كتب : محمد حبوشة
حقق مسلسل (ولاد ناس) في موسم رمضان نجاحا جماهيريا كبيرا على غير المتوقع، حيث جاء بطابع اجتماعي حاملا في طياته رسائل وإشارات مهمة، ومن ثم كان له وردود فعل إيجابية تلقاها صناع عمل مسلسل أشاد به الجمهور والنقاد على حد السواء، جراء طرح قضايا مجتمعية هامة تمس كل بيت مصري، هى قضايا التعليم والتنشئة والتربية وعلاقة الأباء بالأبناء، وشهدت الحلقة الأخيرة أحداثا جاذبة ومشوقة على جناح شغف المشاهدة، وخاصة المشهد الأخيرة في المحكمة الذي استغرق 23 دقيقة كاملة، وبدأ بانتظار أسر الطلاب الذين تعرضوا لحادث انقلاب أتوبيس المدرسة، لصدور الحكم النهائي في القضية، إلا أن صناع العمل قرروا ترك النهاية مفتوحه دون إعلان القاضي للحكم خلال الأحداث، ليتركوا الحكم النهائي للجمهور والمشاهدين، بعد أن تحولت القضية لرأي عام، ووضع صناع العمل هذا الملف برمته أمام الجهات المسؤلة في الدولة عن التعليم والتربية لاتخاذ الإجراءات اللازمه لتصحيح المسار.
بعد أن كشفت الحلقة الأخيرة أن السبب الرئيسي فى حادث انقلاب أتوبيس المدرسة، يرجع لحالة تقصير من الجميع سواء كانت المدرسة وإدارتها ومرورا بأهالي الأطفال الذين قصروا في تربية أبنائهم بشكل سليم، وفضلوا أن يوفروا لهم المال على حساب التربية والمتابعة والترابط الأسري، ووضع صناع العمل عدة بنود هامة في أحداث الحلقة الأخيرة، كروشتة لاصلاح منظومة التعليم والتربية، أولها حتمية وجود أحزمة الأمان داخل اتوبيسات المدارس وإجراء الصيانة الدورية لها، وثانيها وجود عقد موحد بين المدارس الدولية وبين أولياء الأمور يضمن حسن العملية التعليمية، مع وضع كاميرات مراقبة فى كل مكان سواء المدرسة أو الأتوبيسات وربطها بنظام داخل المدارس، إضافة إلى إعادة الفنون والرياضة داخل المدارس بكافة أنواعها لتنمية الطلاب وخلق روح الفن في الطفولة والأخلاق الرياضية، ومنع استخدام الموبايل داخل المدارس بشكل قاطع.
وفي نهاية الحلقة ظهر النجم ماجد الكدواني ليقسم (قسم الأبوة) والذي لاقى نجاحا كبيرا ورواج فور عرض الحلقة، لما حققه من تعاطف إنساني واجتماعي كبير، ولما حمله من رسائل مهمة جدا لكل أب مصري باختلاف الطبقات، كما راجع كل أبطال العمل أنفسهم فى طريقة تعاملهم مع أبنائهم وعلاقتهم بعائلاتهم، ليبدأوا حياة جديدة في محاولة لتصحيح أخطاء الماضى التي وقع أغلبهم فيها، وظهروا في مشاهد مميزة تكشف مدى الترابط الأسري بعد تصحيح المسار لعلاقة الأباء بالأبناء.
لقد نجح مسلسل (ولاد ناس) بفضل مؤلفه ومخرجه (هاني كمال) صاحب الحس الاجتماعي الرفيع، والذي برع في هذا اللون من قبل في مسلسله الرائع (أبو العروسة) الذي التف حوله الناس في أثناء عرض جزئيه الأول والثاني بشغف كبير، لما كان تضمنه من قيم إنسانية والتركيز على روح العائلة التي تعد العمود الفقري في الحياة المصرية، وها هو يعيد التجربة كمؤلف موهوب من جديد بطرح حزمة قضايا مجتمعية في مسلسل واحد يتسم بالزخم والرقي في الطرح والمعالجة الدرامية، وامتلك القدرة أيضا على التحكم كمخرج متميز في طاقم الممثلين على مستوى الحركة والإشارة والإيماءة، فجاء الأداء مبهرا من جانب كل أعضاء الفريق من الممثلين الأكفاء، حتى الأطفال والصبية من الممثلين أجادوا أيضا في لعب أدوار مهمة وحيوية ساهمت في اكتمال الصورة الذهنية في عقل وقلب وضمير المشاهد الذي تفاعل مع المسلسل من أول حلقة حتى النهاية.
