كتب : محمد حبوشة
ليس بالضرورة أن يجيد الممثل الدرامي فن الكوميديا والتراجيديا على حد سواء، يكفي أن يكون بارعا في أحدهما، أما لو كان بارعا في الاثنتين فإنه يصبح ممثلا استثنائيا، وهذا قليل جدا حتى على مستوى العالم، أما أن يحدث لدى الممثل تحول كأن يشتهر كوميديان ثم يتحول بعد سنوات إلى ممثل تراجيدي أو العكس، فهذا أمر محفوف بالمخاطر بلاشك، ولا يغامر بذلك إلا ممثل يثق بنفسه ولديه الموهبة الكافية، لأن الكثير فشلوا في أول قرارهم بالتحول، لكن أن نرى ممثلا يؤدي الكوميديا والتراجيديا في آن واحد وعبر الموسم الدرامي نفسه فتلك تعد قدرة فريدة، إلا أنها كانت حالة اسثنائية عند الممثل الكوميدي (محمد ثروت) الذي لعب دورا كوميديا في (فارس بلاجواز) ثم بدا غارقا في التراجيديا في ذات الوقت، وبرع في أداء دوره في مسلسل (بين السما والأرض) على نحو احترافي يشهد له بالكفاءة، وكأنه نشأ وتدرب طويلا على أدوار التراجيديا.
ولأن تعد التراجيديا شكلا من أشكال العمل الفني الدرامي الذي يهدف إلى تصوير المأساة في الأعمال المسرحية أو الأدبية، ويعود أصل الكلمة إلى اليونانية الكلاسيكية، وتعني حرفيا أغنية الماعز، وذلك نسبة إلى طقوس مسرحية ودينية، وسميت بهذا الاسم لأن العروض المسرحية من نوع التراجيديا دائما ما كانت على شكل أغان أو طقوس دينية، وتنتهي بذبح ماعز كرمز للمأساة أو النهاية الحزينة، فهكذا كان (محمد ثروت) في تجسيده لشخصية (جلال أبو الوفا) على مستوى المأساة التراجيدية والنهاية الحزينة، ولعل رهان المخرج (ماندو العدل) كان ذكيا في هذا الاختيار لممثل كوميدي مثل (ثروت)، عندما رأى أن ملامحه هى ذاتها ملامح (جلال أبوالوفا)، المواطن المصري البسيط الذي يمتلك حلم، لكن حظه السيئ أنه خلق في هذا العصر المادي المليئ بالأشرار، الذين سرقوا حلمه، فالشخصية نموذج عن سرقة الحلم.
ولأن التراجيديا عموما تعمل على عرض أحداث من الحزن ونتيجة مؤلمة وحزينة في النهاية، ووفقا لأرسطو أيضا، فإن هيكل العمل التراجيدي لا ينبغي أن يكون بسيطا بل ينبغي أن يكون معقدا وأن يمثل الحوادث التي تثير الخوف والشفقة، فهكذا كان محمد ثروت مع شخصية (جلال أبو الوفا)، حيث نظر هنا إلى التراجيديا على أنها تتفوق على الكوميديا، وكما معلوم فإن التراجيديا تدور حول أحداث حزينة، بينما تدور الكوميديا حول أحداث سعيدة، وتهدف الكوميديا إلى تسلية القراء أو الجمهور، لكن التراجيديا – في معظم الحالات – تعلم بعض الدروس المهمة في الحياة، عن طريق إثارة الشعور بالشفقة والرعب، لهذا فقد بدت التراجيديا لدى (ثروت) في (بين السما والأرض) أكثر خطورة ومبنية بعناية أكثر من الكوميديا.
صحيح أنه يفترض على الفنان أن يؤدي الأدوار كافة، سواء كوميدية أو تراجيدية، شريرة أم خيرة، لكن ليس لكل فنان قدرة على تقمص التراجيديا والكوميديا، لأنه يحتاج كاريزما تؤهله لأداء الشخصيات كافة، وعليه دائما أن يصدق ما يؤديه ويعيش الحالة بواقعية، سواء كوميدية أو تراجيدية، بحيث يقتنع الآخرون بشخصيته ويصدقونه لأن التمثيل، بكل بساطة، هو عدم التمثيل، ووحده الممثل المحترف (محمد ثروت) يعرف كيفية إيصال الشخصية بشكل مناسب إلى الجمهور بعد أن يتقمصها جيدا ويعيش تفاصيلها على نحو أكمل، تماما كما فعل في تجسيده لشخصية (جلال أبو الوفا) من لحم ودم في مسلسل (بين السما والأرض).
