاد الشخص من مجموعة إلكترونية.
وأخيرا يتوجب على الحكومات وضع قوانين صارمة لمعاقبة ممارسي التنمر بكافة أشكاله، وذلك بهدف حماية حقوق الأفراد الممارس عليهم التنمر وتعويضهم عن الأضرار النفسية أو الجسدية التي تعرضوا لها، وعلى الحكومات ومنظمات حقوق الإنسان ومؤسسات حماية الأسرة والأطفال إطلاق حملات توعية لكافة الأعمار حول سلوك التنمر وأشكاله وطرق التعامل معه والوقاية منه وعلاجه.