الديفا سميرة سعيد .. ذكاء الاختيار فى (الساعة اتنين بالليل)
كتب : أحمد السماحي
معروف أن سميرة سعيد من المطربات المتجددات والمتطورات فنيا وفكريا وثقافيا، فهي تحاول الابتكار ومواكبة العصر فى مفردات ومضامين الأغنية بجرأة (الديفا) ذلك اللقب الذي بموجبه تحتل مكانة مميزة على عرش الغناء العربي الحديث، وذلك بفضل ما قدمت قديما كل الأشكال والألوان الغنائية (قصائد، ديالوجات غنائية، موشحات، أغنيات طويلة، وقصيرة) وغيرها من أغنيات تميزت بإنصاف السيدات وتظهر المرأه قويه لا يكسرها الرجل أبدا، وهى تتلون بين الحين والآخر للهروب من آلة الزمن، وإرضاء كل الأذواق، وقد منحها القدر مواهب عديدة، فهي إلى جانب جمال الصوت، تمتلك ذكاء الاختيار، ولديها إصرار على البقاء في القمة مهما كانت التحديات، ويرى صناع الموسيقى أنها رغم التقدم بالعمر تغني بروح شابة، وتتحرك بحرية طائر يمتلك ألف جناح.
الميزة، الميزة، الميزة لهذه المطربة هو ذكائها الفني ومواكبتها العصر دون تقديم أي تنازلات، ففي الوقت الذي لم يستطع مطربين كبار جدا يتمتعن بالصوت العذب الرائع مواكبة العصر رغم أسمائهن الكبيرة الطنانة نجد (الديفا) قادرة حتى الآن على جمع الشباب حول جديدها الغنائي وانتظاره، وتبقى حرفيتها في تجددها الدائم، ومحاولتها البحث عن أفكار جديدة ومختلفة، واستماعها الدائم والمتكرر لكل صيحات الغناء فى العالم، واختيار ما يتناسب معها ومعنا، وتقديم ما تختاره فى الوقت المناسب، والأجمل أنها فى السنوات الأخيرة بدأت تقترب أكثر من الأغنيات الاجتماعية التى تناقش من خلالها فكرة أو قضية تتعلق بالمرأة والرجل على حد سواء، رغم انحيازها الكامل للمرأة التي يقع عليها كثير من الظلم والجبروت باسم الحب.
منذ يومين قدمت أغنية جديدة بعنوان (الساعة اتنين بالليل) كلمات الشاعر المتميز (تامر حسين)، وألحان المنتشر هذه الأيام بقوة (عزيز الشافعى)، وتوزيع المبدع (وسام عبد المنعم)، ومن إخراج (نضال هاني)، وتوزيع ديجيتال ساوند، وربما لاحظ الجمهور أن الكلمات تتمتع بالجرأة المحببة المطعمة بالأحاسيس والمشاعر، فضلا عن ملئها بالمفردات العصرية الجديدة التى كتبها (تامر حسين) بشكل بديع ومتفرد، والتى تدور حول سيدة تعاني من الزهق والملل والوحدة، ومن جرح عاطفي أو إنساني، وتريد أن تفضفض مع أحد من أصدقائها، لكن تأخر الوقت وعلمها أنهم نائمين، وعلمها أيضا ما سوف يقولونه لها – (نامي وارتاحي دلوقتي، وهنتكلم بعدين) – جعلها تأخذ مفاتيح سياراتها وتنزل كي تتمشي على النيل.
وكانت الفكرة صائبة فالمشي على النيل، ومقابلة أهل مصر الطيبين فى هذه الساعة المتأخرة، كل هذا سحرها وجعلها تغني لنفسها، مما أثر على نفسيتها وجعلها تصفو، وصالحت نفسها بالأغنية، وعادت إلى بيتها مؤمنة أن بكلمات :
الميزة تصاحب نفسك
تزعل تفرح مع نفسك
تحكيلها فآخر يومك
ليه تشيل حد همومك
ده أحسن ما تكلم حد
لفت نظري في كلمات (تامر حسين) أنه بذكاء شديد لم يوضح حقيقة ما حدث للراوية أو المطربة وهو تقول (قبل لما دموعي تنزل، م الوحدة، وم للي حصلي)، فلم نعرف إذا كان حبيبها جرحها، أم هى حالة نفسية تمر بها، فذكاء الشاعر وبحكم أن الأغنية لا تتحدث عن حالة عاطفية، أنه ترك جملة (م اللي حصلي) للجمهور كل واحد يفسرها بطريقته الخاصة، وحسب مزاجه الشخصي، وجاء لحن (عزيز الشافعي) الذي يتعاون مع (الديفا) لأول مرة، بمقسوم شرقي مليئ بالطاقة الإيجابية والشقاوة، وتشعر بهذا اللحن يتحقق ويتخلق أمامك متخذا أشكالا متنوعة وشديدة الاختلاف، وعبر بالجمل الموسيقية القصيرة التى تزدحم بها المسافات الزمنية اللحنية ازدحاما كبيرا، عن الكلمات بشكل أكثر من رائع.
