بقلم : محمد حبوشة
قدر من التخويف، وبعض التنفيس، وكثير من التحريض، هذا هو الشعار الذي يرفعه صناع الدراما التليفزيونية حاليا، وذلك بهدف تبرير أهداف تلك الجرعة العالية من العنف التي نشاهدها هذه الأيام على الشاشة الصغيرة، حتى أننا يمكننا القول بأن الدراما الرمضانية ليست سوى مرآة لوضع راهن ومحيط يزداد دموية ووحشية، بعد أن صارت دراما العنف و(البلطجة) ظاهرة واقعة، حقق منها كثيرون من الفنانين والكتاب والمخرجين مكانتهم وشهرتهم وثروتهم أيضا، وقد استفزت تلك الظاهرة بكل تأكيد القائمين على شؤون المجتمع، مع قناعتهم بالتأثير الكبير للدراما في تشكيل وجدان المشاهد، وتحديدا الأطفال والشباب، بما تسببه من تدمير للقيم الإيجابية ونشر ثقافة العنف وتجاوز القانون عبر رسائل سلبية يومية من خلال مسلسلات رمضان هذا العام.
كانت صورة البطل في الدراما العربية القديمة – قبل عقدين من الآن – تركز على ذلك الشخص الذي يدافع عن حق مهدور، أو يسعى لاستعادة حياة ناعمة نزعتها الظروف الاجتماعية منه، وكانت تلقى تلك الشخصية الإشفاق وتحظى بالتعاطف بين جمهور المتلقين قديما، واليوم نشاهد في الكثير من الأعمال الدرامية نفس البطل الذي يمارس أعمال البلطجة في الحارة بقوته الجسدية وألفاظه التي تجافي الذوق، وقدرته على الخروج على القانون، والاتجار في المخدرات، والعنف ضد المرأة، والعنف اللفظي.. صور كثيرة لنماذج في العديد من المسلسلات تجرح المشاهد وتشوه صورة المجتمع.
هذه الصور أصبح لها حضورها القوي على الشاشة الصغيرة، وتتداول عبر فيديوهات قصيرة على (يوتيوب) ومواقع التواصل الاجتماعي، ويقلدها بعض أفراد المجتمع، فلا يزال مشهد الممثل المصري محمد رمضان الذي اقتص من أحد أعدائه في مسلسله (الأسطورة) الذي عرض في دراما رمضان 2016، عالقاً بأذهان المشاهدين، حيث كان هناك شخص صور زوجته وترصد لها، ونشر صورها على مواقع الإنترنت، فانهال عليه البطل ضربا وألبسه رداء لا يصلح إلا للنساء، الأمر الذي أصاب بعض المشاهدين بالصدمة، حتى أن البعض تأثر به في الواقع واتبعه كأسلوب عقاب في الشارع المصري، ولعل هذا المشهد الذي يعبر عن غياب القانون واللجوء للقوة الشخصية جزء من عشرات المشاهد التي تعبر عن نماذج ضارة لا تخدم المجتمع.
ولأن محمد رمضان واحد رائدا من رواد هذا اللون من الدررما، بل هو من مؤسسي دراما البلطجة والعنف فقد وجد ضالته المنشودة منذ عام 2016، وحتى الآن حيث يقوم بدور البلطجي بصور مختلفة كما جاء في مسلسلاته (نسر الصعيد، زلزال ، البرنس) والآن في مسلسله الرمضاني (موسى) الذي يمارس العنف والبلطجة على طريقة (أدهم الشرقاوي أو روبن هوود)، فلا تخلو حلقة من مشاهد استعرض عضلاته وقوته وترويضه للتماسيح والثعابين وغيرها من دعوات حق يراد بها باطل جراء تعرضه للظلم والقسوة من جانب بعض أفراد المجتمع الذي يعيش فيه، وكأن فكرة ارتدائه ملابس رثة أو هجومه على معسكرات الإنجليز أو استعادة عنزة أو جاموسة،أو بقرة لصاحبتها تبرر له ممارسة العنف والقتل العشوائي.
ولا يتوقف الحديث عن العنف الموجود في مسلسلا رمضان 2021، كما جاء في مسلسل (نسل الأغراب) الذي الذي يزدحم بالمشاهد العنيفة التي ليس لها أي مبرر درامي سوى استعراض قوة (أمير كرارة، وأحمد السقا)، اللذين يعيشان طوال الوقت في مشاحنات واجترار ذكريات الدم والثأر الذي دار للأسف في أسرة واحدة، ولست أدري ما القيمة الإنسانية المضافة للمشاهد جراء قصة تحمل كل هذا القدر من العنف والغضب والضغينة بين الأشقاء وأبناء العمومة الذين يتصارعون على حفنة من العامة والدهماء الذين يسكنون العشش، بينما هم يسكنون القصور الفخيمة التي تتفوق في ثرائها على كل قصور وفيلات العاصمة في جاردن سيتي والزمالك، والمدن الجديدة ببهائها، وحتى العاصمة الإدارية والعالمين والسخنة وغيرها من قصور رواد المجتمع المخملي.
