أرجوكم … بلاش
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
سارعت الشركة المحتكرة للإنتاج الإعلامى بالإعلان عن جزء ثالث لمسلسل (الاختيار) فور انتهاء شهر رمضان ، حتى قبل أن يحدد صناعه حول أى الموضوعات ستجرى الأحداث ، فالجزء الأول تكلم عن بطولات الجيش المصرى فى مواجهة الإرهاب ، و الجزء الثانى تم تخصيصه لسرد بطولات شهداء الشرطة ، أما مسلسل (هجمة مرتدة) فكان عن بطولات جهاز المخابرات العامة فى إحباط مؤامرات الخارج الرامية لتفتيت الدولة . و تلك هى الأجهزة الكبرى الحامية للوطن و استقراره ، فعن أى بطولات سيتحدث الجزء الثالث؟ هل سيكرر أحد موضوعاته ؟ أم أن هناك جهاز لا نعلمه سيسرد المسلسل تضحياته ؟
فى اعتقادى أن هذا الإعلان جاء كمجرد استغلال لنجاح الجزئين الاول و الثانى من الاختيار ، و لكنه إعلان مفاجئ بلا تفكير أو تخطيط مسبق ، تم إطلاقه للتغطية على انتقادات كثيرة طالت مسلسلات الشركة هذا العام ، و كأن تضحيات الشهداء صارت ( ورق الجنة ) الذى يغطى عورات الإنتاج الدرامى الذى تقدمه لنا الشركة المحتكرة ، فمن بين كل مسلسلاتها هذا العام لم ينجح سوى القليل ، و حاز مسلسل (الاختيار) الصدارة برغم أنه جاء فى ثوب مهلهل دراميا ، و لم ينقذه من الفشل سوى دموع المشاهدين التى غطت الوجوه مع كل مشهد لاستشهاد بطل من أبطالنا دفع دمه ثمنا لسلامتنا و استقرارنا.
لم يحرك المسلسل سوى عواطف المشاهدين و تعاطفهم ، و لم يخاطب العقول كما يجب أن تكون المسلسلات ذات الصبغة التسجيلية . فإذا كانت الدراما تؤثر فى وجدان المشاهدين ، فالأعمال التسجيلية صنعت لكى تؤثر فى الآراء و التوجهات و تصححها ، و بالتالى فقد المسلسل جزءا من مهمته ، فهو ليس مصنوعا من أجل من يؤمنون ببطولات الشرطة فقط ، و لكن من المفترض أن جزءا منه موجه إلى المتشككين و المتعاطفين مع الجانب الآخر ، بما يثيره من نقاشات و آراء تفند الدعاية المضادة ، و بما يعرضه من حقائق تدعمها المشاهد التسجيلية لتمسح الأكاذيب ، و لكن المسلسل خيب آمالنا فى تقديم عمل مشحون بالعواطف هدفه إعمال العقل لإنقاذ من غيّبتهم دعايات الإخوان .
لا ننكر أنه الى جانب التعاطف مع قصص الشهداء كانت هناك عوامل أخرى ساعدت المشاهدين على احتمال التفكك ، أولها و أهمها حب الجماهير ( أو القبول ) الذى يتمتع به النجمين كريم عبد العزيز و أحمد مكى ، فلولا موهبتهما المتفجرة – الى جانب مجموعة الممثلين الرائعة الذين اعتبروا أن التواجد فى المسلسل شرف و تشريف فقدموا أفضل ماعندهم – لانخفضت نسبة المشاهدة كثيرا .
و لا ننكر أيضا أن المسلسل فى بدايته كان مبشرا و خاصة قصة الحب مابين أحمد مكى و أسماء أبو اليزيد ، و الحالة الرائعة التى أضفاها وجود إياد نصار بخفة دم غير معهودة ، إلى جانب نجاح أحمد شاكر عبد اللطيف فى تقديم شخصية الخائن اللزج ، إلا أن المسلسل سقط دراميا فى هوة التكرار ، سواء فى علاقة ضباط الشرطة بزوجاتهم و شكوى الزوجات التى تكررت فى كل المواقف ، أ فى مشاهد التحقيق التى تكررت فيها نفس الكلمات ( ماتشيلش القضية لوحدك / ساعدنى عشان أقدر أساعدك ) و لم يفلت من التكرار إلا مشهد التحقيق الذى أداه ماجد الكدوانى بروعة فائقة.
