كتب : محمد حبوشة
(فارس الأغنية العربية) هو لقبه الرئيسي.. وإلى جانبه أطلق عليه العديد من الألقاب مثل (رائد الأغنية الحديثة.. شاعر وصاحب الألف أغنية.. مهندس الأغنية المصرية والعربية.. صاحب المدرسة الرومانسية فى الأغنية.. شاعر الرومانسية.. ملك الرومانسية.. شاعر الحب والحرير.. ساحر الوجدان.. صاحب أرق كلمة فى أغانينا العاطفية.. رائد وعملاق الأغنية الشعبية.. جواهرجى الكلمة.. موسيقار الكلمات.. رسام الكلمات.. ملك الحروف والكلمات.. أبوالواقعية فى الأغنية).
تلك الألقاب وغيرها أطلقت على الشاعر الغنائي عذب الكلمات رقيق المشاعر (مرسي جميل عزيز)، الذي برع في كتابة القصائد والموشحات والمواويل الشعبية، والأغاني بمجالاتها الكثيرة وبتنوع وتوسع كبيرين، وأضاف إلى ألوانها ومناحيها وأشكالها الجديد (الرومانسية، العاطفية، الشعبية، الوصفية، الدينية والصوفية) فضلا عن (الوطنية فى حب مصر، و التغنى بجمال مصر)، ثم (أغانى البيت والروابط الأسرية والخطوبة والأفراح، أغانى الأمل والتفاؤل والشباب والبهجة والمرح)، بجانب كتابته للشعر والأغنية كتب (عزيز) ألوانا أخري من (الأوبريت الغنائى والصور الغنائية، والقصة القصيرة، والقصة السينمائية، والمعالجات السينمائية، وسيناريوهات بعض الأفلام)، كما كتب بعض المقالات الأدبية والنقدية)، وكتب المئات من أبرز أغانى الأفلام المصرية، ولحن كلماتة كبار الملحنين.. وغناها كبار المطربات والمطربين.. وحقق الكثيرون منهم شهرتهم من خلالها.
هو شاعر العربية الوحيد الذى غنى له الخمسة الكبار (أم كلثوم – محمد عبدالوهاب – فريد الأطرش – عبدالحليم حافظ – فيروز)، إضافة لذلك فإنه غير مسار الأغنية، وأول من درس مشاعر البنت المصرية والعربية، وترجم بالأغنية عن إحاسيسها، ومن يدرس أغانيه على امتداد عمره يجد أنه كان بالغ الاهتمام بمشاعرها وبظروفها النفسية، وهو أول من وضع يده على الشعبيات المصرية، ونقلها لنا بشكل مغربل ومنقح، ولقد سعت إليه التجربة الرحبانية، وبعدها عرف (الأخوين رحبانى) كيفية الاستفادة من التراث اللبنانى إن ما قدمه بتنوعه وقيمته يعادل ويفوق كتاب (الأغانى) لأبى الفرج الأصفهانى.
جمعت أغاني (مرسي جميل عزيز) بين ميزتين، كان من الصعب الجمع بينهما، البساطة والرقة فى التعبير من جانب، والأسلوب الشعرى الثرى من جانب آخر.. الكلمة عنده لا تعبر عن معناها فقط، بل فوق ذلك توحى بالعديد من المشاعر والذكريات والخبرات النفسية، كما أن كلماته محملة بالصور اللونية المليئة بالحس والحياة، كلماته تمتاز بأنها تنتمي إلى أسلوب السهل الممتنع بحق، تشعر بأنها تعبر عنك، وخرجت منك وأنت قائلها، وعندما تحاول تقليدها وتأتى بمثل ما أتى.. لا تستطيع أمام كلماته، وهو ما شعرت به وجمهور الحاضرين في الاحتفال بمئويته ليلة أمس في دار الأوبرا المصرية على مسرح النافورة.
حضرت روحه على مسرح النافورة المكشوف في قلب ليلة مفعمة بجو منعش بالهواء الطلق، وبحضور وزيرة الثقافة المصرية الفنانة الدكتورة إيناس عبد الدايم، التي كرمته بدرع وشهادة تقدير تسلمها ابنه اللواء (مجدي)، وحاولت الاحتفالية الإلمام بأبرز سمات هذا الشاعر الكبير الذي حمل لقب فارس الألف أغنية، من خلال شريط يحكي سيرته وأبرز المحطات التي مر بها، كما تم توزع كتيّب عنه في قاعة المسرح، وتم اختيار مجموعة من الأصوات الرصينة لأداء أبرز الأغنيات، مثل (مالك ومالي يا بو قلب خالي، الحلو حياتي وروحي، ليه تشغل بالك، هيه دي هيه، يا قلبي خبي، في يوم في شهر، بتلوموني ليه، بحلم بيك، حبك نار، اسبقني يا قلبي)، إضافة إلى مجموعة غنتها المطربة فايزة أحمد ومنها: تمر حنة، ياما القمر عالباب، ليه يا قلبي ليه، حيران، بيت العز، وكان المطربين نجمات ونجوم الزمن الجميل: (مي فاروق، شيماء ناجي، وأحمد عفت، وليد حيدر ، مي حسن ، شيماء ناجي ، أميرة أحمد) وقد برزت مي فاروق في ثلاثية (سيرة الحب، فات الميعاد، وألف ليلة وليلة)، إضافة إلى إبداعات عازف الجيتار وحيد ممدوح.
