رشدي الشامي .. عملاق الظل القادم من أعماق المسرح
بقلم محمد حبوشة
لا يوازي أي فن من الفنون تلك القدرة التي يمتلكها المسرح على استثارة التوتر والحماس وصهر الانفعالات والأفكار والمشاعر المتأججة في سبيكة واحدة، فوحدة الجسدي، والنفسي، والموضوعي، والذاتي مهمة من إبداع الممثل، فقد يعرف أن الانسان الذي يعاني شعور الغضب أن يضم قبضته ويرفع حاجبيه، لكن ماذا تفعل في هذه الحالة عيناه فمه، كتفاه، رجلاه وجذعه؟، ذلك لأن العضلات كلها تشارك بشكل صادق وصحيح، ويستطيع التعبير بهذا الفعل عن شعور الغضب، ولكن بشرط أن تعيش قدماه هذه اللحظة، فاذا كذبت رجلاه أو أي عضو من جسده، فإن المتفرج لن يدق يديه أو أي عضو فيه.
ولأن ضيفنا في باب (في دائرة الضوء) الفنان القدير (رشدي الشامي) هو واحد من عملاقة المسرح الذين يمتلكون القدرة على استثارة التوتر والحماس وصهر انفعلاته على المستوى الجسدي والنفسي والموضوعي والذاتي، من خلال معايشة كاملة للشخصية التي يجسدها على الخشبة، فقد تعلم المهارات الأساسية التي ينبغي أن يكون عليها الممثل المسرحي، مثل خلق الشخصية والإحساس بالحدث أو بالفعل الدرامي، ودمج الايقاع الداخلي، والتنبؤ فيما يتعلق بالحركة، والقدرة على التعرف، وعلي التصوير، والصراع، وفهم اللغة الدرامية، فالتمثيل لديه كما قيل هو فن الأساس الفعل، الذي يعتمد على الصدق، لذا فقد قد برع (الشامي) كثيرا في الدراما التليفزيونية من أول إطلالة له في مسلسل (بوابة المتولي) وحتى آخر ظهور في مسلسلي (حرب أهلية، والقاهرة كابول) رمضان 2021.
ولعله قد بدا الصدق واضحا في أداء (رشدي الشامي) من خلال عدة مسلسلات تليفزيونية على مدار السنوات القليلة الماضية عبر طريقة أدائه التي تبعد تماما عن الانفعال الزائد عن الحد أو الاستغراق في هذا الانفعال، سواء كان زائفا أم حقيقيا، وحتى إذا أقدم على فعل الابتسامة فإنها تأتي دون أن يحاول أن ينفعل بها، فالمهم دائما عنده ما يقترن بالإحساس، ويرتبط بأفكار وتعبيرات جسدية وصور، وهذه الصور تحتاج إلى أن تنمو بالتفاصيل وتصبح أكثر ثراء، لكن ذلك شريطة إذا كان الممثل مسيطرا على صوته وجسده، ولايفوته ملاحظة أهمية تكامل الممثل جسدا، وعقلا، وروحا، ووجوب امتلاك الممثل المقدرة والتمكين والتحريك والتأثير، وفوق كل ذلك لابد من الاعتراف بأن التمثل مسعى روحانيا يتطلب سموا روحيا، بالإضافة إلى كونه مجموعة من المهارات، وظني أن التمثيل في حالة رشدي الشامي تمثل سموا روحيا منطقع النظير في جيله من الممثلين.
ومن خلال متابعتي لأدائه في دور (عزيز) زوج (مريم / يسرا) في مسلسل (حرب أهلية)، وكذلك تجسيده الرائع لشخصية (عبده – والد رمزي / طارق لطفي) في (القاهرة كابول)، أستطيع القول بأن رشدي الشامي من القلائل الذين يدركون جيدا أن علم التمثيل هو رحلة التكوين أو التشكيل الشخصي، وهذه الأنواع من الرحلات التكوينية والتي تعيد تكوين وتشكيل المسافر لكن تجعله نوعا مختلفا من الاشخاص، وقد يكون لهذه الرحلة مكانا مقصودا لكن لا يكون لها مسار بسيط ومباشر، فهي تتطلب في الأغلب الكثير من الاستكشاف والتجول الهادف والمتسم بالعزم، وقد اتضح ذلك في اختلاف أداءه بين الشخصيتين من حيث التلقائية والانضباط الحذر، والانغماس في التفاصيل المتعلقة بالشخصية على المستوى الداخلي والخارجي، فطرة وتفكيرا وتخطيطا وارتجالا، كما جاء في (القاهرة كابول)، والاشباع العاجل، والراحة السريعة، والإثارة السهلة في (حرب أهلية).