و على الرغم من أن أغنية مقدمة المسلسل أهلتنا لأن تكون قصة الضابط الشهيد محمد مبروك هى المحور الرئيسى للمسلسل ، إلا أنه غادرنا مبكرا ، بدلا من أن تكون قصته هى العمود الفقرى و تربط بقية القصص . فالقصة بها ما يغرى على تخصيص مسلسل لها ممتلئ بالأحداث مثل محاولة اقتحام مبانى جهاز أمن الدولة و سرقة ملفاته ، و خاصة ملفات الإخوان التى كان مبروك مسئولا عنها ، ثم إصرار جماعة الإخوان على إقصائه من مكانه بمجرد وصولهم للحكم ، ثم عودته للأمن الوطنى بعد ثورة 30 يونيو ، مرورا بأسرار كثيرة – لا تخص جهاز الشرطة فقط و لكن تخص مصر بأسرها – مثل أسباب عدم فض اعتصام رابعة و النهضة من أول لحظة ، و كيف تحدد موعد الفض مرتين و جرى تأجيله ، و الضغوط الدولية من أجل عدم الفض ، و فترة حصار الاعتصامين ، و لكن المسلسل تجاهل كل هذا ، و انتهت قصة الشهيد مبروك حتى دون أن نعرف تفاصيل أكثر عن قضية التخابر الأولى ، أو فحوى شهادته أمام المحكمة ، برغم وجود مشاهد كانت تتيح طرح التفاصيل مثل مشهده مع وكيل النيابة و لكنه جاء – كمشاهد كثيرة – خاليا من أى معلومة جديدة أو إضافة درامية.
و بدلا من التركيز على الشهيد مبروك ، مد المؤلف خطوطا درامية طوال المسلسل لم يحسن استغلالها و تحولت إلى إهدار للوقت و المجهود ظنا منه أنه يقدم الحياة الشخصية للضباط ، مثل إصابة زوجة الضابط بالسرطان ( إنجى المقدم ) فلم يؤثر ذلك على سير الأحداث حتى أننا لو حذفنا تلك المشاهد لما تأثر المسلسل !! ، فلم نر تغيرا فى شخصية الضابط أو تأثيرا لذلك على عمله ، فلماذا لم يهتز مثلا و يظن أن هذا عقاب من الله ؟ أو يوحى إليه شخص بهذا . و لماذا لم يناقش ذلك الاحتمال و يصل إلى تجدد قناعته بما يقوم به ؟ أليست هذه هى الدراما ؟!، ألم تكن تلك وسيلة لمناقشة كثير من الأمور عن الفرق بين أداء الواجب و الابتلاء و عقاب السماء ؟ و خاصة فى وجه شماتة الإخوان كلما حدث حادث
أما العم عادل – الشخصية المسيحية الوحيدة بالمسلسل – و الذى لم تستفد الأحداث من كونه مسيحيا فى شيئ سوى ذهابه للكنيسة البطرسية يوم تفجيرها ، فلماذا لم يرتبط مبكرا خلال الاحداث بعروسته – التى وضعت لمجرد استهلاك وقت إحدى الحلقات – لتموت تلك العروس فى تفجير الكنيسة ، و من هنا يجد المؤلف فرصة لصناعة أحداث درامية من خلال تحول علاقة العم عادل بابن صديقه لأنه يحمّل الشرطة مسئولية ماحدث ، و من المناقشات بينهما يتم طرح القضايا المسكوت عنها فى المجتمع المسيحى كالسعى إلى الهجرة ، و الإحجام – فيما سبق – عن المشاركة فى الحياة السياسية.
الأمثلة كثيرة و متنوعة و عديدة كان من الممكن بها إنقاذ الدراما فى المسلسل و زيادة جرعة التعاطف و مناقشة الأفكار و كشف الأسرار ، بدلا من تحول المسلسل فى نصفه الثانى إلى مسلسل شبه تسجيلى يروى فى كل حلقة واقعة استشهاد أحد ضباط الشرطة او مجموعة منهم ، فإذا كان الغرض من المسلسل هو تقديم أكبر عدد من قصص الشهداء فلماذا لم يتم ذلك من خلال حلقات تسجيلية منفصلة / متصلة لا يربط بينها سوى الاستشهاد ، بدلا من استهلاك وقت فى علاقات متكررة و حوارات مكرورة؟ ، حتى وصل المسلسل فى الحلقات العشر الأخيرة إلى أنه لم يصبح لكريم عبد العزيز و أحمد مكى دورين منفصلين ، و إنما أبح دورا واحدا مقسوما على نجمين و خاصة فى حلقة البطولة الأفريقية.