في تلك الليلة أدرك محبي مرسي جميل عزيز كم كان رائعا في كلماته السهلة البسيطة، والتي في رأي كثير من النقاد، تمثل المتوسط الحسابي لأحمد رامي وبيرم التونسي، وشيئا من هذا القبيل ترجمه هذا الشاعر الذكي في استخدم الكلمة المحورية في الأغاني بمعنييها العامي والفصيح، أو المعجمي والمتداول، فهو يبدأ بجذب الاهتمام نحو المعنى العامي الذي لا يتجاوز مجرد ذكر الكلمة، ثم هو يبرر الخوف من مجرد ذكر الكلمة بما توحي به الكلمة نفسها من قصة حياة الحب، كل حب، وما في هذه القصة الطويلة من آهات ودموع وأنين، وتوبة، وذوبان، ثم ذوبان وتوبة، وشوق وسهر، وعذاب، وهو أكثر من عبر عن الحيرة النفسية والعقلية معا، والاعتراف بالعجز عن تفسير ما لا يفسر من الوقوع في الحب، والاستمرار فيه، وتحول الحب إلى حياة.
وفي قلب ليلة الاحتفال بمئوية (مرسي جميل عزيز) أدركنا نحن جمهور المستمعين، مصدر تلك الانتعاشة الموجودة في كلمات مرسي جميل عزيز على جناح التركيز الحافل بالمعاني وما صحبه من التجريد الحافل بالتأثيرات فقد واصل خطه طوال رحلته في عالم الأغنية رسم مثل المشاعر بصورة أخرى، وعبارات أخرى، تكاد تصور معنى آخر، ولا تكرر المعنى الذي أجاد تصويره من قبل، وهو يقول إن الشوق يحاول أن يحايل العاشقة (أم كلثوم)، لكن تلك العاشقة تستدعي من عقلها ذكرى العذاب فتخاطب (الشوق) على أنه (العذاب)، أو تخاطبه باسمه عندها وهو العذاب، وهكذا فإن تبدو لنا (ثومة) في الظاهر وكأنها حسمت أو أوشكت أن تحسم قضيتها لكنها سرعان ما تحاول أن تثبت نفسها القادرة على الدلال والانتقام، وهو دلال يمثل ذروة من الحب والذوبان فيه بمداد من كلمات مرسي جميل عزيز التي تلهب المشاعر والأحاسيس.
ولقد أبدعت مي فاروق من بين ممن تغنوا في تلك الليلة بكلمات مرسي جميل عزيز، خاصة في أدائها لـ (سيرة الحب) التي لا تستقيم بدون ذكر الله سبحانه وتعالى فإذا به في لمحة صوفية عارمة يصل إلى ما لا يصل إليه إلا أصحاب القلوب المؤمنة التي ترى قدرة الله جل جلاله في كل شيء، وقد ظهر ذلك الحس الصوفي في أداء (مي) التي جسد – عبر صوتها العذب – روح الشاعر الذي يعبر عن رؤيته لله سبحانه وتعالى في الحب والهناءة والدموع وجرح الحب فلا يجد أمامه إلا أن يكرر لفظ الجلالة مرة بعد أخرى، تعبيراً عن الإيمان واليقين، وتعبيراً عن النشوة والبهجة في الوقت ذاته، وهو يقدم هذا المعنى ليختم به سيرة الحب على نحو ما تنتهي كل سيرة في رحاب الله جلّ علاه.
أما في أغنية (ألف ليلة وليلة) التي لحنها بليغ حمدي للسيدة أم كلثوم من كلمات مرسي جميل عزيز، فقد بلغ الأداء الأوبرالي للفنانين الثلاثة ذروة من ذرى الفن العربي الذي يقدم طرازاً خاصاً من الغناء العربي وعلى جناح صوت (مي فاروق) بدا وكأنك ترى التخت الشرقي وهو يساعد النغمات الصارخة بعطف، وترى النغمات الصارخة وهى فخورة أمام النحت الشرقي بقدراتها الحركية القافزة، ولم لا ؟ فإنها أي الأغنية بكلماتها وحوارها تعبرعن مناسبة خاصة جداً تمثل الليلة فيها ألف ليلة، وهي ليلة تختزل الحياة كلها، إذا ما أراد المستمعون أن يحيوها فإن عليهم أن يبحثوا عن ليلة مثلها، مثل ليلة (مئوية مرسي جميل عزيز) التي كانت زاخرة بالمعاني والأحاسيس، مفعمة بالمشاعر الصوفية التي كانت تتحلق من حولنا معلنة وجود الشاعر بين صفوف المشاهدين الذين ذابوا حبا وعشقا في كلماته الآسرة.