كتب : محمد حبوشة
(الكتاب الجيد يحرر الإنسان الذي يقرأه، أما التلفزيون الجيد فيعتقل الإنسان الذي يشاهده)، تلك العبارة البليغة في مضمونها تصدرت مقدمة أحد الكتب التي تتحدث عن تأثير الدراما والأعمال التلفزيونية على المجتمع وتكوين الذوق العام، فوفقا للدراسات التي أعدها كثير من المتخصصين في الوسط الثقافي وأساتذة الدراما والفنون بمختلف أشكالها، فإن للدراما تأثيرا كبيرا على المجتمع، لما لها من بريق وإبهار يتسببان في جذب الانتباة والسيطرة على العقول في بعض الأحيان، وفي تعريف بسيط للدراما، فإنها انعكاس للحياة الواقعية، ولكن بشكل تشخيصي يؤديه الممثل، لرسم وتجسيد بعض الأشخاص قد يقابلها أو يعيش معها المشاهد في مواقف مختلفة وأوقات متفاوتة، وتهدف إلى إحداث تأثير ونشر رسائل أخلاقية وثوابت راسخة في المجتمعات التي تعرض فيها هذه الأعمال الدرامية، وفي الغالبية العظمى ترسخ الأعمال الدرامية سواء مسرحية أو سينمائية أو تلفزيونية، إلى قيم الخير ونبذ العنف والشر.
ولتلك الأسباب وغيرها فإنه مع انطلاق الشهر الكريم وبداية عرض العشرات من الأعمال الدرامية، يبدأ الجمهور في ممارسة هوايته المفضلة كل عام عبر صناعة وتبادل المئات من النكات المصورة (الكوميكس)، والتي تسخر من تلك الأعمال بلا رحمة، بل يضعون الكثير منها في خانة (الأسوأ) على مستوى القصة و الهدف والرسالة، أما النقاد – وأنا منهم – فقد وقعوا في حيرة من أمرهم إذ استقبلوا من جديد موسم رمضان 2021 الذي يموج بالأعمال التي أصبح من قبيل العيب وصفها بالفنية أو الدرامية، ولا يدري أي منهم كيف يشتبك مع تلك الأعمال، أو كيف يقرأها بأدواته التي عجزت عن فهم هوية هذه الأعمال ناهيك عن تقييمها ما بين الجيد والرديء، وكيف يضعونها في سياقها التاريخي الممتد لسنوات طويلة من الركاكة والافتعال والتمسح بأحد أقدم الفنون وأعرقها؟
ومع تصاعد الأحداث داخل الأعمال الدرامية في رمضان ظهرت بشكل جلى كثير من الخروقات للوثيقة الصادرة قبل ستة أعوام برعاية منظمة الصحة العالمية ونقابتى المهن التمثيلية والسينمائية، والتى تنصح بالبعد عن العنف ضد المرأة والبلطجة والترويج للتدخين والخرافة وتمجيد الجريمة وغيرها من المحاذير التى رصدها أيضا صندوق مكافحة وعلاج الإدمان من خلال وزارة التضامن الاجتماعى، وكذلك المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، الذي لم يتخد موقفا حاسما تجاه انتشار ظاهرة البلطجة بزعم (الجدعنة)، كما جاء مسلسل (ملوك الجدعنة) الذي ناله أكبر قدر من الانتقادات اللاذعة بينما صناعه يصرون على أنهم يقدمون النموذج المثالي لجدعنة أهل الحارة المصرية.
صحيح أنه قد جاءت العديد من الأعمال الدرامية بالمزيد من أعمال العنف، بل وتعاطى المخدرات فى أكثر من عمل، لكن يبقى منها على سبيل المثال لا الحصر مسلسل (ملوك الجدعنة) الذى انتقده الكثيرون بسبب مشاهد العنف المتكررة والمشاجرات والتدخين وتعاطى المخدرات والعنف ضد المرأة المتمثل فى ضرب الزوج لزوجته، بينما المجلس الأعلى للإعلام غائب عن الوعي لايرى أن هذا المسلسل لاينطبق عليه (كوده) الذي ظل يتشدق بها في استهدافه لمسلسل (الطاووس) الذي لايحمل أية مواصفات تسيئ للمجتمع المصري عبر انتهاك القيم والألفاظ النابية، والتعبير عن الحارة المصرية بطريقة استفزازية كما جاء في (ملوك الجندعة) الذي ناله نصيب كبير من السخرية على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث وصفه البعض بـ (ملوك البلطجة) و(ملوك الصياعة) وغيرها من تسميات تليق برداته.
