طارق الذي طار في سماء الفن
بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
تعلم الموسيقى وبرع في العزف على العود، وصوته في الغناء جميل، يذكرني صوته بنمط فريد في الغناء، ذلك النمط الذي برع في الأداء والتعبير بحيث أنك تشعر بإحساسه قبل أن تشعر بجمال صوته، وليته غنى لنا بعض أغاني الشيخ إمام التي كتبها له الشاعر الكبير الراحل أحمد فؤاد نجم، عندما سمعته يغني في برنامج من البرامج وجدته أفضل من يغني مع الشيخ إمام أغنية: مصر يامه يا بهية يا ام طرحة وجلابية، وتخيلت صوته في أغنية الشيخ إمام: يعوض الله على الأخلاق، ولو اتجه إلى هذا النمط من الغناء لتفوق فيه وأظهر موهبة من مواهبه المدفونة، ولأنني لا أريد أن أطيل عليكم لذلك سأخبركم أنني لا أتحدث اليوم عن مطرب من المطربين، ولكنني أتكلم عن ممثل برع في التمثيل وفي طريقه لكي يكون من علامات جيله.
إنه طارق لطفي الفنان الجميل الذي يؤدي حاليا دورا فارقا في حياته الفنية في مسلسل (القاهرة – كابول)، وقد عنَّ لي أن أكتب عن هذا المسلسل ودور طارق لطفي فيه وأداء فريق العمل كله بدءً من التأليف للإخراج للتصوير للتمثيل، ولكنني قررت إرجاء ذلك لبعد انتهاء المسلسل لكي تكون النظرة بشأنه شاملة، وبالرغم من ذلك فقد سبقني قلمي وأصر على أن أكتب، فلم يكن لي إلا أن أكتب عن طارق لطفي الذي طار فوق سماء الفن.
الآن أصبح طارق لطفي من مشاهير جيله بعد أن ظن الناس أن الآخرين سبقوه، وإذ فجأة يظهر بقوة منذ سنوات قليلة ليأخذ مكانة متميزة، وأظن أن دوره في مسلسل (جبل الحلال) كان إشارة بدء التفوق والتميز، وأقر وأعترف أنني لم أكن أعرفه قبل هذا المسلسل، نعم رأيته في بعض الأفلام أو بعض حلقات من مسلسلات ما ولكنني لم أتوقف عنده ولم أهتم بمعرفة اسمه، ثم كان أن التقيته في االمرة الأولى منذ ستة أعوام، حينها كنت قد كتبت مسلسل (التنظيم السري) للإذاعة من أجل أن يكون المسلسل الرئيسي في إذاعة البرنامج العام لشهر رمضان، وحينما قرأ المخرج الإذاعي الكبير صفي الدين حسن ما كتبته تحمس لإخراجه، وتم عرضه على اللجان المختصة بالإذاعة فأوصت بأهميته، وبدأنا بعدها في البحث عن أبطال يترجمون هذا العمل تمثيلا، وكانت المفاجأة المؤسفة أن كثيرا من كبار الفنانين رفضوا المشاركة فيه خوفا من الإخوان، بعضهم قال لي: ابعدنا يا أستاذ عن الإخوان إحنا مش مستغنيين عن نفسنا.
وبعد جهد جهيد استطعنا أن نصل لفنان أردني هو (منذر رياحنة)، وهو ممثل مثقف وله خلفية سياسية وبُعد وطني عروبي، فقد كان خاله هو (وصفي التل) رئيس وزراء الأردن الذي اغتالته حركة فتح الفلسطينية عام 1971 أمام فندق شيراتون القاهرة عقب ما أطلق عليه سياسيا أحداث (ايلول الأسود)، لم يهتم منذر رياحنة بالإخوان ولا الخطر الذي من الممكن أن يأتي له منهم، وقال لي: من كان خاله (وصفي التل) لا يخاف من الإخوان ولا من اليهود، والأعمار بيد الله، وقبل منذر أن يقوم بدور عبد الرحمن السندي مؤسس التنظيم المسلح السري للإخوان، ورغم أن منذر لم يكن قد أجاد اللهجة المصرية بعد إلا أنه بذل جهدا جبارا ليتقن ليس اللهجة المصرية فحسب، ولكن اللهجة المصرية العامية التي كانت في فترة الأربعينيات.
وبقي أن نبحث عن البطل الرئيسي الذي يقوم بدور حسن البنا، فوقع في تفكير المخرج اسم طارق لطفي، فقفز اسمه في ذهني مرتبطا بدوره في مسلسل (جبل الحلال)، وتمنيت أن يقبل الدور، فقد كان وقع دوره في جبل الحلال على نفسي كبيرا، ولكنني اعتقدت أنه سيرفض وسيخاف من الإخوان كما خاف غيره، ولكن المفاجأة كانت في قبوله على الفور، ليس هذا فحسب، ولكنه رفض أن يتقاضى أجرا لأنه يؤدي دورا ليس فنيا فقط، ولكنه دور وطني يكشف كذب تلك الجماعة ودمويتها، ثم قام بترشيح ممثل آخر هو الفنان الجميل (خالد محمود) ليقوم بأحد الأدوار الهامة في المسلسل، وقد أحسن الترشيح وأحسن الاختيار.
