إغتيال ماسبيرو
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
منذ أن انطلقت كلمة “هنا القاهرة ” فى مايو 1934 لتعلن ميلاد الإذاعة المصرية الحكومية و الدولة المصرية تسعى لأن تتميز فى مجال الإعلام ، و لكن التميز لم يتحقق إلا بعد ثورة يوليو ، بعد أن أدركت مصر أهمية الإعلام كوسيلة من وسائل القوة الناعمة ، فراحت تقوى من شبكاتها الإذاعية لتصل “هنا القاهرة ” لمعظم دول العالم ، حتى أنها أنشأت إذاعات موجهة لمناطق بعينها و بلغات متعددة . و أنشأت مصنعا للراديو الترانزيستور ، ذلك الاختراع الذى سهل لها دخول كل البيوت .
و برغم نجاح الإذاعة و ارتباط العالم العربى كله بها فقد سعت الثورة لإنشاء الإذاعة المرئية – أو ما نسميه التليفزيون – إلا أن العدوان الثلاثى تسبب فى تأجيل التنفيذ لينطلق أول إرسال تليفزيونى مصرى فى يوليو 1960 ، ليكون رابع تليفزيون فى المنطقة العربية بعد العراق و الجزائر و لبنان، و لكن خلال سنوات قليلة حقق نجاحا من خلال إنتاج التمثيليات و الأفلام و البرامج و 10 فرق مسرحية متنوعة الإنتاج و مهرجانا عالميا استضاف نجوما من تليفزيونات العالم ، حتى أطلقوا عليه التليفزيون المصرى الذى ولد عملاقا . و مع السبعينات و بسبب أزماتها الداخلية و الخارجية ، صار العملاق جهازا عاديا من أجهزة الدولة يكافح بشدة أن يتواجد على الخريطة الإعلامية العربية وسط مقاطعة سياسية و منافسة من تليفزيونات أخرى ظهرت بالمنطقة العربية .
و بدأت شركات الإنتاج الدرامى تظهر لتغطية احتياجات القنوات المتعددة التى ظهرت خلال السبعينات و الثمانينات ، لتستقطب النجوم المصريين سواء فى التمثيل أو التأليف أو الإخراج و تقوم على أكتافهم حركة إنتاجية ضخمة ، حتى أن بعضا من الممثلين المصريين كانوا شبه مقيمين فى الخارج – حيث استوديوهات التصوير المنتشرة فى اليونان و الأردن و بعض إمارات الخليج – ينتهون من عمل ليبدأوا آخر ، و قلما ظهروا فى الإنتاج الدرامى المصرى فى تلك الفترة .
و فى نهاية الثمانينات بدأت صحوة أخرى و اهتمام باستعادة قوة مصر الناعمة ، فتم إنشاء القنوات الإقليمية ، و بعدها بسنوات بدأ قطاعا جديدا يتشكل بإنشاء القنوات المتخصصة بفكر و قيادة الإعلامى الكبير الاستاذ حسن حامد و التى كانت قبلة الحياة للتليفزيون المصرى . و خلال تلك السنوات توسعت الآلة الإعلامية توسعا كبيرا ، حتى صار هناك مايقرب من 23 قناة و تم إنشاء شركات تابعة لاتحاد الإذاعة و التليفزيون كشركة صوت القاهرة و النيل للإعلان ثم إنشاء مدينة الإنتاج الإعلامى و الشركة المصرية للأقمار الصناعية ( نايل سات ) ، و هى الشركة المسئولة عن الاقمار الصناعية المصرية و البث الفضائى و الشركة المصرية للقنوات الفضائية ( CNE ) و هى أول شركة لتقديم خدمات التليفزيون الخاصة فى المنطقة العربية .
و من خلال قطاع الإنتاج بالتليفزيون المصرى بزغ العصرالذهبى للدراما التليفزيونية و خاصة فى فترة قيادة السيناريست الكبير ممدوح الليثى ، فظهرت الأسماء التى مازلنا نفخر بها من كتاب و مخرجين و ممثلين ، الذين استطاعوا تقديم أعمال ستظل خالدة على مر السنين .
و عندما ظهرت الدراما السورية كمنافس قوى – و خاصة فى المسلسلات التاريخية – حاول التليفزيون أن يعود لسابق عهده ، و فى السنوات القليلة التى سبقت ثورة يناير استعاد بريقه و حقق نجاحات بفضل قيادة المهندس أسامة الشيخ الذى كان مهندس إنشاء القنوات الخاصة فتمت دعوته لقيادة مركب التليفزيون التى كانت متعثرة ، و لكن للأسف تلقى عن هذا أسوأ جزاء بعد ثورة يناير التى كشفت عن حقائق مذهلة .
جاءت الثورة لنجد أن هذا الكيان الضخم يحمل ديونا أضخم منه ، و جهازا إداريا مترهلا يفوق احتياجات العمل الفعلية بكثير ، و لأن البعض اعتبر الثورة فرصة لتصفية الحسابات فقد تم إطلاق الاتهامات من كل حدب و صوب لتطال الجميع ، لكن التحقيقات التى تلت الثورة لم تثبت صحة معظمها . و مع حالة السيولة السياسية التى أفرزت مطالب فئوية عديدة من خلال المظاهرات و الاضرابات زادت ديون التليفزيون حتى أنه جاءت فترة كان يستدين مرتبات العاملين من البنوك أول كل شهر كما قال أحد مسئوليه !! و الأغرب أنه خلال فترة السيولة تلك وقف البعض باسم الثورة ضد أى محاولات لإعادة الحياة للتليفزيون ، و لعل أحد المشاهد المحزنة – و التى تثير الشكوك فيمن قادها – تلك الحملة ضد عودة الإعلامى الكبير حمدى قنديل لتقديم برنامج من خلال التليفزيون !! و كأن الثورة ضد استعادة صوت حر لنجم إعلامى من أبناء التليفزيون ليعود ليغرد من خلاله .