وفي وقت نحاول فيه أن ننسى آثار غبار الحارة المصرية القبيحة التي قمها (ملوك الجدعنة) وتلك لروائح التى تزكم الأنوف بفرط من العفن الذي يعشش في خيال كتاب مسلسلات البلطجة والعنف، يخرج علينا الإعلامي (عمرو أديب) – واثق الخطوة يمشي ملكا – ليبيض وجه (ملوك الجدعنة)، وربما هذا حقه باعتباره واحدا من المنتمين (mbc)، ولكن من غير المنطقي أن (يبلعنا) مسلسل رسخ للبلطجة والعنف والتدخين والمخدرات على هذا النحو الذي جاء يمجد البطلين قائلا: المتأمل لهذا الحوار التليفزيونى يكتشف أننا أمام قامتين فنيتين استطاع كل منهما أن يبرز مدى الحب الذى يكنه الفنانون لبعضهم البعض، من أجل مصلحة صناعة الدراما فى مصر التى تجتذب قاعدة كبير من المشاهدين داخل مصر وبالوطن العربى.
وانتفض أديب قائلا بلغة تقترب إلى التدليس: فى ظل وجود نوع جديد من الدراما هدفها تحقيق المنفعة للمشاهد وليس كونها حربا للتجاذبات لصف ذاك عن ذلك، مما قد يعيدنا إلى مفهوم صناعة الدراما بزمن الفن الجميل كإحدى الرسائل الهامة والقوة الناعمة بمجتمعنا، وهنا نسأله: عن أي تجاذبات تتحدث، وماذا يحتوى (ملوك البلطجة) – وهنا أتعمد كتابة هذا الوصف – من عناصر فنية جاذبة يمكن أن تعيدنا للزمن الجميل، وماهو مضمون رسائل المسلسل غير الترسيخ للبلطجة والعنف والتدخين والمخدرات والإساء للمرأة الزوجة التي يتم إهانتها وضربها.
والطامة الكبرى في كلام (أديب) هو ماقاله بالحرف الواحد: (هذا يعيدنا لكلمات الرئيس السيسى الذى وضع فضيلة الأمانة لتلك الرسائل الدرامية التى يسوقها هؤلاء الفنانون إلى الجمهور أمام الله أولا وضمائرهم)، وهو تحريف فج لكلام الرئيس عن مفهوم الفن الذي يريده الرجل وينادي به من خلال رسائل تحمل قيم وهدف لبناء المجتمع وليس هدمه بتلك النوعية من الملسلسلات التي تدعي نقل الواقع، وهى في حقيقة الأمر تخاطب غرائز فئة من الشباب مازالوا يتطلع إلى نماذج البطل أو الـ (هيرو) على طريقة (أرسين لوبين، وروبن هود، والجوكر)، وتلك نماذج اختفت من السينما الأمريكية الآن ياسيد عمرو!، ومن ثم لست معك في اعتقادك الواهي بأن تلك الهالة التى صنعها كلا النجمين بكواليس هذا المسلسل تطغى بشكل رئيسى على تلك الترهات التى ساقها بعض عاطلى الفن، الذين ارتدوا ثوب (ملوك التريقة).
(ملوك التريقة) ياعمرو يشكلون قطاعا كبيرا من جمهور السوشيال ميديا الذين أصبح دورهم مهم حاليا في النقد والتوجيه والدفاع عن قيم المجتمع التي تنهار جراء صناعة دراما عشوائية ناجمة عن قصة مكررة وأداء يرسخ للعنف باسم (الجدعنة) فابن الحلال الذي يسكن الحارة الشعبية المصرية، على حد تعبير الفنانة سماح أنور: (ما بيشيلش مطوة على فكرة ولا بيحشش، ولا بيستضعف، ولا قليل الأدب، ولا بيشتم البنات والستات علشان هو راجل بقى ولازم نخاف منه وكده ولا حاجة)، وأضافت (سماح): وعن ملوك الصياعة بس السنة دي بييسموها جدعنة، وفكنا بقى من حوار دي نماذج من المجتمع والجو البلدي القديم ده، عايزني أحبه واتعاطف معاه ليه، حتستفيد إيه فهمني؟!!.
