فريدة سيف النصر .. الغجرية التي أسرت قلوب المصريين
كتب : محمد حبوشة
هى واحدة من الفنانات اللاتي يمتلكن أسلوب خاص في الأداء التمثيلي، ما جعلها تحفر مكانة في قلوب الجمهور، سواء في مصر أو الوطن العربي، وربما يرجع ذلك إلى أنها قدرتها المذهلة على إيصال محتوى النص و الانفعال والعاطفة إلى الجمهور وهى في ذلك تقوم بالتصوير المجسد للصورة الذهنية للشخصية على نحو احترافي، وهو عملية أبداع فني تهدف إلى إيصال هذه الصورة على مستوى العلامات البصرية والعلامات السمعية إلى الجمهور ضمن مساحة التلقي الشاملة المتمثلة بالعرض بالعمل الدرامي المؤلف من مجموعة مركبة من النصوص التي تتشكل بنياتها الإرسالية أو الاستقبالية لتنتج الخطاب الدرامي الكامل، والذي يعتبر مجموعة دالة من أشكال الأداء اللفظي والحركي تنتجها أنساق من العلامات السمعية والبصرية التي برعت في تجسيدها طوال رحلتها الطويلة في عالم الفن التمثيلي.
إنها الفنانة القديرة (فريدة سيف النصر) التي لفتت الأنظار إليها مؤخرا في مسلسل (موسى) رغم فشله على المستوى الجماهيري جراء عشوائية السيناريو من ناحية، ومن ناحية أخرى شيفونية الممثل محمد رمضان وتدخله السافر في مجريات الأحداث، لكنها استطاعت النجاة بنفسها من براثن هذا العبث الدرامي الرجيم بعزف منفرد على أوتار شخصية الغجرية (كحلة) عبر أدائها الذي جاء في عذوبة منقطعة النظير تذكرك بدورها الرائع (أصيلة / النعجة) في مسلسل (بدون ذكر أسماء) قبل ثمانية أعوام، وهو ما كان كافيا وقتها بأن تلتفت إليها شركات الإنتاج وكذلك المخرجين لاستغلال طاقة تمثيلية مصرية نادرة ولن تتكرر كثيرا في الأداء الاحترافي الصعب، فهى تتمتع بقدرات هائلة في تقمص الشخصيات التي تجسدها واللعب بمشاعرها على المستوى الداخلي والخارجي إلى حد أن تنسيك فريدة وتتذكر فقط (كحلة، أصيلة / النعجة، إمبابة، الحاج أحمد، زينب العطار) وغيرها من شخصيات برعت في أدائها مؤخرا في قلب الدراما المصرية.
ظني أن فريدة سيف النصر لم تأخذ حتى الآن فرصتها الحقيقية ففن التمثيل عندها يجنح نحو فعل التقمص من خلال عملية ذوبان ذات الممثل الإنسان وانصهارها بذات الممثل الشخصية، وهذا الذوبان يحتاج إلى توظيف علاماتي تحويلي تتحول فيه صفات وسلوك ومشاعر وما يتعلق بعناصر التعبير الداخلية والخارجية من علامات الممثل الإنسان إلى علامات الممثل الشخصية عندها يحدث فعل التقمص، وعليه يقوم الأداء التمثيلي في هذا المستوى عند (فريدة) بعيدا عن ميزات وخصائص شخصية الممثل الإنسان إذ تتطلب عملية التحول إلى الصدق والإيمان لديها بحيث يتحول فعل الأداء التمثيلي على الشاشة ويتطابق مع الحقيقة العامة بهدف تحقيق فعل الإيهام بحيث تحول المتلقي إلى مستقبل متعاطف مندمج مع مستوى الأداء التمثيلي المتقمص كما جاء في تجسيدها لشخصية (كحلة) في مسلسل (موسى) في موسم رمضان 2021.
كان ينبغي أن تستغل إمكانات (فريدة سيف النصر) منذ زمن وتحديا بعد مسلسل (بدون ذكر أسماء)، بعد نجاحها الفارق جدا في هذا العمل، وهنا لابد لي من ذكر ملاحظة مهمة وهى: أن الكاتب الكبير الراحل وحيد حامد لم يختر (فريدة) لأداء الدور لو لم يكن على يقين بأنها سوف تتقنه .. وهكذا كان فجذبت الأنظار ونافست النجوم الذين يؤدون أدوارا رئيسة، وبرهنت أنها وصلت إلى حالة نضج فني نظرا إلى تراكم السنين والتجارب، من هنا تعتبر (أصيلة) علامة فارقة في مسيرة فريدة سيف النصر الطويلة مع الأدوار الثانية، ومن ثم كان على شركات الإنتاج والمخريجين استغلال براعتها في تجسيد هذه الشخصية التي ترشحها للقيام بأدوارا صعبة ومركبة، وبالتالي سيكون ذلك فرصة ذهبية لها لتعويض ما فاتها من أداء أدوار لا لون لها ولا طعم جراء حصرها في شخصيات نمطية صنعها مخرجون لم يدركوا إمكاناتها الهائلة.
