كتب : محمد حبوشة
قلت سابقا وأعيد وأقول مرارا وتكرار أن النجم (ياسر جلال) يعد الآن واحدا من الأرقام الصعبة في معادلة الدراما المصرية، ولقد لفت نظري خلال الخمسة سنوات الماضية ببراعة أدائه الذي يتطور من عام إلى عام ومن مسلسل لآخر، بتنوع الشخصيات التي يلعبها باحترافية نادرة الوجود في هذا الجيل من نجوم مصر، وربما يرجع ذلك إلى أنه من الممثلين الذين يصل بهم الاهتمام من جانبهم بالتفاصيل إلى حد الهيستريا، لكنها ليست هيستريا تدفع إلى الجنون أو الانحراف عن المسار الصحيح، بل إنها هيستريا القلق والخوف من عدم وصول الإحساس الحقيقي للمشاهد، لذا تجده حريصا كممثل على الاهتمام بأدق تفاصيل الشخصية وينتابه قلق دائم داخل البلاتوه، لكنه يظل محافظا على توازنه تماما كفارس يتبارى في سباقات القدرة والتحمل، فيقوم بكبح جماح جواد إبداعه أولا بأول على جناح التحكم بكافة المكونات والعناصر والتفاصيل الفنية الفارقة في الأداء.
وقد بدا لي في شخصية (جلال) مدرس التربية الرياضية في مسلسل (ضل راجل) على نحو مخالف لكل التوقعات بأداء يلفت إليه الأنظار من أول حلقة، وهو ما يثبت أنه ليس فنانا موهوبا فحسب، بل يمتلك كل مقومات النجومية التى تأخرت عنه طويلا، فضلا عن وصوله لمرحلة النضج الفنى – كما لاحظنا مع تطور الأحداث من حلقة لأخرى – حيث يزداد تألقه رغم المنغصات التي تعترض مسار حياته من خلال الدور الذى يقدمه، إلا أنه امتلك نوعا من القوة الهادئة التى تعينه فى تجسيد شخصية شعبية تميل إلى العصبية بالأساس، ومع ذلك كان يبدو طوال الوقت هادئا رغم البركان الذى يغلى بداخله، ويدير معركته بسيطرة كاملة فى سبيل التحرى والبحث عن مغتصب ابنته، وكأنه يطبق مبدأ (ستانسلافسكى) فى تذكير الممثل بالصفة المعاكسة للدور، قائلا: (عندما تؤدى دور الشرير، ابحث عن الجانب الطيب فيه، وعندما تلعب دور العجوز ابحث عن الجانب الفتى فيه)، وهو ما بدا واضحا في أداء ياسر على مدار الحلقات.
أعرف جيدا أن ياسر جلال يختار بعناية فائقة ما يطل به على شاشة رمضان في كل عام ويضع شروطا دفينة في نفسه لا يعلنها على الملأ، بل يحس ويشعر بها الجمهور من خلال تجلياته الفنية المبدعة والرسائل التي يبثها عبر الأحداث على كثرتها، وهذا كان دافعا أساسيا لاختيار (ضل راجل)، ذلك العمل الذى قدمه بشكل خاص نتيجة عدة عوامل، أولها الورق وهو ما وجده فى سيناريو الكاتب أحمد عبدالفتاح، بالإضافة إلى وجود مخرج يتمتع بخبرة واسعة في البناء الدرامي للنص مثل أحمد صالح، وبالطبع شركة إنتاج سخية بحجم سينرجى، بجانب كوكبة من النجوم والزملاء، مثل (اللبانية نور، ونيرمين الفقى، ومحمود عبدالمغنى، وإنعام سالوسة، وأحمد حلاوة، ومجدى فكرى) وغيرهم، فكل هذا بالنسبة له عناصر كانت جاذبة لخوض التجربة.
هذا بالإضافة إلى أن الشخصية نفسها مختلفة، وعلاقة الأب بابنته دائما يخرج منها فى الدراما مواقف يكون الصراع فيها قوى وعلاقة الآباء بالأبناء بشكل عام فى الأسرة المصرية، وهو مايراه جديرة بالتناول فى الدراما من أوجه مختلفة – بحسب قوله – لأن العلاقات الأسرية تبنى عليها المجتمعات، لكى نبنى مجتمعا ناجحا لابد تضبط العلاقات داخل الأسرة، ونعرض السلبيات ونحاول تقديمها للمشاهد فى قالب درامى لتكون محل نقاش واستفادة، فضلا عن أن المسلسل هو عمل درامي يلامس قضايا المجتمع ويبرز الشكل الحقيقي للحارة المصرية وما تتمتع به من أصالة وحب وحسن الجوار والعادات والتقاليد الطيبة والرجولة والشهامة والأصول، بعيدا عن الإسفاف والابتذال والألفاظ الجارحة، ومن ثم يقدم رسالة قوية جدا للمجتمع.
يبدو لي أن (ياسر جلال) اجتهد كعادته في دراسة الشخصية على مستوى البعد المادي المتمثل في الشكل الخارجي والجسماني وشكل الوجه، والبعد الاجتماعي والذي يتعلق بوضعه في المجتمع غني أم فقير، وأين يسكن، وما هى مهنته، وأخيرا البعد النفسي ويخص أحلامه وطموحاته وطباعه، حتى تمكن من تقديم شخصية (جلال) بشكل مناسب ومختلف عن كل الأدوار التي قدمتها، وفي نفس الوقت أبعد ما تكون عن كثير من الأدوار التي تقدم في هذه المنطقة، حيث واجه صعوبات الشخصية وتناول العمل بشكل يسهل فهمه من جانب المراهقين، وقدم نموذجا للحارة الشعبية بوجهها الحقيقى من أصل وطيبة وحسن الجار، وارتباط الناس ببعضها البعض، والالتفاف حول بعضهم البعض فى الأزمات بعيدا عن البلطجة والألفاظ الخارجة وبصورة اعتادها الجمهور بشكل لائق.