لقد كان حوارا استفزازيا بكل معاني الكلمة عندما قال الفنان عمرو سعد إن أكثر ما يثير استفزازي هو النقد الذي نلاقيه أن العمل يروج للبلطجة، مؤكدا في (بجاحة) أنه قدم نموذج للشباب المصري الشهم، وأضاف سعد أن الفنان مصطفى شعبان إدى درس للراجل الل بيعامل سيدة بسوء وأنا قدمت مشهد لمن تعامل بطريقة خاطئة مع إحدى السيدات، وتابع عمرو سعد أن الأم قامت بدورها الرائع قدمت نموذج ونصائح هامة لأبنائها وهى الرضا .. عن أي نموذج يتحدث هذا المأفون في عقله وضميره الخرب في ثنايا مسلسل رديئ، وأي درس قدمه مصطفى شعبان غير ترسيخ مفهوم العنف والإساءة للمرأة المصرية المكافحة .. إنه العبث في عقر داره أن يتشدق ملوك البلطجة بالفضيلة والرسائل الإنسانية في قلب مسلسل لايحمل أي مضمون غير العنف، حتى المواقف الكوميدية التي لجأ لها الممثلين جاءت على جناح ثقل الظل والاستخفاف بعقولنا التي أضنتها مثل تلك الأعمال السيئة.
بطلي المسلسل في حوارهما مع عمرو أديب انتقدا رواد السوشيال ميديا الذين تصدوا بجسارة لتلك الظواهر المنتشرة في الدراما التلفزيونية منذ سنوات في اقتطاع جمل حوارية عشوائية من الأعمال الدرامية ومزجها بصور قائليها، ونشرها عبر الحسابات الرسمية للقنوات الفضائية وشركات الإنتاج ونجوم هذه الأعمال على مواقع السوشيال ميديا، ربما بدأ الأمر كاستراتيجية تسويقية لهذه الأعمال، لكن رواد مواقع التواصل كشفوا عن حقيقة مرة مؤداها أنه مع الوقت تطور الأمر ليصبح هدفا أصيلا لكتاب الدراما أن تحتوي أعمالهم على مثل هذه الجمل الركيكة والمصطلحات الحنجورية والمسجوعة بغية اقتطاعها ونشرها على مواقع السوشيال ميديا، بل إن الأمر امتد إلى الأعمال الكوميدية التي تستقي نكاتها من (الكوميكس) المنتشرة على مواقع السوشيال ميديا والتي يحفظها المشاهد من قبل عرض هذه الأعمال.
وهذا العام ترسخ مفهوم الاعتماد على السجع في الجمل الحوارية الخاصة بالشخصيات الشريرة أو تلك التي تنتمي إلى طبقات اجتماعية دنيا، فنلاحظ على سبيل المثال أن الحوار بمسلسل (ملوك الجدعنة) يتألف بالكامل من شطرات مسجوعة على طريقة كتابة أغاني المهرجانات التي خرجت من المناطق الشعبية والعشوائية، كما لو كان هذا هو تصور كتاب المسلسل عن أسلوب الحوار في هذه المجتمعات، كما نلاحظ أن كل هذه الأعمال لا تقوم على أسس درامية حقيقية، فالشخصيات كرتونية الطابع لا تتوقف عن الثرثرة وإعادة المعلومة على مسامع المشاهد أكثر من مرة بلا هدف، والصراع مفتعل أو تقليدي بين طرفي الخير المطلق والشر المطلق، والنهايات السعيدة تكاد تكون حتمية، فالمشاهد يعرف بشكل مسبق أن بطله الخارق لا شك سينتصر على أعدائه وينكل بهم بقوته الجسدية وذكائه الحاد وكلماته المسجوعة.
