القاهرة / كابول .. إخفاق النهاية !
بقلم : محمد حبوشة
ليس هناك أدنى شك أن (مسلسل القاهرة / كابول) منذ الوهلة الأولى استحوذ على الاهتمام والإعجاب من جانب جماهير تتطلع إلى تجربة درامية مغزولة بحرفية عالية؛ وهو ما حدث بالفعل، بعد أن تخلص الكاتب المبدع عبدالرحيم كمال، والمخرج الموهوب حسام علي، من (الإرث) المتعارف عليه، في دراما العصف الذهنيBrain Storming ، والتي تم الاصطلاح على تسميتها بـ (غسيل المخ)، فلا مكان هنا للخطاب المباشر والنبرة الزاعقة أو التلقين المتعمد، بل اعتمد (كمال وعلي) بساطة غير مخلة وسلاسة منطقية في الطرح، واختيار شخصيات جاذبة من لحم ودم، وطريقة سرد شيقة، تنسجم وخلفية الجمهور المستهدف بالرسالة ولا تتعالى في الوقت ذاته على وعيه، ما جعل المسلسل يبلغ مبتغاه ويُحقق هدفه في المشاهدة، رغم الصعوبة المفرطة التي تكتنف أية محاولة فنية لتناول ظاهرة الإرهاب باسم الدين.
بين انتقال أخاذ بين الحاضر والماضي، وفي مزج رائع، بين الطرح الديني والسياسي والاجتماعي، وموقف الإسلام السياسي تجاه الفن، والقوى الناعمة، وتوظيف دقيق للوثائق التاريخية النادرة، يأخذك المسلسل إلى مرحلة تاريخية مهمة مع إعلان جمال عبد الناصر، تنحيه عن رئاسة الجمهورية، كما يذكرك باغتيال الشيخ الذهبي بإيدي متطرفين، واغتيال السادات بأيدي المتأسلمين، وتنامي ظاهرة الإسلام السياسي، وعلى جناح أسلوب سرد شائق، وطريقة بناء ممتعة، صور لنا القضية الشائكة وكأنها (حدوتة) مسلية؛ وهو ما ظهر بوضوح في مشهد اجتماع الأصدقاء الأربعة، لأول وآخر مرة، والحيوية، التي اتسم بها الحوار المتبادل بين (رمزي) المتطرف، و(عادل) ضابط الأمن الوطني، حتى بدا وكأنها (مناظرة) في إطار التأسيس لفكرة مسلسل ملحمي على قدر كبير من الإثارة والتشويق.
وبفضل حركة الكاميرا الرصينة، والقطع الذكي، البعيد عن الخشونة؛ فإن التناول الدرامي (الإنساني)، للكاتب عبد الرحيم كمال، والمزح المقنن بين الواقع الآني وخيال الكاتب، جاء مغايرا لكل ما قدم من قبل فيما يتعلق بتناول ظاهرة الإرهاب الديني، أو الإسلام السياسي، على الشاشة، وفضح رموزها، ممن باعوا أنفسهم للشيطان، فضلا عن مناقشة جادة وجريئة لكتاب (الملل والنحل) والفرق الناجية، في الإسلام، وتمويل أميركا لجماعات الإسلام السياسي، والثقة المتبادلة بينهم، والهزيمة، التي أمر رئيس تحرير جريدة شهيرة بأن تتحول إلى (نكسة) و(الحصاد الدامي للإرهاب)، وعلاقته والإسلام السياسي، وأهمية اللغة العربية، وخسة وانحطاط قيادات الجماعات المتطرفة، وغير ذلك من قضايا تعرج على مساحات رومانسية مطعمة بدروس في الوطنية وحب مصر، تقوى على أن تخفف من حدة الأحداث.
كل ذلك أهل (القاهرة / كابول) لأن يحتل صدارة السباق الدرامي الرمضاني، لموسم 2021، كما حظى باهتمام جماهيري، وترحيب نقدي؛ فالأمر المؤكد أنه عمل جدير بالمتابعة، والحفاوة، ويستحق تهنئة عناصره الفنية، وليس نجومه فقط؛ وتصبح الإشادة واجبة لمصممة الملابس ليلى ماجد، مهندس الديكور محمد أمين، واضع الموسيقى التصويرية خالد داغر، وفنان المونتاج أحمد الطرابيلي، ومدير التصوير كريم أشرف وصاحب القصة والسيناريو والحوار عبد الرحيم كمال والمخرج الواعد حسام علي.