في حوار تليفزيوني أخير له فسر لنا (الشامي) أن الفرق بين حياة الممثل وحياة الانسان الممثل هو أن الأول (الممثل على المسرح)، فهو يقدم لنا نماذج معدة ومرسومة ومتخيلة سلفا وفق ما تصورها المؤلف وفسرها المخرج وخلق شخصياتها الممثل نفسه، أما الممثل في الحياة فهو نموذج حي حقيقي لشخصيته لها ذاتيتها وخصوصيتها البحتة، فهو يتصرف بشكل غريزي وفطري دون أن يكون لأي قوة خارجية سلطان عليه، إنه يمتلك في الحياة ذاتية مستقلة لها أبعادها المحددة وسلوكها المميز، ولهذا فالممثل يشكل عنصرا أساسيا في عناصر الحياة على الشاشة، حيث يتفاعل فيها كما يتفاعل الانسان في الحياة ضمن واقعه الحقيقي الملوس، لذا يجب أن يكون كل ما يحدث على الشاشة مقنعا للممثل وللجمهور إلى حد أن تنسى شخصية الممثل الحقيقية وتتفاعل مع الشخصية التي يجسدها، كما حدث له في دور الشيخ صابر في مسلسل (واحة الغروب)، والعمدة أبو مهجة في مسلسل (طايع)، وكذلك حاله مع شخصيات أخرى مثل (رجاء) في مسلسل (قمر هادي)، وصلاح النمر في مسلسل (ختم النمر) والشيخ حسان (البدوي السيناوي) في مسلسل (الاختيار).
ونلاحظ أن رشدي المهدي في تعامله مع كل تلك الشخصيات السابقة سار على نهج (ماير هولد) الذي يقول: لابد للممثل من أن يعمل على تطويع جسده لكي يستجيب بسرعة الأوامر الصادرة إليه، وإن وعي الممثل بجسده يجعله حتى وهو في حالة جهود أن يحتفظ بأهميته، شأنه شأن الممثل العظيم الذي يحتفظ بهيبته حتى في لحظات صمته، فمن خلال التدريب الذي اعتاده (الشامي) في المسرح أصبح على دراية بالتوترات الزائفة والتشويش المعتاد، وتعلم كيف يحافظ على طاقته، فمرونة جسده تساعده على اختزال مزيد من طاقته، فحين ينطلق باتجاه الحركة من الداخل للخارج، ومن الخارج للداخل، فإن الجسد يتراجع ويعطي فرصة للخيال، ومن ثم يقوم بترجمه مشاعر الشخصية على أكمل وجه ووفقا لتعليمات المخرج باعتباره حاملا لخاصية المسرح التي يطبقها على الشاشة.
وكما يتطلب من الرسام معرفة الوسيلة التي يستخدمها لمزج ألوانه رغبة في الحصول على اللون الصحيح والتأثير من خلاله على المشاهد، كذلك فإن (رشدي الشامي) يعرف كيف يستخدم صوته وجسمه للحصول على التأثيرات المطلوبة لأشكال من الانفعالات الداخلية والخارجية، مثل الكراهية، الغضب، والتعجب، والرعب، والبهجة، والحنان، وعذاب الضمير، وتوقع الشر، والأسلوب الذي يستخدمه (الشامي) بواسطة وسائل تعبيره الخاصة يشكل بحد ذاته حرفية الممثل على مستوى البراعة والخيال، وكذلك صوته الذي بدا واضحا وقويا ومسترخيا ومؤثرا، وأن يلفظ مخارج الحروف بشكل صحيح وسليم، وبالتالي يملك القدرة على توصيل معنى الكلام بشكل واضح في حالات البطء أو السرعة، وأن يوصل ويجسد الأفكار والمشاعر التي يفرضها الموقف، فممارسته للتكنيك الخارجي من قبله يروض صوته وجسمه بغية إمداده بأداة فعالة من أجل إيصال معنى الموقف الدرامي إلى الجمهور، فيما التكنيك الداخلي يدرب نفسه دوما لاستخدام خبرته الحياتية الخاصة كوسيلة لإيجاد وفهم ما هو معنى الدراما الحقيقية.