ولقد عمد (ملوك الجدعنة) إلى إظهار أهل الحارة منعزلين عن الحياة، ما زالا يعيشان في كهف؛ بعيدا عن تطورات الحياة حولهم، مستخدمين لغة ركيكة، كما انعدمت لديهم الصفات الحميدة لأهل الحارة الأصليين، والتدليل هنا عن غياب الوعي لدى قاطني الحارة المصرية كما تمثل في استخدام المصطلحات، فيظهر (سرية) جاهلا بالتكنولجيا ويشير إلى الفيسبوك باسم (فيستوك)، والموبيل يصفه بـ (المحمول) ووصف الاستوري إلى حالات الواتس، ومن ثم ظهرت شخصية ابن الحارة جاهلا مستغرقا في انعزاله وخالقا مصطلحات خاصة به تفصله عن باقي الطبقات الاجتماعية.
وهذا بالطبع لايعبر عن الحارة المصرية كما ظهرت خلال السبعينيات والثمانينيات، حيث كانت الحارة المصرية حاضرة بقوة ووضوح في الأعمال الفنية ما بين أعمال سينمائية أو تلفزيونية، جسد المجتمع ككل في هيئة حارة تحضر أفراده لتعبر عن توجهات والحالة المجتمعية والثقافية التي وصل إليها المجتمع الأصلي الذي يقطن المناطق الشعبية ويتحدث بلغة أبناء الوطن، وعلى سبيل المثال فإن الحارة الشعبية عند الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة انعكاس للشعب المصري الأصيل بشهامته وجدعنته وبساطته وكافة تفاصيله التي كان يلقي فيها حواراته المدهشة والتي ما زالت حيّة حتى الآن.
فنجد (عكاشة) يخرج من عباءة السيناريست لعباءة المؤرخ، فهو لا يذهب إلى الحوار ليكون لافتا للنظر بل ليحمل رسالة العمل التلفزيوني بكافة تفاصيله وأهدافه وروحه، وعند (عكاشة) الحارة هى أصل المجتمع وروحه وقلبه النابض، واستطاع الكاتب أن يحقق نجاحات ظلت محفوظة في ذاكرة الأعمال الفنية العظيمة.
الحارة المصرية يا سادة كانت تضج بالشهامة والمروءة والجدعنة في الأعمال التلفزيونية القديمة، لكن بدأ بريقها يخفت في الألفية الجديدة، وتفقد يوما تلو الآخر الحالة التي خلقتها ونقلتها بواقعية تقترب من المثالية، إلا أن الحارة مثلها كمثل كافة تفاصيل حياتنا التي تغيرت من النقيض للنقيض، أما الحارة الآن وعلى سبيل المثال في موسم 2021، نجدها في (ملوك الجدعنة) على النقيض تماما، بعيدة عن الواقع في مضمونها، وبعيدة في شكلها الخارجي، وهذا ربما يرجع إلى أن مكان تصوير العمل في لبنان لأسباب تتعلق بالإنتاج، لكن بالنظر إلى روح العمل فشخصية (سرية، وسفينة) نموذجان غاية في السوء والتردي وتحت زعم أنهما تجمعهما الأخوة والشهامة أصبحت لغتهما ليست منفصلة عن الواقع فحسب، بل هي الواقع المزيف نفسه الذي أراده صناع العمل.
ومما سبق يتضح لنا أن الدراما التلفزيونية تعيش خلال المرحلة الحالية أزمة كبيرة، وتتضح هذه الأزمة في الاعتماد على تحديث جودة التصوير والإخراج دون التعرض للسيناريو بشيء من التجديد، ومن الأعمال التلفزيونية التي تخوض الماراثون الرمضاني جاءت بعضها (مهللات) غير ممسوكة بلغة أهل الفن، وأعتقد أن السبب في ظهور الحالة التي خرج بها مسلسل (ملوك الجدعنة) يعود إلى أن هناك ورشة سيناريو تم تكوينها من أجل إخراج الحوار بتلك الطريقة، وبناء عليه ظهر السيناريو والحوار مليئ بالكلمات والجمل التي تصلح لأن تكون تريند، ولكن ليس لإيصال رسالة واضحة ومحددة ومبنية على قواعد وأسس أخلاقية.
وفي النهاية أختتم بقول أحد مستخدمي فيسبوك، في منشورله قائلا: (علموا أولادكم أن هذه الأشكال عمرها ما تنفع تبقى قدوة، علموهم أن الرجولة أدب وأخلاق وكرم وغيرة على أهل بيتهم، علموهم أن الجدعنة فى الرزق الحلال والشغل بإيديك، علموهم إن الجدعنة مش فتحة صدر ولا عوجة لسان!!).