وقد جاء المشهد الأخير الذي وجه فيه كل (صبري فواز، بيومي فؤاد، أحمد وفيق، ماجد الكدواني) بمثابة سيفونية رائعة عبر رسائل إنسانية غاية في التراجيديا، حيث عزفوا بكلماتهم المؤثرة والتي تحمل قدرا من الندم على مافات على أوتار المشاعر التي استدرت عطف المشاهدين الذين بكوا مع بكائهم الحار تارة، وتارة أخرى رسموا ابتسامة أمل على وجوههم مع ابتسامهم، وهم يضعون قانونا خاصا لمراجعة تصرفاتهم مع أبنائهم، وذلك من خلال القسم الذي قال نصه (الكدواني)، ومن هنا فإني أرى أن مشهد المرافعة الأخيرة هى الـ (ماستر سين) في الحلقات كلها من خلال أداء يتسم بالحرفية والاجتهاد والتقمص العميق للشخصيات على نحو جيد، وقد جاء على النحو التالي:
دخل أولياء الأمور (أباء وأمهات) إلى جانب أطفالهم ممن تم شفائهم إلى قاعة المحكمة وهم جميعا في حالة تحفز واستنكار لما وقع في حادث (باص الموت) التابع لإحدى المدراس الخاصة، وبعد أن نادي حاجب الجلسة على القضية (1780) لسنة 2019 المرفوعة من (عيسى محمد الناجي / صبري فواز) وآخرين ضد مدرسة (NIMS) الدولية، ويتقدم المحامي (عيسى) أمام منصة القضاء قائلا من خلال حوار يتسم بالبلاغة والحكمة التي كتب نصها المبدع هاني كمال : سيادة الرئيس: يكفيني أن أقف صامتا أمام عادلتكم، فأوراق الدعوة التي أمامكم بما تضمنته من وقائع وجرائم وضحايا تغني عن أي حديث .. أعلم يقينا أنكم آباء وأنكم ترجون لأبنائكم ما نرجوه لأبنائنا .. أبناؤنا جميعا هم لبنة بناء هذه الأمة .. هم زهورها المتفتحة المرجوة، ولذا فقد عهدنا بهم إلى من نثق فيهم – يقصد إدارة مدرسة NIMS – ومن الطبيعي ياريس أن يصون المؤتمن أمانته، فهل صان المؤتمنون أمانتهم؟!
يستطرد عيسى قائلا : لا .. أغوتهم شهوة المال واتخذو الغش سبيلا لجمع الأموال .. الأموال التي اقتطعنا من قوتنا .. الأموال التي حصلناها كدا وسهرا وبعدا عن أبنائنا .. تقاعسوا وأهملوا فقتلوا من قتلوا وأصابوا من أصابوا من أكبادنا، وإنني أطالب سيادتكم أن تحكموا بالتعويض العادل الجابر لكل الأضرار المادية لكل الأضرار المادية والأدبية والمعنوية التي أصابت أبناءنا وعصفت بقلوب الأباء والأمهات .. شكرا سيادة الرئيس.
ثم تقدم محامي الخصم للدفاع عن إدارة المدرسة قائلا بسخرية : قام الزميل بتقمص شخصية الفنان (أحمد زكي) في فيلم (ضد الحكومة) ولست أدري لماذا، مؤكدا أن القضية ليست قضية تعويض فحسب، الموضوع أن هناك أناس يريدون شيطنة كيان ومؤسسة تعليمية ناجحة، ومحاولة التشويه لمنظومة التعليم في مصر، وفضلوا أن يتاجروا بدماء أطفالهم، وحاول تهوينن الأمر بأنه بأنها حادثة أتوبيس عادية والسواق كان واخد جرعة (ترامادول) على سبيل العلاج مما لايؤثر عليه في قيادة الأتوبيس، ولعب القدر والصدفة في الحادث دورا كبيرا ، لكن خناقة في الباص ما بين ولدين ونظرا السائق للخلف لتهدئتهم فحدث الذي حدث بعد فقدانه السيطرة على الباص، ومن هنا لابد أن نبحث في دوافع كل أب وأم من طالبي التعويض، حيث وراءه انحرافات وسلوكيات مشينة تدين أولياء الأمور من تعاطي مخدرات وإجهاض وانتحار وخلافه.