وعلى شاكلة نسل الأغراب يأتي مسلسل (ملوك الجدعنة) الذي يخاصم الحارة المصرية الشعبية، حيث يخلو من قيم وعادات وتقاليد تربي عليها (ولاد البلد) ويلجأ إلى العنف والعراك والبلطجة بطرق استفزازية لاتسيئ إلى الحارة الشعبية فحسب، بل تسئ للمجتمع المصري كله عندما يتخد (عمرو سعد ومصطفى شعبان) منهجا قائما على البلطجة في رد الحقوق بعيد عن دائرة القانون، وكذلك الحال مع مسلسل (لحم غزال) حيث قامت النجمة (غادة عبد الرازق) بارتكاب جريمة غاية في البشاعة بحرق (حمدي المرغني) بأعصاب باردة، معللة ذلك بأنه نوع من الانتقام لابنه الهارب من جحيمها أصلا، وعلى درب آخر من القسوة والعنف نجد مسلسل (اللي مالوش كبير)، والذي يتفنن فيه (خالد الصاوي) في تعذيب زوجته (ياسمين عبد العزيز) بطريقته السادية، وتتشابه أجواءه مع أحداث مسلسل (وكل ما نفترق) الذي يحظى بقدر من العنف الذي يمارس ضد (ريهام حجاج).
هكذا وبكل وقاحة، تعلن شركات الإنتاج والمؤلفين والمخرجين والممثلين موت المشاعر والعلاقات الإنسانية لتحل محلها عوالم الجريمة والأجواء البوليسية ضمن أوساط اجتماعية محرومة من كل ما تشاهده من رفاهية على الشاشة وحالمة بالثروة، وتحسد ما يتمتع به السارق من ذكاء وسرعة بديهة، بجانب قدرته على رفع مستوى (الأدرينالين) لدى الجمهور؛ الأمر الذي يزيد من التعاطف مع اللصوص، وتبرير انسياقهم وراء الجريمة، كما أن النساء صرن بدورهن أشبه بفتيات جيمس بوند: جمال بملامح شريرة، غواية لا حدود لها، ومنافسة للذكور في حب المال والسطوة، فلا رقة ولا مشاعر ولا حنان ولا من يحزنون.
ترى، ما الذي جعل الدراما الإنسانية التي ينبغي أن تغوص في أعماق الذات البشرية وتهتم بصراع القيم والمشاعر، تنزاح لتترك مكانها إلى لغة العنف، كما لو كنا في مجتمعات مافيا المال والجريمة المنظمة، في حين أن الأسرة العربية مازالت متماسكة ومحافظة على قيمها الأخلاقية والروحية؟، بينما الموسم الدرامي لهذا العام استثنائي ولا يشبه ما قبله على أكثر من صعيد، فهو محاصر بكورونا على مستوى التوقيت وظروف الإنتاج، وكذلك طبيعة المواضيع المطروقة، ولكن ثمة (جائحة) أخرى بدأت تهيمن وتوجد لها مكانا في المشهد الدرامي المصري وهى مسلسلات العنف والجريمة والمطاردات، مما يهدد المواضيع المتعلقة بالمشاعر، والتي هى الأصل في الدراما الإنسانية، هذا رغم الارتياح العام الذي سجله حضور المرأة.
يبدو أن العنف سيكون هو العنوان المحوري للنسبة الأكبر من إنتاجات الدراما التلفزيونية في الفترة القادمة، فبعد سنوات من هيمنة القصص والحكايات العاطفية والرومانسية، ها هي ظاهرة الأعمال الدرامية التي تعتمد موضوع (العنف) تجتاح القنوات والمنصات التلفزيونية العربية، لقد كانت التلفزيونات الرسمية والخاصة تتحفظ على مشاهد العنف، ولكن سرعان ما تغير مزاج المشاهد تأثرا بالنسبة الأكبر من الأعمال السينمائية والتلفزيونية القادمة من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وشرق آسيا .. حيث (تيمة) العنف هى الحاضر الأساسي، ويصدر المسلسل معضلة الفن الأعمى، الفن الذي يفتقد للغاية والقدوة ونموذج البطل، وأكثر ما يمكن أن يضرب منطق العمل في مقتل، وما يشابهه من أعمال تسلط الضوء على توظيف البلطجة وتبرير شق طريق الإنسان في المجتمع المصري عبرها.
يا صناع الدرما المصرية : مصر في حاجة لإعادة تشكيل وبناء الشخصية القومية بعد كل التشويه الذي تتعرض له من خلال آليات تشكيل البطل المضاد، القائم على العنف والبلطجة والفساد، ربما يكون المجتمع المصري قد حظي بعدة جرائم مروعة وقعت في الفترة الأخيرة، ومن ثم يجب أن تشغل تلك الظاهرة علماء الاجتماع والدراسات الإنسانية، وفي الواقع كانت العديد من الأصوات قد حذرت من شيوع نموذج البلطجي معتاد الإجرام في الدراما التلفزيونية والسينمائية المصرية خلال السنوات الماضية، والتي وصلت لذروتها هذا العام في رمضان بخمس مسلسلات على الأقل، وأثر ذلك على سيكولوجية العنف الجماعي وشيوعها في المجتمع المصري.