ومع ذلك بدت لي بعض العيوب التي قادت إلى إخفاق النهاية التي جاءت صادمة وساذجة – بالنسبة لي على الأقل – ويتمثل هذا الإخفاق من وجهة نظري الشخصية، في حالة الارتباك التي انتابت (عبد الرحيم كمال) في وضع نهاية منطقية لأحداث كانت مشحونة بالغضب والنعومة في بدايتها، حتى زادت وتيرة الأحداث المتسارعة سخونة شيئا فشيئا مصحوبة بالقلق وربما الفزع الذي حدث لبطل القصة (رمزي) الذي تم القبض عليه وعودته مصر، وهنا وقع (عبد الرحيم) في المحظور بقفزه على الأحداث وإهمال مرحلة تاريخية مفصلية ليس في مصر فقط بل المنطقة العربية بأثرها (مرحلة تكوين داعش والنصرة وأنصار بيت المقدس)، وتلك جماعات إرهابية كان ينبغي تسليط أضواء كاشفة عليها بحكم ارتباطها بالقاهرة محط أنظار العالم، وكابول موطن النشأة والانسلاخ.
لكن (كمال) استعجل الأحداث وصولا إلى 25 يناير 2011، وهنا أقول أن المساحة الزمنية التي بدأت وانتهت بها الأحداث (1991 – 2011) تشكل عقدين من الزمان، ومن ثم كان يمكن خلاهما أن يؤسس لجزء ثان على الأقل من المسلسل، بحيث تتطور مهمة (رمزي) بعد انتقاله إلى العراق، ذلك المستنقع الذي نشأت ونمت وترعرت جذور الإرهاب وشدت رحالها إلى سوريا وليبيا وتونس وغيرها من بلدان ماسمي بعد ذلك بالربيع العربي، ويمكن أيضا أن يضاف لهما جزء ثالث يرصد التدعيات التي حدث في الفترة من (2011 – 2021) حيث قويت شوكة تلك الجماعات وأحلت بدول الربيع العربي الدمار والإرهاب الذي مازال يطل من نافذتها القبيحة.
الأمر المؤكد أن (عبد الرحيم كمال) لم يهمل ذلك عمدا، بل إنه استعجل -على مايبدو لي بحكم نفسه القصير في الكتابة الدرامية – في وضع نهاية تقفز على التاريخ والجغرافيا وتدمير الشعوب والدول والأمم ، حيث أن عملا بهذا الحجم كان ينبغي له أن يكون موزعا على ثلاثة أجزاء – بحسب تصوري – بحيث يتناول أعقد قضايا العصر الشائكة ، لكن ذلك يحتاج إلى وقت طويلا في القراءة والبحث والوقوف أكثر على أسباب تكون هذا الورم السرطاني الإرهابي (داعش) الذي مازال يطل برأسه باسطا أجنحته كطائر الرخح الأسطوري في محاولة لإقامة مايسمونه زعما (دولة الخلافة الإسلامية).
فمثلا كان يمكن أن تتطور الأحداث مع (رمزي) ويذهب من بعد العراق إلى سوريا وليبيا ويتورط في علميات إرهابية أكثر إلى أن يستقر المقام به في سيناء على مرمى بصر المخابرات والأمن الوطني، ويتم رصده بعد أن ينتهي إلى الجحيم الذي تنصبه له الأجهزة الأمنية، ويتم قتله أو القبض عليه وإعدامه، عندئذ كان يمكن أن يستوفي مسلسل (القاهرة / كابول) شروطة كعمل درامي ملحمي كاشف لجذور الإرهاب، ولا ضير من المرور على أحداث 25 يناير باعتبارها جزءا أصيلا من المؤامرة على مصر، التي تعتبرها تلك الجماعات الإرهابية الجائزة الكبرى التي ستبنى عليها قلاع الخلافة المزعومة.
أنا من عشاق (عبد الرحيم على) كسينارست أبدع في أعمال كثيرة كراوئعه (الخواجة عبد القادر – شيخ العرب همام – الرحايا – ونوس – أهو ده إللي صار – نجيب زاهي زركش)، وبالتأكيد كان يمكن أن يضاف لهم (القاهرة / كابول)، ولكني أعتب عليه في عدم بذل جهدا إضافيا بحسه الروائي و الدرامي في كشف جذور كل تلك الجماعات الإرهابية والتأصيل والتوثيق اللازم، والذي أصضلع فرصة رصد مرحلة تاريخية من أهم المراحل في حياتنا المصرية والعربية، بل في تاريخ الأمة الإسلامية التي تصدعت جدران عقيدتها الإيمانية جراء تلك الأفكار الظلامية والسوداوية ومنهج العنف (القطبي) الذي انتهجته تلك التنظيمات الإرهابية التي تحرف النص على هواها وتحل وتحرم ما أنزل الله به من سلطان.