القاهرة 30 أهدته شادية لسعاد حسني، وبسببه كاد (أبوسيف) أن يهاجر!
* مخرج الفيلم ظل 20 عام يقدم الفيلم للرقابة وهى ترفضه
* نجيب محفوظ رفض التصريح بسيناريو فيلمه عندما تولى الرقابة
* فاطمة رشدي رفضت الظهور فى الفيلم كضيفة شرف
* صلاح أبوسيف حصل على 2000 جنية كأجر عن الإخراج، والضرائب طلبت منه 10000 جنية.
* نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس ومصطفى محمود والقط يكتبون عن الفيلم
كتب : أحمد السماحي
نحيي هذه الأيام الذكرى العشرون لسندريلا السينما المصرية (سعاد حسني) التى رحلت عن حياتنا فى مثل هذه الأيام وبالتحديد يوم 21 يونيو 2001، كما نحيي أيضا الذكرى الـ (25) لرحيل رائد الواقعية في مصر مخرجنا الكبير (صلاح أبوسيف) الذي رحل يوم 23 يونيو 1996 .
وبهذه المناسبة نقدم واحدا من أشهر أفلامهما معا وهو (القاهرة 30) الذي يعتبر واحدا من كلاسيكات السينما المصرية، والمأخوذ عن رواية الأديب العالمي نجيب محفوظ (القاهرة الجديدة) التى كتبها عام 1938 ولم تنشر إلا عام 1945، وبدأ اهتمام (صلاح أبوسيف) بالرواية منذ صدورها فى الأسواق، وحاول إخرجها مرارا، ولكن الرقابة كانت ترفض فهى تعبير عن فترة من أخصب الفترات في تاريخنا المعاصر من الناحية الفكرية كما أنها تعبير عن مأساة التطلع الطبقي، ولقد رفضتها الرقابة قبل ثورة يوليو 1952 لأنها تكشف عن عفونة الوضع الاجتماعي وتنذر بانهياره، كما رفضتها بعد الثورة لبشاعة تصرف شخصياتها.
أبوسيف والرقابة
عن رفض الرقابة قال مخرجنا صلاح أبوسيف فى حوار له مع المخرج هاشم النحاس: (حدث أن جاء نجيب محفوظ رئيسا للرقابة، وتصورت أنها فرصتي لتمرير الفيلم لكني فوجئت برفضه أيضا، وعندما سألته عن السبب قال أن أخلاقه لا تسمح له بالموافقة على موضوع يخصه سبق الاعتراض عليه.
وعندما تولى (عبدالرحيم سرور) إدارة الرقابة عام 1964 تقدمت للتصريح بإجازة السيناريو مرة أخرى، فسألني عن سبب رفض السيناريو، فذكرت له أن الاعتراض بسبب التعرض لوزير يقيم علاقة مع زوجة موظف فى مكتبه، فوجئت بموافقته على السيناريو وسعدت جدا).
اكتفى الفيلم بتقديم شخصية واحدة من الشخصيات الرئيسية الثلاث التى تناولتها الرواية، وأسقط تماما شخصية اليميني المتدين، وقلص دور شخصية الوطني اليساري، وركز على شخصية (محجوب) الانتهازية لإبراز ما وصل إليه المجتمع المصري من فساد وفقر وفوارق طبقية شاسعة في الثلاثينات.
شادية تهدى سعاد الفيلم
بعد موافقة الرقابة على السيناريو بدأ (صلاح أبوسيف) يختار أبطال فيلمه، فوقع اختياره على (شادية) نجمة فيلمه الشهير (لوعة الحب) لتجسيد شخصية (إحسان شحاته)، حيث أنها قدمت أداءا رائعا من قبل في فيلمي (اللص والكلاب، والطريق) لنجيب محفوظ، وسعدت (شادية) جدا بالدور، وبالنقلة التى سيحققها لها، لكنها بعد أيام من الموافقة اكتشفت أن حلمها فى الإنجاب سيتحقق، حيث أخبرها الطبيب المختص بالخبر الذي تنتظره كل إمرأة، فسعدت جدا بهذا وأعادت السيناريو إلى مخرجه.