وفي أيام العمل تعرفت على شخصية طارق لطفي الفنان، وكانت أول المفاجآت حينما عرض عليه المخرج مسمع صوتي للحن تتر المسلسل الذي كان من تأليف الموسيقار الكبير ميشيل المصري عليه رحمة الله، فأبدى طارق لطفي للمخرج بعض الملاحظات الفنية بخصوص اللحن، فتعجبت!! كيف لهذا الممثل أن يبدي ملاحظات ما على لحن من تأليف ميشيل المصري، ولكن في اليوم التالي زاد عجبي عندما عرفت من المخرج أنه عرض ملاحظات طارق لطفي على الموسيقار ميشيل المصري وأنه وافق عليها فورا وقام بإجراء تعديل على اللحن ليتفق مع التعديل الذي ارتآه طارق لطفي.
من هنا عرفت أن طارق لطفي كان يهوى الموسيقى منذ نعومة أظفاره، وأنه تعلم العزف على العود حتى أتقنه، وأنه درس الموسيقى مثل أي محترف، وأن أذنه موسيقية أو قل إنها من الأذن التي يُطلق عليها الأذن الذواقة، التي تتذوق النغمة فتقبلها أو ترفضها،فكان أن سمعته وهو يدندن بصوته المعبر، وأحببت طريقته في الغناء، وتخيلته كأنه صلاح جاهين وهو يغني “تركي بجم سكر انسجم” . ثم دخلنا في مناقشات دينية وسياسية، أدركت منها أنه فنان مثقف متنوع المعرفة، وحينما تطرقنا للقرآن الكريم عرفت أنه تعلم تلاوة القرآن وحفظ الكثير منه حينما التحق وهو صغير بكُتاب “الشيخ محفوظ” بأحد المساجد بحي حدائق القبة حيث كانت نشأته الأولى، وسمعته وهو يقرأ بصوته الجميل المعبر بعض آيات من القرآن الكريم، وأخبرني أنه تأثر كثيرا بإثنين من كبار القراء هما الشيخ محمد رفعت والشيخ مصطفى إسماعيل عليهما رحمة الله.
وقبل التسجيل كان يخلو إلى نفسه، يقرأ ليس دوره فقط ولكن باقي الأدوار خاصة دور من سيمثل معه، ويظل فترة عائشا في القراة، ثم يترك الورقة، ويجلس معي ليسألني عن شخصية حسن البنا، كيف كان هو، وكيف كان يفكر، كانت معرفة طبيعة الشخصية التي يؤديها هى أهم ما يبحث عنه، لذلك كان أداؤه هادئا بلا انفعال ولا تقعر، كان يؤدي شخصية البنا بالسهل الممتنع، فقد تمثل البنا في ذهنه وكأنه تاجر العسل الذي وضع السم في عسله، يؤدي برفق ولين ونعومة كالأفعى، أو كأنه الشيطان الذي يزين الفواحشن للإنسان، ولو قُدِّر لطارق لطفي أن يمثل تلك الشخصية تلفزيونيا لتفوق كثيرا بأميال وأميال عن أي ممثل أدى شخصية حسن البنا، ولكن القدر شاء أن يكون هذا الدور من الأدوار المخفية لطارق لطفي، لأنه كان إذاعيا، وليس للإذاعة في زمننا ما للمسلسلات المصورة تلفزيونيا من الذيوع والانتشار.
ولكنك تستطيع أن تعرف لمحة من أداءه وهو يؤدي دوره العبقري في مسلسل (القاهرة – كابول)، ستجد مخارج الألفاظ عنده منضبطة، ولغة الجسد عنده مبهرة، وملامح وجهه تُعبر عن الجدية والشر المبطن خلف قسمات الوجه، وهذه قدرة لا يستطيعها أي ممثل، ولأن الله وهبه صوتا مميزا لذلك فإنه لم يهدر تلك القدرة واستخدمها كما ينبغي الاستخدام، فالهدوء في موضع الهدوء والانفعال المدروس في موضع الانفعال، ليس برفع الصوت أو الصريخ والزعيق، ولكن مستوى الصوت أعاد لي طريقة أداء الفنان العالمي “مارلون براندو” في الفيلم الشهير “الأب الروحي” ومن هذه المقاربة ستعرف كيف أجاد طارق لطفي استخدام صوته، بحيث أنك لن تشعر أبدا أنه يمثل، ولكنك ستندمج معه وتعيش مع الشخصية التي يؤديها وتنسى تماما طارق لطفي، حتى أنني بالفعل نسيت وأنا أراه في المسلسل أنني أعرفه، ونسيت شخصيته التي أعرفها، وعشت مع الشخصية التي يؤديها بكل تفاصيلها.
ولأن الشيء بالشيء يذكر فإنني صُدمت من طريقة أداء بعض الممثلين الكبار في مسلسل (القاهرة – كابول)، خاصة من أدى شخصية رجل المخابرات الذي كنت أرى الكاميرا أمامه وهو يؤدي دوره، بل وكدت أرى المخرج وهو يوجهه، ويبدو أن اللحمية قد أصابت أنفه فأصابته بالخنف، فلم يكن مقنعا أبدا، وكان أداؤه مترهلا، رغم أنه كان في سابق أيامه من أبرز الممثلين في جيله، ولكن الترهل أصابه فأصاب أداءه بالتبعية، وبالطبع أعجبت ببساطة الفنان الكبير نبيل الحلفاوي، وظهرت حنان مطاوع بقدرات عالية جدا وكأنها تعيد للحياة والدها كرم مطاوع عليه رحمة الله، وقدرة أمها سهير المرشدي، وسأتوقف الآن عن الكلام المباح لأكتب لكم عن هذا المسلسل بكامله بعد رمضان إن شاء الله.