وبمجرد أن تعرض لعدم رفع قضية من جانب جراح المخ والأعصاب الشهير الدكتور (عماد الخولي / بيومي فؤاد)، هب واقفا في كبرياء وشمم قائلا بصوت رج قاعة المحكمة : أنا موجود يا فندم ، وأقدر أرفع دعوى حالا من غير توكيل مضيفا بحزن وأسى : بس أنما لو رفعت دعوى مش عشان أجيب بس حق بنتي، أنا حارفعها علشان أجيب حق أي بنت وولد خرجوا من بيتهم ما رجعوش .. أي بنت وولد ركبوا اتوبيس في المدرسة ورجعوا بياتهم مش سُلام .. أنا بنتي يا فندم جالها ارتجاج حاد في المخ نتيجة الحادثة وفقدت الذاكرة لمدة طويلة جدا ، وبصوت مصحوب بالدموع : إحنا كل يوم كنا بنموت .. حضرتك أكيد أب وعارف .. تعمل ايه يافندم وبنتك تعبانة وانت مش قادر تعمل حاجة رغم اني طبيب وتخصصي .. عارف يعني ايه تبقى واقف مشلول وعاجز .. الضني غالي يا فندم .. أغلى حاجة بتخرج بيها من الدنيا.
وعندما خلص محامي الخصم من مرافعته بذكر مسالب أولياء الأمور استفز ذلك المحامي (عيسى) من جديد فقام معقبا بمرافعة غاية في الروعة عبر حوار محكم ودال من جانب (هاني كمال) على كلامه : أنا لن أتكلم بصفتي أحد أهالي الضحايا وليس عيسى النادي المحامي .. ساتكلم بصفتي (أبو كريم)، الزميل تكلم عن التربية وهو عنده حق كلامه صح .. التربية : مهمة بناء إنسان .. التربية : المهمة الأعظم والأخطر، ولكن لا يستطيع شخص بمفرده أن يقوم بها .. ولا جهة بمفردها .. هى مسئوليتنا جميعا .. لكن لماذا نربي أبناءنا ؟ .. لأن التربية هى الأمان والدفء والمحبة .. التربية مش التزام شكلي بتعاليم الدين ، التربية إني أعلمه الصح يكون من جواه .. مقتنع به ومش مجبر عليه، التربية إنك تطلع ولد سايقه عقله وضميره وبيحس وبيحب .. هذا دورنا في البيوت.
أما عن دور المدرسة فقال عيسى: فدورها مهم في التربية لأن المدرسة تمنحهم مجتمع .. يعيش بين أقرانه ويتعلم .. تحت رعاية المدرسة وقدام عينيهم … وهنا تساءل : هل المدرسة قامت بالدور ده ولا هى معلومات وبس؟! .. المدرسة أهملت .. المشكلة مش في تيل فرامل غير مطابق للمواصفات .. المدرسة التي لم تخلق هذا المجتمع الصحي هى مدرسة غير مطابقة للمواصفات .. المدرسة اللي تسمح للولاد يخشوا بالموبايلات عشان يكون فيه فرصة للتنمر وأذية بعض .. مدرسة غير مطابقة للمواصفات .. المرسة اللي مفيهاش حجرة موسيقى ترطب روح العيال وتعلم خيالهم ينطلق مدرسة غير مطابقة للمواصفات .. المدرسة اللي مفيهاش مسرح يقف عليه الولد أو البنت يحس بذاته ويعرف الآخر أمامه ويعرف يعني إيه اختلاف .. مدرسة غير مطابقة للمواصفات .. المدرسة لم تقم بدورها في التربية .. ياريس دورك أن تجبرهم على ذلك بالقانون.
يتقدم (يحيى البهي / أحمد وفيق) ويتوجه للمنصة قائلا : نعلم أن الحكم يصدر من عدالتكم باسم الشعب، وبما أننا من أبناء هذا لذا نرجو أن يصل صوت الشعب لمن بيده الأمر ولمن يرغب في مستقبل أفضل لأبناء هذا الوطن: الحادثة دي كان خسايرها يمكن أن تكون أقل بكتير لو كان الولاد رابطين حزام الأمان داخل الأتوبيس .. زي ماكنا كأباء حزام لأولادنا بتربيتهم الصحيحة، ثم وجه مطالبه لإدارة المدرسة : قائلا نطالب بوجود كاميرات داخل الأتوبيسات علشان تكون رقيب على الأتوبيس وطبعا مع وجود أجهزة رصد لسرعة الأتوبيسات .. نطالب بإلزام المدارس بالكشف الدوري شهريا على السائقين لمعرفة تعاطي المخدرات من عدمه .. وناشد وزارة التربية والتعليم أن تصيغ عقدا موحد بين المدراس الخاصة أولياء الأمور يتضمن الحقوق والواجبات للطرفين
وذهب يحيى إلى مطالب أخرى مثل : إلزام الوزارة للمدارس بتخفيف الجشع المادي .. تصرف على حماية ولادنا بجد، ويكون لها دور في دعم أبناءنا .. محتاجين تعويص .. آه محتاجين تعويض لأن مفيش حاجة من غير تمن، وزي ما دفعنا تمن تعب أولادنا بسبب الي حصل لازم المدرسة كمان تدفع التمن .. ليس هناك مقابل مادي يمكن أن يعوض ألم الأبن وهو عاجز عن المشي .. مش قادر يفتح عينيه، ولا وهو بيبكي من الوجع الجسدي والنفسي .. فلوس الدنيا لاتعوض حزن إبني على نفسه وقهرتي عليه .. حتى لو بيشرب مخدات .. حتى لو بينتحر .. أياً كان في الآخر دول ولادنا وأفعالهم نتيجة للي بيحصل في المدرسه وفي بيوتنا .. سيادة الرئيس احنا محتاجين رخصة أبوة ويتم تجديها كل 5 سنين وفي حال عدم صلاحية الأسرة تتخذ الجهات المعنية خطوات حيال هذا .. هناك مهنة اسمها الأب وفيه شغلانة اسمها رب الأسرة يجب أن نفهمها حتى لاندمرأجيال قادمة على الطريق .. سيادة الرئيس أحنا فعلا محتاجين رخصة أبوة.