تردد سعاد ومظهر ورفض فاطمة
فكر (أبوسيف) وبعد فترة هداه تفكيره فى الاستعانة بالنجمة (سعاد حسني) لتلعب دور البطولة، مع نجوم الفيلم الجدد (حمدي أحمد، عبدالعزيز مكيوي، أحمد توفيق)، حيث كان اسمها فى هذه الفترة مهما فى مسألة التوزيع الخارجي للفيلم، لكنها رفضت في البداية نظرا لقلة الأجر المعروض عليها عما تستحقه فى نظرها بالقياس إلى زميلاتها من النجوم، وبعد محاولات عدة وافقت على بطولة الفيلم.
وإذا كان تردد (سعاد حسني) راجع لقلة الأجر، فكان تردد النجم الكبير (أحمد مظهر) راجع إلى أنه ليس البطل المطلق للفيلم، حيث اعتبر دوره ليس دور البطولة، وقصيرا بالقياس بأدوار الشباب الجدد.
كما رفضت النجمة الكبيرة (فاطمة رشدي) ظهورها كضيفة شرف في الفيلم حيث كان من المقرر أن تقوم بأداء دور (غادة الكاميليا) فى أحد مشاهد الفيلم، لكنها اعتذرت فأسنده المخرج للنجمة الجديدة وقتها (سهير المرشدي).
سعاد تتكلم
بدأت سعاد حسني مرحلة جديدة من خلال هذا الفيلم، أكدت فيها أنها ليست مجرد نجمة وإنما هى أيضا ممثلة موهوبة، وتقول سعاد حسني: أن دور (إحسان شحاته) كان بالفعل دورا صعبا ومعقدا، لأنه بعيد عن شخصيتي تماما، وأنا أبذل جهدا كبيرا في تخيل سلوك الشخصية وحركاتها أثناء قراءة السيناريو، وكلما كانت الشخصية بعيدة عن شخصيتي الحقيقية وعن الواقع، كلما كان الجهد الذي أبذله في تخيلها أكبر، ومن هذا النوع من الشخصيات (إحسان شحاته) والفتاة الصغيرة في فيلم (صعيرة على الحب).
الصعوبات فى اعداد القصة
صرح (صلاح أبوسيف) عن الصعوبات التى واجهته فى إعداد القصة قائلا: أولها أن الصراع الأيديولوجي فيها غير ظاهر فى صوره، فكان علينا منذ كتابة السيناريو أن نبرز هذا الصراع الذهني في حركة وأحداث ظاهرة يمكن تصويرها، والصعوبة الثانية أن (محجوب) بطل القصة ليس شريرا عاديا، وإنما هو يتصرف بناء على فلسفة، والخوف فى هذه الشخصية بالذات أن تتحول إلى شخصية الشرير المعهودة من نوع (جعلوني مجرما).
تعديلات الزرقاني
قام السيناريست الكبير(علي الزرقاني) بتعديل السيناريو الذي كتبته (وفية خيري) والكاتب الكبير (لطفي الخولي)، حيث استغرق ذلك حوالي 12 يوما حذف خلالها الكثير من المشاهد واختصر الحوار، وأهم ما لاحظه من إشكالات فى القصة الأصلية أن شخصياتها لا تلتحم التحاما دراميا، حيث نراهم فى البداية معا، ثم يفترقون كل منهم في طريقه دون أن يؤثر أحدهم فى الآخر.
والإشكال الثاني أن القصة تفتقر إلى شخصية محبوبة يشاركها الجمهور أفكارها ويتمثل قضيتها، والإشكال الثالث سلبية شخصية (علي طه)، وحل الإشكال الأخير هو حل للإشكال الثاني أيضا فتحويل (علي طه) إلى شخصية إيجابية يجعل منه شخصية محبوبة، وقد أبرز شخصيته، وطورها أكثر مما هى عليه فى القصة حتى تصبح ندا لشخصية (محجوب) البطل بل وتنازعها البطولة.