وقد لاحظت أن هذه الأعمال تعتمد على المنطق الاجتزائي، أو سرقة مقطع محدود من الحياة الاجتماعية الواسعة وتحويله لمحور ومركز للكون في مصر، على عكس الواقع المفعم بالتدافعات وحلم معظم الطبقة الوسطى بالقيم الإنسانية العليا، ولهذا تربط العديد من الدراسات العلمية بين الفن وصورة البطل التي تظهر به، وبين تشكيل وعي وثقافة الإنسان/ المشاهد، فقديما كان الإنسان يكتسب معارفه وثقافته عن طريق الأسرة والعائلة والأصدقاء والجيران والمدرسة بالخبرة والممارسة والاحتكاك، لكن الدراما المصورة والأعمال السينمائية أصبحت من أكثر الآليات الاجتماعية المعاصرة إلحاحا وتكرارا وقدرة على تشكيل الوعي الجماعي، وربما يصف البعض العملية بغسيل المخ الجماعي وتوجيه السلوك المجتمعي.
إن مصر ياسادة في حاجة لإعادة تشكيل وبناء الشخصية القومية بعد كل التشويه الذي تتعرض له من خلال آليات تشكيل البطل المضاد، القائم على العنف والبلطجة والفساد ومنطق تبرير القبح والجريمة، وبنظرة فاحصة وسريعة نحو المسلسلات المقدمة في موسم رمضان الحالي يظهر لنا تراجعا واضحا للدراما الاجتماعية وذلك لصالح أعمال وصفها الكثير من النقاد بالهجينة والعصية على التصنيف، فإما أن تكون شبه بوليسية من تلك التي تعج بالعنف والمطاردات والتحقيقات المتمحورة حول جرائم المخدرات والسرقة والفساد والدعارة بنكهة أميركية منتهية الصلاحية، أو أن تكون مسلسلات تغازل الماضي، سواء كان قريبا أو بعيدا، علاوة على أعمال تقدم نفسها ككوميديا فانتازية أحيانا أو (عائلية) أحيانا أخرى، فلا نكاد نعثر على ما يضحك فيها سوى الأداء المتواضع والفكرة الباهتة.
قد يكون من المبكر الحكم على هذه الأطباق الدرامية التي خرجت لتوّها من مطابخ الإنتاج، ووسط ظروف استثنائية فرضتها جائحة كورونا وما أنجر عنها من صعوبات إنتاجية وتسويقية، بالإضافة إلى المناخ النفسي العام الذي طال مثلث التمويل والصناعة والتلقي، لكن (المكتوب باين من عنوانه) كما يقول المثل العامي، فقد ظهرت موجة دراما العنف في المسلسلات بعد أن تخطت حدودها، لكونها تنمي ثقافة العنف على الرغم من أنه من المفترض أن يسهم الفنانون في تقديم محتوى درامي لائق، حتى لا تنتشر ظواهر العنف اللفظي والجسدي، ومن ثم تظهر صورة تاجر المخدرات على أنه بطل يستطيع الإفلات من العدالة، وكثير من هذه الصور المرفوضة اجتماعيا وخلقيا وإنسانيا.
من المؤكد أن السينما المصرية والدراما التليفزيونية خلال تاريخهما لم يميلا للعنف بشكل عام وما قدمه الفن المصرى – خاصة السينما – عبر مائة عام من أعمال تتضمن عنفا لا يمثل سوى استثناءات من جملة الأفلام التى أنتجتها السينما فى حين لم تشهد الدراما التليفزيونية المصرية أعمالا تتسم بالعنف إلا فى السنوات القليلة الماضية، وهذا ما جعل بعض علماء الاجتماع والنقاد الفنيين يحملون الدراما مسئولية كبيرة تجاه تنامى تلك الظاهرة، كما يبدو واضحا أن الأعمال السينمائية التى تفرط فى تقديم مشاهد عنف أو قسوة أو تجميل للشر أو انتصار لقيم البلطجة، والخروج على القانون، لها تأثير خطير على الشباب فى سن المراهقة، ومن ثم لابد لنا من تقديم شخصية البطل المحبوب كنموذج خير ومحب للناس، ويتمتع بإحترام وهيبة من حوله يجعله فى النهاية أكثر قبولا وجاذبية للشباب المراهق.
وفي النهاية : هل يحاكم الجمهور دراما العنف في هذه الأيام، خاصة أن لها التأثير السلبي والسيئ على فئات المجتمع كافة؟، ومن المسؤول عن انتشار مثل هذه الأعمال، المنتج الباحث عن الربح، أم المخرج الباحث عن الإثارة، أم الفنان الباحث عن الشهرة والانتشار..؟ تساؤلات تبحث عن إجابة وافية بعد أن تم وضع الجميع في قفص الاتهام، دون استثناء..! والآن ما رأي المجلس الأعلى للإعلام من كل تلك الظواهر السلبية التي تضر بالمجتمع وتنسف قيمة وتعلى من شأن البطل البلطجي الغارف في براثن العنف والتردي.