دراما مصرية عالمية!
بقلم : أسامة سرايا
يستطيع المصريون أن يقولوا إنهم استمتعتوا طوال الموسم الرمضانى بدراما فنانيهم ومؤسساتهم، على مختلف توجهاتهم الفكرية، ومستوى مهنيتها، وأنهم خرجوا منها وكلهم ثقة فى مستقبل ومحتوى هذا الفن الرفيع، الذى يحرك العقول والنفوس قبل أن يحرك الإنسان نفسه، وقد أكملوا مسيرة سابقيهم بالمستوى نفسه، أو الوتيرة، وإن لم تتزايد فى الحبكة، وجودة الفكر، وصواب الهدف.
ففى الوقت الذى تصور فيه محيطهم المتربص أنهم نضبوا فكريا، وأن سلعتهم فى طريقها للبوار، كغيرها من صناعات المحتوى والفكر، بل إن محطاتنا، أو منصاتنا الإعلامية، كانت طوال العام تتسول فُتات الدراما المستوردة من هنا، أو هناك، إقليمية أو عالمية، وتتم دبلجتها بعربية مكسرة، متهافتة، وبلهجات متعددة، حسب مدارس المستوردين، وثقافتهم، ورؤاهم، وعندما تحاول هذه المحطات أن تتحلى، أو تتجمل، كانت تضع دراما مصرية قديمة، تمت إعادتها أكثر من مرة، لكنها كانت ضد التقادم، لجمالها، وجودة فكرتها، التى تجعلها تتوارث عبر الأجيال، وكاد كل متابع، أو خائف على الهوية البصرية، والفكرية المصرية، التى صنعها الكبار الراحلون فى السينما والدراما، يخشى على مستقبل صنعه تصورنا عبر الزمن أنها لا تنضب، لأنها مصرية، بل خفنا، مع الزمن، على لغتنا، أو لهجتنا المصرية المحببة، العربية الفصيحة، والشعبية، أن تتوارى، وأن تختفى تدريجيا، حتى مسلسلات الأطفال أدت إلى اعوجاج فى لغتهم، حاولنا إصلاحه فى البيوت بلا جدوى!!
وسط كل هذه الأزمات – وكعادة المصريين أنهم يفيقون فى الأزمات، ويُغيرون ما يُخطط لهم من تغييب، أو تهميش، حيث وجدنا من يتلذذ فى تعليمنا مفردات ركيكة، كعلامة مميزة على هزيمتنا الفكرية، والفنية – كانت الانتفاضة الفنية أكثر من 70 مسلسلا خلال العام، تتفوق على نفسها فى الجودة والصناعة، حيث تستطيع أن تضع كل مسلسل فيها على “ترابيزة” بحث وتدقيق فنى ونقدى عالى الجودة، لأنها، تقريبا كلها، على مستوى من الجودة والإتقان، وليس للمنافسة الإقليمية فقط، وإنما للمنصات العالمية المتعددة بنفس جودتها، ومقاييسها فى التأليف، والتصوير، والحركة، أى أنه، شكلا ومضمونا، النجوم، والمؤلفون، والمخرجون الجدد أعطونا الأمل فى الغد المصرى بالإنتاج الفنى السينمائى والتليفزيونى، وأن بكاءنا على نجومنا ومؤلفينا الراحلين لن يكون نحيبا على الماضى والمستقبل معا، وأن الموهبة، والفن، والصنعة نستطيع تكرارها، وتجديدها، وتجويدها مع الزمن، أو غيره، خاصة إذا أحطناها بإطار مؤسسى محكم جيد، يحفظها ويمولها، ويدفعها للأمام باستمرار وحيوية.
إن الدراما المصرية الجديدة عندما فاقت من أوحال الهزائم، ونكسات التغييب، وصناعة الفوضى، وتكريس النكسة، والمرض، والخوف من المستقبل، وصناعة الإحباط لدى الشباب – خرجت لنا بذاكرة وطنية جعلتنا نعيش ما حدث فى الوطن، وما شاهدناه من أحداث جسام، واستطاعت أن تحفظ بطولات أبنائنا، وتضحياتهم بأرواحهم، ونفوسهم، وحياتهم، وأسرهم، من أجل وطنهم.