صحيح أن شخصية أصيلة في (بدون ذكر أسماء) كانت تتمحور حول سيدة تأوي أطفال شوارع وفارين من وجه العدالة وتعلمهم فنون البلطجة والتسول، وهي كتلة لحم متحرك جمعت ثروة عبر هذا العمل الذي يدينه المجتمع وتطارد العدالة من يمتهنه، لكن لطالما كانت فريدة سيف النصر ممثلة أدوار ثانية بامتياز ولم يسجل لها في تاريخها الفني دور يمكن أن يكون علامة فارقة في مسيرتها الفنية إلا عندما جسدت شخصية (أصيلة) في هذا المسلسل، وكذلك (إمبابة) في (ولاد إمبابة)، وزينب العطار في (الأب الروحي)، والحاج أحمد في (الفتوة)/ ورئيفه هانم الشماشرجي في مسلسل (أوراق مصريه)، ومندهة فى مسلسل (الرحايا) أظهرها بشكل مختلف وبدت محترفة تمثيل إلى أقصى حد، وجذبت إليها الجمهور الذي يتابع تلك المسلسلات، وخاصة (بدون ذكر أسماء) الذي يعتبره البعض من كلاسيكيات الدراما المصرية بسبب جودته على مستوى القصة والحوار والأداء.
فريدة سيف النصر الفنانة التكشيلية التي تجيد الرسم بفرشاو وألوان صاخبة والشاعرة الحساسة بالكلمة الصادقة بنض حروفها، هى بلا شك ليست اكتشاف رمضان هذا العام، وليست اكتشاف (بدون ذكر أسماء – قبل 8 سنوات) ولأن الكاتب الكبير الراحل وحيد حامد كان يملك قدرة على وضع الممثل المناسب في المكان المناسب انطلاقاً من مقولة الدور ينادي صاحبه، وهذا ما حصل مع فريدة سيف النصر في دور أصيلة، بالإضافة إلى أن المخرج تامر محسن أدار الشخصية بطريقة بدت محببة للمشاهد على رغم طبيعتها، وقد استغل الأداء الفطري لديها وقام بتوظيفه لخدمة الأداء الجيد والدورالمناسب ، خاصة أن تلك الشخصية كانت تتطلب مهارات وأدوات يجب أن يمتلكها الممثل لتصل إلى المشاهد كما أرادها المؤلف، وهو ما توفر عند فريدة.
ومن خلال مشاهدتي لشخصية الغجرية (كحلة) على قلة مساحة الدور أنني وقفت بقدر من التأمل والحيرة أمام طاقة هائلة في الأداء خاصة أنها تحمل بين جوانحها هذا النموذج من التلقي للأداء التمثيلي الذي يمكن إن نطلق عليه اصطلاح (التلقي العمودي) والذي يتطلب فيه التماشي مع فعل التقمص لدى الممثل ومقاربته بفعل الاندماج لدى المتلقي، حتى يجمع العرض الطرفين معا بوحدة تأثيرية مشتركة، وهى بحسب (ستانسلافسكي) ممثلة قادرة على تحويل الخطاب المتخيل دراميا إلى خطاب واقعي حياتي يستنبط حسه من فعل الملاحظة ويجسدها تعبيريا بالوحدات والفترات الأدائية القادرة على خلق صفة كشف حقيقة الحياة الإنسانية عن طريق الصدق والإيمان الذي يسكنها في واقع الحياة، وحاولت بقدر الإمكان ملامسته مع حياة شخصية (كحلة) التي تسعى إلى مساعدة الآخريين وهى في ذات الوقت التي تعاني من نظرة دونية بسبب ماض يحمل قدرا كبيرا من المرارة والانكسار.
تحية تقدير واحترام للنجمة المتألقة فريد سيف النصر – رغما عن أنف المتحكمين في عمليات الإنتاج الذي لايعي قدر نجومنا – بفضل بساطة أدائها واجتهادها في التجسيد الدرامي الحي وعلى نحو احترافي لم يتم استغلاله حتى الآن .. فهل من عيون خبيرة ترقب تلك الموهبة الفذة ومحاولة توظيفها في أداور مهم تليق بموهبتها .. أتمنى أن تجد فرصا حقيقية في المستقبل المنظور، ويقيني الراسخ بمعدنها الأصيل في فن التمثيل سوف يفاجئ الجميع بطاقة هائلة في الأداء المبني أسس علمية وأكاديمية تكفل النجاح للأعمال الدرامية الحقيقية، خاصة الشق الاجتماعي والتراجيدي الذي برعت فيه في موسم رمضان الحالي ومواسم سابقه تشهد على كفاءتها.