أحداث الفيلم
تدور أحداث فيلم (القاهرة 30) حول (محجوب عبد الدايم)، الشاب الفقير الوافد من الصعيد، الذي يحيى حياة مزرية في القاهرة، يتعرف على ابن قريته (سالم اﻹخشيدي) الذي يطلب منه أن يساعده على الحصول على وظيفة، فلا يعرض عليه فقط وظيفة جيدة في الوزارة التي يعمل فيها (سالم)، بل يعرض عليه كذلك أن يتزوج من (إحسان شحاته) عشيقة (قاسم بك) على أن يزورها قاسم بك مرة واحدة كل أسبوع.
كبار الكتاب … وآراء نقدية
كتب الدكتور (مصطفى محمود) في روزاليوسف عام 1966 مقال عن الفيلم جاء فيه: كل لقطة مدروسة غنية بالتفاصيل والرموز الموحية، من الممثل الرئيسي إلى الخلفية البعيدة وراءه، إلى عابري السبيل الذين يمرقون فى الكادر لحظة ثم يختفون إلى الإعلان الملصق مصادفة على عمود النور، إلى الأسطوانة التى تدور في بيت الجيران، حروف سينمائية منتقاة بعناية لتؤلف اللغة والمعنى والجو المطلوب لتصل بالمتفرج إلى غاية الإقناع.
أما الأديب والكاتب (إحسان عبدالقدوس) فكتب في خواطره الفنية بأخبار اليوم قائلا: القاهرة 30 فيلم ممسرح، أو مسرحية مفلمة، فالكاميرا معظم الوقت كانت في مقاعد المتفرجين، والأداء التمثيلي أداء مسرحي، والديكورات أغلبها مسرحية، وهذا ليس عيبا إذا كان صلاح أبوسيف قد تعمده، فإن أحد اتجاهات الموجة السينمائية الجديدة يقترب كثيرا من المسرح.
وفى الحديث المنشور بالكواكب يوم 18 أكتوبر عام 1966 تنقل لنا الكاتبة (صافيناز كاظم) رأي نجيب محفوظ فى الفيلم إذ يقول لها : أرأيت كيف كان الفيلم هادفا بكل أناقة، تجربة هذا الفيلم نقطة إثبات فى النقاش بأن العمل الفني الهادف لا يعني إلغاء الجمال أو المتعة أو البلاغة منه.
وفى مجلة (آخر ساعة) كتب الأديب (ثروت أباظة) قائلا: نجح الأستاذ صلاح أبوسيف وكاتب السيناريو وكاتب الحوار فى اختيار الخط الذي يضعون عليه قصتهم السينمائية، فالسيناريو يسير في فنية، والحوار مكتوب بذكاء، والشخصيات مرسومة في دقة، والجو العام للفيلم متبلور، لم ينس المخرج حتى الإعلانات التى كانت سائدة فى هذه الفترة.
ورغم إشادة كثير من النقاد بالفيلم يأخذ الدكتور (عبدالقادر القط) على كما جاء (روزاليوسف): الميل إلى المبالغة والحدة في رسم الشخصيات وتصوير الأحداث، كما فى حدة سقوط محجوب وندالته، والوطنية الزاعقة لـ (علي طه) والرموز الجنسية شديدة الوضوح مثل البريمة تخترق غطاء الزجاجة، أو القرنين فوق رأسي محجوب، بالإضافة إلى الكلام المكشوف دون خجل عن العلاقة المشينة لأحسان بالعشيق قاسم بك، كل ذلك أفقد الفيلم الرقة الواجبة فى العمل الفني.
أبوسيف والهجرة من مصر
عرض الفيلم بمهرجان كارلوفيفاري عام 1966، ونال في مسابقة الأفلام القومية التى أجرتها الجامعة العربية عام 1967، سبع جوائز أولى وهى جوائز الإنتاج، والإخراج، والقصة، والسيناريو، والتصوير، والديكور، والتمثيل، وكادت الجائزة التى حصل عليها من الجامعة العربية أن تسبب له كارثة أدت إلى تفكيره – كما ذكر هو – فى الهجرة وترك البلد، حيث كان فى هذا الوقت يجري حساباته مع الضرائب، ولم تكن الضرائب تعامل مهنة الإخراج كغيرها من مهن السينما، وإنما كانوا يعتبرونها أعمالا تجارية، وحسبوا الضرائب على هذا الأساس فقدروها بعشرة آلاف جنيه.