فما قدمه “الاختيار ٢” أثبت أن الوطنية لا تستطيع أن تتثاءب، أو تضعف، (الاختيار ١ أو ٢ نموذجا)، وأن روحها متجددة، وأنها حياة رائعة، ودافقة، لأنها حقيقية، وليست مصطنعة.
وما قدمته تلك الدراما فى مسلسل “هجمة مرتدة” من ملفات التخابر والتجسس الحقيقية، وضع من سعوا للخراب والدمار فى أهم قفص اتهام، أمام أهاليهم وشعبهم وجمهورهم، ليس الذى يعيش اليوم، بل القادمين غدا، ليعرفوا أحوال وطنهم، وما مر به من أهوال، وما قدمته الدراما من شخصيات تملك الحق والعيش فى فضاءاتها، رسمتها بعناية، بل ريشة العازف، ولم تركن إلى الحكواتى، رغم ثراء القصة وروعتها، ولكنها كانت تقول، أو تستعرض بحرفية قدرتنا على صناعة الدهشة، والتمكن من الحبكة الدرامية، والتليفزيونية المتماسكة، والتى يسميها كتاب الدراما والنقد “القوة الناعمة”، وهى فى حقيقتها “القوة الثقيلة”، لأن أى قوة صناعية وخدمية، أو حتى عسكرية، لا تحركها إلا الروح، والفكرة التى تعيش فى المُخيّلة والصورة الذهنية، وهذا ما لعب عليه الإرهابيون والمتطرفون طويلا، فسرقوا الشباب، ووضعوهم أمام أهاليهم ووطنهم بفكرة محبطة وسلبية، كتبتها عقول مخربة متطرفة، فى حرب طويلة لم تنتهِ بعد، ومازالت تحتاج إلى عقول، وأفلام، ومسلسلات، وكتابات تواجهها باستمرار، وتكافح تلك الآفة المرضية، ولا تسمح لها بالعيش فى البيئة العربية مرة أخرى، أو أن تجرنا إلى الفشل والهزيمة تلو الأخرى على كل صعيد، وتجعلنا ما إن ننتهى من نكسة حتى نقع فى أخرى.
إن زحمة الدراما الرمضانية لم تجعلنِي أستطيع أن أتابعها، فليس من العدل، أو الإنصاف، أن أنتج دراما تكفى العام كله، وأضخها للإذاعة والنشر فى شهر واحد، فهذه “التخمة” تفسد الوجبة، ولا تجعلنا نستمتع بها كاملة، لكننا نحتاج إلى إعادة ضخها بأسلوب، و تبويب جديد مختلف، مع الفصل بينها وبين الإعلانات، رغم أهميتها لصناعة الدراما، وتمويلها، والفن عموما.
لكن هذا لا يمنعنا من القول إن السباق الرمضانى هذا العام (٢٠٢١) أعادنا، وبقوة، إلى عرش الإنتاج، الذى يكفى كل الأسواق والمحطات العربية طوال العام، وأن جماله لا يقتصر على الوطنيات الشجاعة فقط، وهنا أشير إلى “نجيب زاهي زركش” و”لعبة نيوتن” كنمط اجتماعى جذاب ومثير معا، وأن الدراما مشروع وطنى ناجح وخالص، وأداة خطيرة ضد التخاريف، والتحريض، والإرهاب، واليأس، والتخويف بكل أشكاله، وأنها سلاح لحماية المجتمع، وثقافته، وهويته، وصناعة الضمير الجمعى لأبناء الوطن، بل فى كل البلدان العربية، وأداة لتوحيدها، وطريق لنشر الاقتصاد والتجارة، بل إنها مقدمة لصناعة الأسواق، وتجديدها، وحيوية المستهلكين فيها، الأمر الذى يجعلنا نقول، ببساطة، إننا نجوم المحتوى والإبداع، ولا خوف على ثقافتنا، أو هويتنا، وإعلامنا، لأننا شعب يملك الإبداع، ويتقوى بالفكر، وأننا كذلك صناع الضمير لوطننا، وأمتنا.