(يسرا وعمرو وراغب.. وأنا كارنينا)
بقلم : محمد شمروخ
لست معنيا بالاستفزاز المباشر الناتج جراء إعلانات المنتجعات الفاخرة عن الشقق والفيلات والقصور، فهذه الإعلانات اعتادها الناس على الكبارى ومفارق الطرق وعلى مواقع التواصل الاجتماعى على شبكة الإنترنت ووصل الاستفزاز برسائل على هواتفهم الخاصة في مكالمات ورسائل وإشعارات.
وفي التلفزيون في رمضان وفي غير رمضان وكل ما في الأمر أنه في شهر الصيام يتم تكثيف الإعلانات استغلالا للحالة المهرجانية التى تتنافس فيها القنوات التلفزيونية في عرض المسلسلات والبرامج ما بعد الإفطار والتى حولت رمضان نفسه إلى سوق إعلانية عملاقة ليس ثمة أي معنى سوى ذلك، حتى كاد الشهر الفضيل يفقد انتماءه الديني ونقاءه الروحي!.
لكن الذي أريد أن أنبه عليه هنا هو دلالة دورة رأس المال لدى القطاع الخاص في مصر الذي يعتبر الاستثمار العقارى هو مجاله الأول والأكثر ربحا، فهناك حرص على أن يتم إغلاق الدورة المالية على المشروعات الترفيهية على كل المستويات وأولها الاستثمار العقارى بعد نشر ثقافة ترفيهية جعلت الكثيرين يلهثون وراءها بلا وعي.
لكن ما أستشعره من خطر في الموضوع، ليس فقط تعملق الاستثمار العقارى وكأنه يخرج لسانه للدوله المنهكة في مشروعات البنية التحتية ومحاولات انتشال قطاعات عريضة من القرى والأحياء المعدمة والمصطلح عليها بـ (الأكثر فقرا)، ولكن مكمن الخطورة في أن الإعلانات عن المشروعات وإسالة اللعاب حولها بكم وكيف إبهار فوق المحتمل، تعكس رغبة محمومة في تشكيل ثقافة لمجتمع سيصيبه التفكك مستقبلا لأنه على وعد العيش في رفاهية من شأنها أن تصيب الناس إما بالإحباط عندما يجدون أنفسهم عاجزين حيال تحقيق هذه الرفاهية ومنتهى أحلامهم يتمثل في الانتماء لهذه المجتمعات الفارهة وإما أن يكونوا من نبت هذه الرفاهية التى ستخرج أجيالا من المترفين بكل ما يحمله الترف من معانى الأنانية والشعور بالتميز البغيض تجاه الآخرين وهي عقدة أصبحت عقيدة ثم تصير في حكم الحق الطبيعى لسكان تلك المنتجعات تجاه غيرهم ليعود التمييز الطبقى في أبشع صوره!.
فأرباب المال في مصر يدورون ملياراتهم في غير صالح الدولة ويتجاهلون مستقبل البلاد وهم يهدفون إلى مشروعات استهلاكية ستتحول إلى بؤر للأمراض الاجتماعية والأخلاقية، حيث سيكون الانعزال الحتمى وراء أسوار عالية وسيؤدى بدوره لتفسخ اجتماعى يلازمه شعور كاذب بالاستعلاء تجاه الآخرين ولو بين سكان هذه المنتجعات بعضهم البعض.
ولقد رأينا فى بعض الجرائم الجنائية والسلوكيات الأخلاقية ما يشير إلى هذا، فالتفاوت الطبقى هو من لوازم ثقافة الرفاهية ونتاج مستهدف من سياسة رأس المال (الحر) الذي فرض سيطرته على العالم بعد سقوط أكبر منافسية فيما كان يعرف بالكتلة الشيوعية التى سقطت مع الاتحاد السوفيتى منذ مفتتح التسعينيات.