ولأن جلال جزء من نسيج هذا المجتمع، حيث الغالبية العظمى منه محافظون ومتدينون وعلى خلق، لم يلجأ إلى أن يجرح مشاعرهم، أو تقديم شىء غير أخلاقى أو مسف، بل استطاع مناقشة قضية (حمل ابنته سفاحا) من خلال رؤية عامة، بما يليق دون خدش للحياء أو جرح لعين المشاهد أو ألفاظ بذيئة، وهذا هو الفن الذي التزمه جلال ويتعمد دائما أن يترجمه بأدائه السلسل بنوع من الجمالية والإمتاع البصرى والذهنى والروحى، ومن فوق كل ذلك السمو فى المشاعر والأخلاق.
ولقد تجلى كل ذلك في أكثر من مشهد خلال الحلقات الـ (15) الأولى في المسلسل، لكن لفت نظري أكثر في الحلقة (13) من خلال مشهد يجمع بينه وبين ابنته (شهد) التى لعبتها دورها (رنا رئيس)، وفي بكائية أدمت قلوبنا جميعا اصطحبها في حنو بالغ وقرر أن يخرجها من حالة الرعب والفزع التي عاشتها طوال فترة احتجازها بالمستشفي ومحاصرته هو وأمها لها كي تعترف باسم من تسبب في حملها، وقد جاء المشهد مشحونا بالمشاعر الدافئة على نحو بارع من الأداء الاحترافي العذب على هذا النحو:
على كورنيش النيل في قلب الليل حيث الشتاء والهدوء والسكينة وصوت أم كلثوم القادم من بعيد، يقترب (جلال) من ابنته شهد ويقدم لها كوبا من (حمص الشام) قائلا : اتفضلي.
شهد : أنا عارفه إن حضرتك عندك أسئلة كتيرة عاوزني أجاوب عليها .. أنا قلت لك الحقيقة علشان تتطمن، لكن أكثر من كده مش حأقدر أتكلم .. أنا معنديش حاجة أغلى منك أخاف عليها .. إنت مش بس أبويا .. إنت كل أهلى وسندي وضهري .. لو روحت مننا حاضيع، وبعدين مش أنا بس لوحدي إللي حاضيع حايروح معايا في الرجلين أمي وأختي وستي كمان .. شوفت بقى كام روح متعلقة في رقبتك؟!
جلال : أنا مش جايبك هنا عشان أحقق معاكي، ولا أعرفك منك اللي انتي مخبياه عني، لأني تقريبا بدأت أوصل وأعرف لوحدي.
شهد : توصل لإيه؟
يصمت جلال برهة من الوقت ويفاجئ شهد بسؤال خارج عن السياق قائلا : بتحبي الحمص أكتر ولا الفخفخينة؟ .. فاكره الفخفخينة .. فاكرها كنتي بتقولي بتحبيها أد ايه؟ .. ولا دي كمان كانت كدبة زي حكاية عيد الميلاد؟.
شهد : أنا كنت خايفة وطبيعي لما حد بيخاف بيمشي يلطش في الدنيا .. كنت عامله زي الغرقان اللي بيتعلق بقشاية.
جلال والدموع تنهر من عينيه وبصوت يحمل قدرا كبيرا من المرارة والألم : تفتكري فيه أب يقدر يستحمل اللي انتي بتحكيه ده؟ .. لما أب يبتدي يشوف بنته بعين تانية يبص لملامحها وكأنه بيتعرف عليه لأول مرة، ثم يرفع رأسها بيده وينظر في عينيها قائلا بحسرة : حاسك غريبة عني .. واحدة معرفهاش .. بتحكي لي حكاية من ألف ليلة ولية كلها خيال في خيال .. مفهياش من الحقيقية إلا وجع بينزع القلب وبيخلعه من ضلوعه.
شهد وهى تتألم جراء كلام أبوها وفي صوت مكتوم : سامح يابابا.
جلال في تأثر واضح : نفسي .. والله نفسي .. بس للأسف ما سبتليش فرصة حتى أسامحك .. أقولك ايه : الله يسمحك ، وبصوت قادم من الأعماق : الله يسمحك ياشهد على اللي أنا حاسه دلوقتي.
ويستمكل (جلال) لحظة اجترار الأسى والحزن قائلا: أول مرة ضهري ينقسم وراسي تطاطي قصاد نفسي .. عشت عمري كله الدنيا تلخبط فيا .. بس ماحدش كسرني غيرك!.
شهد : خلاص اقتليني يابابا .. اقتليني أو سيبني أموت نفسي عسان ترتاحوا وارتاح من اللي أنا فيه ده.
جلال وقد هده التعب وشل تفكيره : حتى دي ما أقدرش عليها .. ما أقدرش غير إن أخدك في حضني واخبيكي جواه .. عندئذا ينتهى المشهد الذي برع في أدائه ياسر جلال بشجن مخلوط بالبكاء والحنو على ابنته المغلوبة على أمرها بفعل الخديعة.