و الآن و بعد مرور عشر سنوات على الثورة و بعد تغييرات عديدة جرت على أسلوب و طريقة قيادة الإعلام المسموع و المرئى من وزارة ، إلى مجلس أعلى ، إلى وزارة دولة فى وجود المجلس أيضا ، ثم استقالة – أو اقالة – وزير الدولة للإعلام ، ألا يحق لنا طرح مجموعة من الأسئلة بصفتنا “مواطنون ” يدفعون من ضرائبهم تكاليف ذلك الكيان المسمى التليفزيون :
أولها : كيف لهذا الكيان بكل شركاته و خاصة مدينة الإنتاج الإعلامى التى تؤجر استوديوهاتها و مناطق تصوير مفتوحة و تفرض على أى قناة تريد البث من القاهرة أن تنطلق من داخل المدينة و أن تستأجر مقرا لها فيها ، أن تظل خاسرة طوال هذا الوقت ؟ و كيف للسهم الخاص بالمدينة الذى تم طرحه فى بداية الاكتتاب بعشرة جنيهات أن يظل و بعد كل تلك السنوات أقل من 6 جنيهات ؟ ألا يستحق الأمر تحقيقا فى أسباب الخسارة الدائمة ؟ . نعلم أن هناك تكاليف إنشاء ربما كدست ديونا و لكن بعد كل سنوات العمل لماذا ظلت الديون ؟ ، و هل صحيح ما أشاعه البعض أن السبب فى الخسارة الأجور و المكافآت المبالغ فيها التى تتحملها المدينة ؟ ، و لماذا لا تكون هناك شفافية فى إعلان الحقائق ؟ أليس هناك رجل رشيد يوقف هذا النزيف ؟ ، و إذا كان القدر قد فرض علينا أن تظل مدينة الإنتاج خاسرة ، فهل من تصاريف القدر أيضا أن تخسر شركة الأقمار الصناعية التى تؤجر قنواتها للتليفزيونات العربية و الأجنبية ؟ و لماذا تظل تلك الشركات خاسرة ؟
ثانيا : لماذا تم اللجوء للشركة المحتكرة للإنتاج الدرامى و البرامجى فى مصر لتقوم بتطوير التليفزيون المصرى ؟ ، أليس فى الأمر ” تعارض مصالح ” فهذه الشركة تملك قنوات منافسة ؟ و عن ماذا أسفرت مشاريع التطوير السابقة ؟ ، و لماذا لم نستفد من أخطائها فى مشروع التطوير الجديد ؟ أم هو مكتوب علينا أن نخترع العجلة فى كل مرة و يبدأ التطوير بعمل ديكورات تتكلف ملايين و لا ننظر للمحتوى بل نكرر ما سبق ؟ ، و ما هو التطوير فى نقل برنامج العاشرة مساء من قناة دريم إلى القناة الاولى ؟ هل التطوير فى أنه صار فى التاسعة ؟
ثالثا : هل تقوم الشركة المحتكرة بالتطوير فعليا أم أنها جاءت لتقضى على البقية الباقية ؟ فالشركة قد وزعت أعمالها الدرامية على القنوات التى تملكها و جعلت لكل قناة جزءا من المسلسلات تذاع عليها حصريا – لزيادة أعداد المشاهدين و لجلب الإعلانات – فلماذا لم تخصص للتليفزيون مسلسلا حصريا هو الآخر ؟ ، و لماذا لم تهتم بإعطائه و لو مثقال ذرة من إعلاناتها التى تحتكرها ؟ .. هل هذا ضمن خطة التطوير ، أن يتم إطلاق رصاصة الرحمة على التليفزيون الذى ولد عملاقا بعد ( تطفيش ) المشاهدين ؟
رابعا : ما الذى قدمه المجلس الأعلى لتطوير الإعلام حتى الآن ؟ ، هل قدم لماسبيرو أى انجاز ؟ ، هل سعى لإعادة دوران عجلة الإنتاج لكياناته المعطلة فى صوت القاهرة و قطاع الإنتاج ؟ أم أنه سيفاجئنا بتأجير الاستوديوهات و تسريح العمالة و بيع المعدات ( خردة ) لكى لا يبقى فى مصر سوى الشركة المحتكرة ؟ ، و هل المجلس يملك القدرة على القيام بالتطوير و إنقاذ التليفزيون أم أنه متفرغ لمعاركه الرهيبة ( التحقيق مع مسلسلات ناجحة – و تحويل الموظفين للتحقيق – و اتهام مواطنين بانتهاك قدسية المحطات – إصدار التقارير عن الألفاظ و التدخين فى المسلسلات ) إلى آخر عظائم الأمور التى ينشغل بها ؟
خامسا : إذا كان المجلس الذى هو مهمته محاربة الاحتكار فى مجال الإعلام يجلس مطمئنا مرتاح البال بينما الشركة تتوسع فى احتكاراتها فلماذا نصر على بقائه ؟ أليس من الأجدى توفير نفقات و مرتبات و مكافآت السادة الأفاضل من أعضائه ؟
ثم فى النهاية ، ألا نخجل عندما نشاهد حال التليفزيون المصرى الآن ، بينما نرى الإقبال الكبير على مشاهدة تراثه الذى يذاع على قناة ماسبيرو زمان ؟ ، ألا يحثنا هذا على إنقاذ ( عملاق قوم ذل ) و إنقاذه من براثن شركة كل تصرفاتها تقول انها تنزع عنه كل مقومات الاستمرار ؟.