ربما أحب (محمد ثروت) الكوميديا الهادفة والأعمال التي يقدمها دائما لا تستخف بعقول الناس، فلا يقدم أي فكرة ابتزازية أو تهريجا، بل لابد أن تحمل شخصياته رسالة معينة، وتستوفي الشروط والقيمة الفنية والإنسانية والكوميدية، فهو في النهاية يعبر صراحة عن رأي الناس ليسمعوا لغتهم وقصصهم ويترجم أفكارهم، لكن ما ظهر لي أنه يتعامل مع المواضيع التراجيدية بجدية أكثر، وعلى الرغم من أنه يفضل معالجتها بطريقة كوميدية في جميع الأحوال، إلا أنه هذه المرة حين لعب شخصية (جلال أبو الوفا) اتبع منهجا مغايرا فقد ابتعد تماما عن الكوميديا وركز في التراجيديا إلى حد كبير، فجاء دورا محوريا في المسلسل ومؤثرا للغاية في نفوس مشاهدي هذا المسلسل رغم أنه تم تصوير غالبية مشاهده في غرفة مغلقة.
أبدي الفنان (محمد ثروت) سعادته بردود الأفعال التي وصلته حول دوره في مسلسل (بين السما والأرض) فور انتهاء حلقاته منتصف رمضان الماضي، وأشار إلى أن هناك الكثير من الممثلين والمخرجين هنأوه بالدور، وتقديمه لدور تراجيدي، بعيدا عن ردود الأفعال التي وصلته من الجمهور وتصدر أحد مشاهد العمل (ترند) تويتر وفيسبوك ما أسعده للغاية، إلا أنه يوضح أن التصوير في لوكيشن ضيق يشبه المصعد صعب جدا، خاصة مع شعور الممثل بالضغط نظرا لضيق المكان، هو ما جعل التصوير صعبا للغاية، خاصة أن (ماندو العدل) المخرج كان يقوم في بعض الأحيان بفصل التكييف عن اللوكيشن ليزيد شعور الممثلين بالضغط، ما أسهم في خروج شخصية (جلال أبو الوفا) بشكل واقعي كما شاهدناها.
محمد ثروت يلفت النظر إلى أنه حين عرض عليه الدور وجده لشخصية مركبة وغير سوي نفسيا، وهو الأمر الذي أخافه في البداية، لكنه استفز الفنان الذي بداخله، واعتبره نوعا من التحدي، ليخرج الدور بهذا الشكل الذي نال إعجاب الجمهور، خاصة أن المسلسل حافظ أيضا على الحس الكوميدي الذي ظهر في الفيلم، فطغت بعض المشاهد الكوميدية على الموقف، وهو أمر طبيعي في مثل هذا الموقف، وحافظ أيضا على وجود بعض الشخصيات، مثل المجنون الهارب المتسبب في أكثر المواقف الكوميدية، والذي مثل دوره بطريقة تراجيدية (محمد ثروت)، والخادم التي تحول إلى خادمة جسدت دورها ندى موسى، والنصاب الأرستقراطي الذي مثل دوره محمد لطفي، والشخص العجوز الحكيم الذي قام بدوره أحمد بدير، وشخصية الممثلة التي جسدتها كل من سوسن بدر ونجلاء بدر، والمرأة الحامل التي مثلتها نورهان.
أستطيع القول أن أغلب طاقم العمل قدم أداءا جيدا تميز في بعض المواقف دون الأخرى، ولكن برز 3 ممثلين هم (محمد ثروت ومحمود الليثي وندى موسى)، وخاصة محمد ثروت الذي استطاع في هذا المسلسل الإفلات من قيود الأدوار الكوميدية التي اشتهر بها، وقدم أداء تراجيديا أثر في المشاهدين، فكان دور جلال أبو الوفا هو تذكرة خروجه من سجن الكوميديا.
ورغم أن المسلسل 15 حلقة لا غير فإنه من وجهة نظري لم يستطع الفكاك من فخ لحظات الملل، وللغرابة فإن المشاهد المملة لم تكن داخل المصعد المغلق قليل الأحداث، بل كانت في المشاهد التي تدور خارجه والتي كانت ضعيفة، سواء من الناحية التمثيلية أو الحوارية، فقد أتى تمثيل كل الشخصيات باهتا وغير مؤثر، وعلى رأسهم (درة ومصطفى درويش)، بالإضافة إلى أن كثرة الغموض أدت إلى إفراغ الحوار من معناه تماما.