تعود أصول رشدي الشامي إلى قرية (دهمشا) التابعة لمركز (مشتول السوق) بمحافظة الشرقية، ونشأ في حي السكاكيني بقلب القاهرة، وتعلم في مدارس القاهرة، ودخل المسرح القومي وعمره 9 سنوات لمشاهدة تخرج دفعة 67 من معهد الفنون المسرحية، عندئذ ارتجف قلبه وشعر بهالة خاصة لهذا المكان ومن وقتها أصبح مرتبطا بالمسرح، وتعلم التمثيل في المسرح وعمل ممثلا مسرحيا كوظيفة حكومية، وقدم أكثر من 120 شخصية على خشبة المسرح خلال 120 عملا مسرحيا مختلفا ولم ينل الشهرة خلالها، وكان أول مسلسل شارك فيه كان (بوابة المتولي) منذ حوالي 30 عاما، لكنه نال شهرة واسعة بعد مشاركته في مسلسل (واحة الغروب) مع المخرجة كاملة أبوذكري، ثم توالت بعدها الأعمال الفنية التي شارك فيها وآخرها مسلسلان في الموسم الدرامي الرمضاني المنقضي وهما (حرب أهلية) مع الفنانة يسرا و(القاهرة كابول) مع الفنان طارق لطفي.
وعلى الرغم من أن الشامي لم يحالفه الحظ للحصول على الشهرة في بدايات عام 2015، وذلك بعد مشاركته في مسلسل (واحة الغروب)، إلا أنه الآن يعد واحدا من فنانين مصر العمالقة، والذي يقدر قيمته من يتابع أعمال المسرح بدقة، وعرف الفنان رشدي الشامي من خلال تقديمه عدة مسرحيات على المسرح القومي، كما شارك في العديد من المسرحيات في هيئة المسرح والتي تتخطى الـ 90 مسرحية، ولكنه لم يحصل على فرصة المشاركة في السينما والتليفزيون إلا لاحقا، ولم يعبر عن حزنه الشديد بأنه لم يكن معروفاً لدى الجمهور مطلقًا على الرغم من تمتعه بموهبة كبيرة، لكنه تمكن مؤخرا من إثبات تلك الموهبة من خلال عدة أعمال قام بالمشاركة بها، بداية من (واحة الغروب).
بدأ رشدي الشامي مشواره الفني التليفزيوني منذ عام 1994 إن لم يكن قبل ذلك، فمنذ أن كان في مرحلة الشباب عشق رشدي الفن والتمثيل وبرع فيه وكان يثبت موهبته في كل مسرحية يقوم بها، ويمكنه أن يقوم بعدة شخصيات في الوقت نفسه بكل سهولة، كانت بداية ظهور رشدي الشامي على شاشات التليفزيون من خلال مسلسلي (بوابة المتولي، وهى عندما تحب) وظهر في الأخير بدور صغير جداً، ثم شارك بعد ذلك في العديد من المسلسلات المصرية بأدوار ذات مساحة ضئيلة جداً، ولكنه لم ييأس وظل يبحث عن الفرصة الحقيقية، فظهر عام 1999 في مسلسل (حلم العمر كله) بطولة دلال عبد العزيز، ثم شارك بعد ذلك بدور ذو مساحة أكبر في مسلسل (أوراق من مجهول) بطولة نبيل الحلفاوي، ثم شارك بعد ذلك النجمة بوسي في مسلسل (رمانة الميزان)، لتستمر محاولات رشدي الشامي المتكررة ليحصل على حب الجمهور المصري، ولكن حتى هذا الوقت لم تكن مساحات الأدوار كافية ليصبح معروف لدى الجمهور.