عندئذ يدخل (صلاح كمال نجيب / ماجد الكدواني) أبو أدم أحد ضحايا الحادث، قائلا : مش حيمشوا بها يا يحيى .. مش حيعرفوا يدورها .. بس طبعا هى متنفعش تتزور .. مين يقدر يزور عهد ربنا ماضي عليه بنفسه .. وبعد سؤال القاضي رئيس الجلسة عن اسمه راح يسرد تفاصيل حياة ابنه من الميلاد حتي استرد المولى عز وجل وديعته في هذا الحادث، ويذكر عندما وضعته أمه أن أخذه على يديه وذهب لها وأشار عليه باصبع سائلا زوجته : ده بكام؟، فردت عليه متعجبة فأعاد السؤال بكام .. ده بكام .. ثمنه كام .. قالت له ميتقدرش بثمن، وهو يشير هنا إلى أن أغلى حاجات في حياتنا لم ندفع فيها مليما واحدا ، وأتفه حاجات في حياتنا دفعنا فيها فلوس كتير .. بس طلع ان الفلوس ماتشتريش غير كل رخيص ومالوش قيمة .. ولادنا أغلى حاجة في حياتنا .. نعمة كبيرة قوى من ربنا ، وأدم تعلمت منه كيف أكون إنسان، لذا لم أفقد ابني فهو عايش معايا ولسه جنبي، ومازلت باتعلم منه.
ثم ذهب صلاح إلى تلخيص قوله الفصل في معنى الأبوة : ولادنا نعمة كبيرة قوي .. ياريت نعرف إن الحياة مفيهاش أي حاجة .. لا فلوس ولا متعة تستاهل اننا نخسر عيالنا وهم لسه عايشين وسطينا، ثم التفت إلى يحيى قائلا: أنا أضم صوتي لصوت يحيى .. مش كفاية بس رخصة الأبوة .. لازم كل أب لما ضناه يتولد يشيله ويقف به قدام ربنا ويقسم قسم الأبوة : أقسم بالله العظيم الذي رزقني هذا الطفل وأوكلني على رعايته أن أعمل جاهدا على نفسي ومنكرا ذاتي لأبني فيه إنسانيته ليكون نافعا لكل عمل صالح لأهله ولوطنه .. منهيا المشهد بقول كلمة: ياريت!!!
وفي النهاية لابد من الإشادة بكل فريق عمل مسلسل (ولاد ناس) التمثيلي الذين برعوا في الأداء على نحو احترافي يشهد لهم بالقدرة والكفاءة على تحمل أعباء الشخصيات التي جسدوها وعلى رأسهم كل من : (صبري فواز وأحمد وفيق، بيومي فؤاد، ماجد الكدواني، إيهاب فهمي، رانيا فريد شوقي، لقاء سويدان، أحمد صيام، صفاء الطوخي، محمد عز، محمود حجازي، وفريد النقراشي، والتأليف والإخراج هاني كمال لهاني كمال ، والإشراف عام إبراهيم حمودة.. تحية تقدير واحترام لصناع مسلسل اجتماعي محمل بالرسائل الإيجابية المهمة في تربية الإبناء وإصلاح أحوال التعليم في مصر، وقد نجح في هدفه رغم تكلفته القليلة مقارنة بأعمال أخرى رصدت لها ميزانية ضخمة وبدورها ركزت على العنف والبلطجة في رسائلها السلبية على المجتمع المصري والعربي.