سقطة أخرى للمسلسل تمثلت في السائق المبتذل الذي كان من المفترض أن يوصل أسلاك المصعد للعمارة، فقد أتت مشاهده سخيفة ومفتعلة ومملة للغاية، وكان من الممكن إظهار الفساد واللامبالاة والبيروقراطية بصورة أكثر إمتاعا، كذلك وقع المسلسل في فخ تسطيح الصراع بين العلمانية والتشدد الذي لا يتوانى عن فعل أي شيء حتى لو كان التفجير بدون إبداء أسباب حقيقية وراء اختيار هذا المكان تحديدا، خاصة أن (الشيخ) الذي كان وراء هذا التفجير هو شخص معروف إعلاميا، أيضا قدم المسلسل عدة شخصيات نمطية أخرى، مثل الرجل الحكيم الذي لا يفتح فمه إلا لإلقاء موعظة هنا أو هناك، رافضا بيع المكتبة وتحويلها إلى مركز لألعاب البلاي ستيشن، في رمزية لانتهاء عصر الثقافة والقراءة.
ونقطة أخرى تزيد من ضعف الحبكة الدرامية تتمثل في أنه ما يفرق بين العملين الفنيين (الفيلم والمسلسل) ما يزيد على 60 عاما، لذلك كان من الضروري إجراء تغييرات على السيناريو، حيث حافظ كاتب السيناريو (إسلام حافظ) على شخصيات العمل الأصلي قدر الإمكان، مع تغيير ما يلزم ليلائم العصر الحالي ويتناسب مع قصته، فالخيط المشدود غير المرئي بين بعض أفراد المصعد كان من الواجب وجوده من أجل إثراء زمن الحلقات وإظهار التاريخ الشخصي لأبطال العمل، وهو ما لم يوجد بالطبع في العمل الأصلي، حتى أن العمل الأصلي لم يذكر أسماء الشخصيات إلا شخصية الممثلة الشهيرة.
ويبقى أجمل مافي هذا العمل على قدر الملاحظات السلبية التي ذكرتها أنه ظهر في تتر المسلسل إهداء إلى زمن وموسيقى بليغ حمدي، وهو ما يظهر بالطبع في شخصية فيلسوف المصعد الذي يظهر من تاريخه الشخصي حبه الشديد لبليغ وموسيقاه، حتى أنه سمى ابنه الوحيد على اسمه، كما أن أسماء الحلقات كانت كلها على أسماء أغاني بليغ، وتبدو الإضافة الحقيقية لذكرى بليغ حمدي في المسلسل كانت الموسيقى التصويرية المأخوذة عن ألحانه، وأغانيه التي رافقت مشاهد بعينها، مثل (أعز الناس) لعبد الحليم حافظ، وأغنية (فات الميعاد) لأم كلثوم.
حاول المخرج (ماندو العدل) الفكاك من ضعف السيناريو، حيث جعل نهاية المسلسل تختلف عن نهاية الفيلم، ففي الفيلم قبض على العصابة وأنقذت المطافئ الأفراد المحبوسين، وحاول كل من الحرامي والمتحرش أن يعدلا سلوكهما ولكنهما فشلا في ذلك، ولكن على العكس من ذلك فالمسلسل ينتهي نهاية مأساوية ربما تتناسب مع عصره، فالقنبلة تنفجر على سطح العقار مسببة حريقا يصل إلى لوحة الكهرباء ويفصل المصعد ويسقط سقوطا حرا بلا فرامل، وقد نجح المخرج (ماندو العدل) في أنه اختار هذه النهاية لأبطاله بعد أن كشفت كل شخصية مكنونات قلبها وأصبحت عارية أمام نفسها وأمام الآخرين، وكشفت أيضا الحقائق التي حاولوا إخفاءها ومداراتها لوقت طويل، فأصبح من الصعب عليهم العيش بهذه الحقائق أمام هؤلاء الأشخاص وأمام أنفسهم، أو ربما كان السقوط الحر هو سقوط للمجتمع نفسه من وجهة نظره الشخصية على مابدا لي في تلك النهاية.