وبينما كان (أبوسيف) يحاول اقناعهم بظلم هذا التقدير وعدم واقعيته، نشرت الجرائد أن فيلم (القاهرة 30) حصل من الجامعة العربية على جوائز قيمتها خمسون ألف جنية، واعتبروني حصلت على هذا المبلغ، ومن ثم نظروا إلى تظلمه باستخفاف، واعتبروا العشرة آلاف جنية المطلوبة منه أقل مما يجب، بينما كان ما يخصه من جوائز الجامعة العربية هو خمسة آلاف جنيه هى قيمة جائزة الإخراج.
واضطر بناء على نصيحة الأصدقاء أن يلجأ إلى الوزير (عبدالعزيز حجازي) وقتها يشكو له الوضع، ويهدد بترك مصر لأنه لا يستطيع مواصلة الحياة إذا كان سيدفع عشرة آلاف جنيه ضرائب فى الوقت الذي كان أجره عن إخراج الفيلم ألفي جنية، وتدخل الوزير بالفعل وتعدلت الضرائب وتمت التسوية.
الليثي والقاهرة 30
الإعلامى المتميز (عمرو الليثي) يروى كيف تعاون عمه المنتج (جمال الليثي)، مع المخرج (صلاح أبو سيف) فى هذا الفيلم، حيث يقول: كان الأستاذ (صلاح أبوسيف) قد حضر أحداث الفيلم فى مطلع الثلاثينيات، واختار له اسم (القاهرة 30)، وهى فترة حكم إسماعيل صدقى باشا، التى ألغى فيها الدستور وألغى مجلس النواب وحكم مسنوداً من القصر والاحتلال الإنجليزى، ونكّل بكل أطياف القوى الوطنية وسلم البلد إلى حياة الرذيلة والفساد، وكان من الطبيعى أن تقوم ضده الثورات وتحاربه وتندد به، وكان المشهد الأخير من (القاهرة 30) والمنشورات التى تتطاير فوق الرؤوس فى محطة مصر شيئا واقعيا وطبيعيا جدا لكى ينهى به المخرج الفيلم.
وأضاف: (صلاح أبوسيف) أعد المنشورات وطبعها فى مطبعة المعهد العالى للسينما، ثم نقلت إلى مكان التصوير لتنفيذ المشهد ولينهوا تصوير الفيلم، وبدأوا يجهزون للعرض، وذات يوم، فوجئ الأستاذ (جمال الليثي) بتليفون من وزير الثقافة وقتها، الأستاذ (سليمان حزين) يستدعيه إلى مكتبه على عجل، وما إن ذهب إليه وجلس أمامه حتى سأله بلهجة مفزوعة ووجهه ملىء باللهفة: (إيه حكاية المنشورات اللى بيقولوا إنك طبعتها ووزعتها فى باب الحديد؟)، وشرح له أن المنشورات التى يقصدها مطبوعة فى معهد السينما، لكى يصورها الأستاذ (صلاح أبوسيف) فى مشهد من مشاهد فيلم (القاهرة 30)، وهو فيلم قطاع عام ومصرح به من الرقابة، وعبارات المنشور الذى يتحدث عنه مجازة من الرقابة وتتلاءم مع أحداث القصة التى تجرى أحداثها فى أوائل الثلاثينيات ولاعلاقة لها بهذه الفترة، وعرض عليه أن يذهب معه لكى يرى المشهد فى ختام الفيلم، وذهب معه فعلا ثم عادا إلى مكتب وزير الثقافة مرة أخرى ووجده يتصل برقم تليفون معين وسمعه يتحدث إلى الرجل على الطرف الآخر لكى يشرح حكاية المنشورات وطبيعة وجودها فى فيلم (القاهرة 30)، وكما استشف الأستاذ (جمال الليثي) من الحوار فإن الرجل على الطرف الآخر كان (صلاح نصر)، مدير المخابرات وقتها.