بدأ رشدي الشامي يصبح وجهاً معروفاً لدى الجمهور المصري بعد ظهوره الهام من خلال دوره في المسلسل الكبير (واحة الغروب) بطولة النجم خالد النبوي والنجمة منة شلبي والنجم الكبير سيد رجب، وظهر رشدي في دور شيخ في إحدى القبائل البدوية الموجودة في الواحة، وبرع في تقديم الشخصية، حتى بدأ الجميع يتساءل عن هذا الممثل الرائع الذي تمكن من أداء الدور بشكل كبير، ليفاجئ رشدي الجمهور بكونه قد بدأ التمثيل منذ أكثر من عشرين عاماً، إلا أنه لم يحصل على الشهرة إلا في وقت متأخر.
في عام 2018 بدأ عرض الجزء الثاني من المسلسل العائلي (أبو العروسة) بطولة النجم سيد رجب والنجمة سوسن بدر، وأطل علينا رشدي الشامي خلال أحداث الجزء الثاني، كواحد من أصدقاء (عبد الحميد) الذي لعب دوره سيد رجب، ويعيش في إحدى القرى ويعمل في الزراعة، وتربط عبد الحميد و (حسن) الذي قدمه رشدي الشامي علاقة صداقة قوية منذ الصغر، ويظهر حسن في حياة عبد الحميد كعون له على مواجهة مشاكله، ويعمل عبد الحميد على مساعدة حسن فيما يواجهه من مصاعب بسبب أبنائه، ولفت رشدي الشامي الأنظار إليه من خلال الكوميديا التي أضافها ببراعته على الدور دون المبالغة بها، وكذلك كان لافتا جدا عبر إطلالته المهمة في مسلسل (ختم النمر) الذي حاز على اهتمام المصريين بسبب موضوعه الجيد وفكرته المميزة، وبرع الفنان رشدي الشامي في تقديم دور الصعيدي في هذا المسلسل.
وعلى الرغم من أن مساحة الدور لاتتعدى خمسة مشاهد فقط، فقد أطل علينا النجم رشدي الشامي خلال الماراثون الرمضاني 2020 من خلال العمل الأفضل لهذا العام وهو (الإختيار)، والذي شارك فيه كضيف شرف في المسلسل كواحد من شيوخ سيناء وهو (الشيخ حسان) الذي تعاون مع القوات المسلحة للقبض على مجموعة إرهابية، وحصل رشدي الشامي على إشادة من الجمهور أثناء عرض المسلسل على قلة مساحة الدور، ذلك بسبب أتقانه دور الشيخ حسان في مشيته بانحناءة ظهره الواضحة وكذلك في مواجهة العصابة التكفيرية بشجاعة، رغم علمه بأن مقبل على الوقت لا محالة، ومع ذلك لم تهتز عقيدته الإيمانية والوطنية حتى في لحظة إطلاق الرصاص عليه.
وكما قلنا من قبل فإن رشدي الشامي قادم من خلفية مسرحية كبيرة، والمسرح بطبيعته يؤجج الرغبة بالتعرف، فهو يعرض الانفعال ويؤثر على أحاسيس الانسان ومشاعره وإحدي مقومات الشخصية الانسانية في الانفعال والعاطفة، وبما أن الشخصية في المسرح هى إحدى العناصر الأساسية للعرض، فإن للعاطفة والانفعال جانبين مؤثرين على بقية الجوانب الأخرى، والممثل إنسان من لحم، ودم، وفكر، وعاطفة، وانفعال، ومن خلال كل ذلك يجسد هو الآخر الشخصية في عواطفها وانفعالاتها، لهذا وظف (الشامي) كل أجهزة جسده التي تجسد العواطف والانفعالات على شاشة التليفزيون بحرفية المسرح، كما اتضح ذلك جليا من خلال صوته وحركته وإيماءاته وانفعالاته الشخصية، فلا يوجد موقف متخيل لا يحتوي عنده على قدر معين من فعل الفكرة المجسدة (جسديا) عند الشامي، لانه لن تكون هناك أفعال جسدية مخلوقة دون توافر إيمان الممثل الكامل بحقيقة وصدق وجودها، فليس هناك فعل جسدي مجرد من الرغبات والطموحات والأهداف والمشاعر التي تبرز الفعل كما كان ولازال يأتي دوما في أداء الفنان القدير رشدي الشامي .. متعه الله بالصحة والعافية، وأطال في عمره كي يجلب لنا دوما المتعة والبهجة.