فالإعلانات التى تترى بين المسلسلات والتى تؤثر حتى على تسلسل أحداثها وتشوش على متابعيها، هدفها الأول ليس الارتقاء السكنى للمجتمع وإلا شاهدنا إعلانات لكل المستويات والفئات، لكن رأس المال في مصر متسم بالأنانية المفرطة وخدمة القطاعات الغنية فقط حتى أنه لم يساهم مع الدولة بشكل جاد ليقدم حلولا لأهم مشكلتين تواجهان شبابها وهما إيجاد عمل أو الحصول على مسكن.
لقد رأينا في الولايات المتحدة في العقد الأول من الألفية الثانية، كيف تسببت مثل هذه السياسة العقارية في أزمة طاحنة فرشت أجنحتها السوداء على العالم كله وتم ترجمتها في أحداث أخرى في العالم، فقد تحول المواطنون من شاغلى المساكن الخاضعة لمنظومة القوانين التى فرضها النظام الرأسمالى الجشع التى تدثر بدثار ليبرالي ممزق، تحولوا إلى عبيد أو رهائن في بيوتهم لتلك الشركات بعدما عجزوا عن الوفاء لها بحقوها عليهم بعد أن تورطوا في أقساط وفوائد اكتشفوا أنها تستهلك غالب دخولهم ولعلها تفوقها، ولكن الدعاية لرأس المال المتوحش نجحت في لفت الانتباه عن تلك المشاكل الطاحنة التى لايزال يئن منها المواطن الغربي “رهين مسكنه الفاخر” بافتعالهم مشكلات عالمية وصراعات دولية وتسببت في إحداث موجة استعمارية محدثة بوجه أكثر بشاعة حتى كادث يوقع صداما مع الصين مرة ومع رسيا مرة أخرى وأخذنا نحن في منطقة الشرق الأوسط نصيبنا من التعرض لهذا السطو، حيث يتم أمام أعيننا تقسيم ثروات البترول والغاز في البر والبحر في ليبيا والعراق وسوريا (ومناطق أخرى) بمعرفة تلك الشركات التى تمكنت من أسر أجهزة الإعلام المكتوب والمسموع والمرئي والإلكترونى وجعلتها تعمل لحسابها للخروج من هذه الأزمات بإحداث أزمات أخرى قد لا تخطر على بال (أقرب مثال قضية الفتى الإيطالى جوليو ريجينى في مصر للتنافس بين إينى الإيطاية وبريتش بتروليم البريطانية في التناحر على امتياز غاز شرق البحر المتوسط).
قد تتهمنى بالمبالغة وأنا أتحدث عن إعلان بريء تغنى فيه يسرا أو راغب علامة أو عمرو دياب مع لفيف من مشاهير النجوم، لكن تأمل جيدا لتعرف ما الهدف من هذه الإعلانات؟!
أحاول معك الإجابة بأنه ليس إعلانا لمنتجع أو كومباوند لاستثارة ومداعبة خيالات الشباب، بل إعلان عن شبكة جبارة من شركات لرجال الأعمال والمستثمرين، فحتى (الزبون) الذي يملك ملايين أو يسعى للسكن فيها بأى وسيلة لتحقيق ذلك الحلم، هو ضحية لتلك الشبكة التى تستدرجه ليصبح تحت إمرتها مع تحرير عقد وحدته، ويمكنك أن تستفسر من أى ساكن لمنتجع فاخر وكيف يتم ابتزازه يوميا لتحقيق المستوى الرفاهي للحياة الفندقية التى اختارها.
ودعنى أوغل في النظرة السوداوية لأرى مصر وقد تحولت إلى منتجعات فاخرة متباعدة، ولكن قد انقطعت الصلات بينها وتمكنت منها العزلة حتى تصبح قواقع عملاقة لن ينتج عنها سوى تفسخ اجتماعى محتوم في الطبقات العليا التى عادت من جديد بمنظومة اجتماعية أشبه ما تكون بمنظومة مجتمع (أنا كارنينا) للعظيم تولستوى.
هل أنا مبالغ؟!
الأيام القادمة ستجيب عن هذا السؤال وغاية آمالى ألا تجاوز الأحداث ما أستشعرته من خطر!.
اللهم ألا وقد بلغت.. اللهم فاشهد!.