كل ماسبق يجعلنا نتساءل إلى متى ستظل الشركة المحتكرة للدراما و القنوات و البرامج و الاعلانات جاثمة على أنفاس الجمهور و الفنانين ، و إلى متى ستظل تخطئ و يتم التسامح و التساهل معها ، و الذى يدفعنى للسؤال ليست أخطاء مسلسلى (الاختيار و هجمة مرتدة ) فقط ، بل ما يجرى فى سوق الدراما بقيادة هذه الشركة ، فعلى جانب آخر رأينا لنفس الشركة مسلسلين يمتلآن بالدماء و القتل و التعذيب و البلطجة ، و كأنها تشوه ما قدمت بيمينها فى الاختيار و هجمة مرتدة ، أو ربما لتعتذر عن جوده موضوعاتهما . بل ما تم صرفه على مسلسل من مسلسلات البلطجة يثير التساؤلات : لماذا هذا البذخ غير المبرر، و خاصة فى الديكورات التى يقال انها تعدت الثلاثين مليونا فى حين يجرى التقتير على المسلسلات الأخرى ؟ ، أليس هذا دليل على سوء ما تراهن عليه هذه الشركة ؟ ، بل إن المسلسلات التى تولاها منتجون آخرون تحت اسم نفس الشركة جاءت أفضل من انتاجها المباشر ( مسلسلات العدل جروب مثالا ) فى حين نافستها الشركات الأخرى بمسلسلات كانت علامات جودة و رقى سواء من ناحية الموضوعات أو من ناحية الإجادة الفنية و نجحت جماهيريا مثل ( لعبة نيوتن ، و خلى بالك من زيزى ، و أولاد ناس و الطاووس) ، على اختلاف درجات النجاح بينها ، و لكنها كانت مسلسلات مميزة و متميزة فى اختيار القضايا التى تناقشها ، بينما الشركة غارقة فى تصدير العنف للمشاهدين إلا فيما ندر .
الحقيقة أنها شركة لم تسئ فقط للدراما المصرية و إنما أساءت للفنانين المصريين (جنود القوى الناعمة و صناعها) بإصرارها على إذعان المتعاملين معها لشروط مجحفة ، مخالفة لكل الأعراف بل و القوانين ، مثل قوانين منع الإحتكار و قوانين العمل ، فهى تصر على امتداد ساعات التصوير إلى 20 ساعة بلا أجر إضافى – و المعترض يتم وقف التعامل معه ليتسول بعد ذلك – لينتهى تصوير المسلسل فى مدة اقصاها 50 يوما ، و هى أمور يعرف كل أهل الصناعة أنها غير إنسانية ، و تؤثر على مستوى الاإتاج و جودته ، و لكن ما قيمة الجودة لشركة لا هم لها سوى الربح ، و لم تفلت من تلك المأساة سوى المسلسلات التى تشارك فيها جهات سيادية أو ما تراهن عليه الشركة من مسلسلات بائسة.
إن المقارنة بين ما ترتكبه هذه الشركة و ما تستطيع مصر أن تقدمه من فن راق – رأيناه فى أعمال أخرى – تجعلنا نطالب بتحرير الفن من سطوتها و إسناد الأمور لأهل الخبرة و ليس لأهل الثقة ، أما تلك الشركة فنطالب بتحويل أوراقها الى ( مفتى الدراما ) – إن جاز التعبير – مع شديد احترامنا و تقديرنا لفضيلة المفتى.
و فى النهاية نقولها للسادة المسئولين بكل صراحة : أرجوكم بلاش جزء تالت من الاختيار بهذا المستوى .. أرجوكم بلاش الشركة دى تفضل محتكرة الإنتاج ، أرجوكم بلاش تسكتوا على اللى بتعمله !!!