وفكرة أن ترد (سميرة) على نفسها ككورس كانت موفقة جدا، ولا أدري هل هو المسئول عن نهاية الأغنية التى مزجت بين نهاية اللحن الخفيف الراقص المبهج والآهات الطربية الرائعة التى تؤديها (سميرة) في آخر الأغنية، أم هذه فكرة الموزع (وسام عبدالمنعم) أم فكرة (الديفا) نفسها؟!
أما غناء (سميرة سعيد) فحدث ولا حرج، فصوت مليئ بالشباب والبهجة والأنوثة والشقاوة والدلع المحبب الراقي، تبث طوال غنائها طاقة إيجابية كأنها زهرة تفوح رائحتها بطيب العطر الندي لكل من يستمع إليها، فيسعد بها، لهذا حققت الأغنية نجاحا كبيرا، واقتربت نسب المشاهدة على موقع الفيديوهات الشهير (اليوتيوب) من المليون.
تعتبر سميرة سعيد دولة غنائية مستقلة ذات سيادة، مطرزة بالإبداع، مشغولة بالتجدد والتطوير، ممنوع الاقتراب من أركانها لأنها قائمة على الأصالة الفنية التي تحافظ عليها حتى ولو كانت في ثوب عصري يخاطب ذائقة الشباب من هذا الجيل الذي يجنح بطبيعته نحو الإيقاع السريع، ومن ثم فقد شعرت بأن الأغنية العربية تمر حاليا بحالة مخاض عسير نودع فيها عصرا ونستعد لاستقبال عصر آخر صعب أن نحكم عليه حاليا، ولأنها تدرك أن من ضرائب هذه المراحل الانتقالية أن المستمع العربي محكوم عليه أن تلقى آذان هذا المسكين كل يوم من تفاهات لاترقي إلى مستوى المشاعر الإنسانية، لذا كانت إطلالتها الجديدة في (الساعة اتنين بالليل) واحة أمن وأمان بحيث أسقطت حسابات كل هذا الضجيج الغنائي الحالي الذي كانت بدايته على قلتها موضع تندر وسخرية، ولكنها الآن في ظل اجتياح رهيب أصبحت تشكل القسم الأكبر من الإنتاج الغنائي المصري تحديدا، في وقت نجد فيه تماسكا أكثر فى الغناء العربي خارج الحدود، وتحديدا فى منطقة الخليج.
(الساعة إتنين بالليل) صحوة جديدة تعد من علامات العصر الذي يشير إلى أن الأغنية الفردية قد وصلت إلى أقصى ما يمكن من مراحل التطوير ضمن مفاهيمها الحالية، وأنه لكي تجذب الجمهور إليك لابد من اختراق هذا الوضع بنحت مفاهيم ومضامين جديدة ولغة جديدة للأغنية الفردية، التى انحصرت فى السنوات الأخيرة فى بضعة مفردات ومعان تدور فى إطارها بتكرار ممل قاتل، ومن حيث التلوين الموسيقى والغنائي انحصرت أيضا فى مقامين أو ثلاثة من المقامات العربية، وفى إيقاعين أو ثلاثة من الإيقاعات العربية التى لا حدود لتنوعها ولآفاقها.
الحديث عن حال تراجع الأغنية العربية الآن يطول شرحه!، لكن سميرة سعيد كعادتها تنكأ جراح قلوب المستمعين العرب بإطلالة عصرية قوية على مستوى الشكل والمضمون، مغلفة أغانيها برسالة وهدف لتعيد لنا بين الحين والآخر الثقة في الذائقة السليمة التي تربت على الغناء الشرقي الرصين بسحر حناجر أساطين الطرب الذين خلفوا تراثا يصعب تكراره في أزمنة المهرجانات وهوس الضجيج الموسيقس الحالي الذي يصم الآذان أكثر مما يطربها وينعش قلوبها المفعمة بالحزن والأسى .. تحية تقدير واحترام للديفا التي ماتزال قابضة على جمر الغناء المنعش، جالب البهجة لنا في هذه الأيام الصعبة.