رمضان .. شهر الإعلان
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
مع حلول شهر رمضان المعظم تهل علينا مظاهر محددة كل عام ، فبعيدا عن أن رمضان هو شهر العبادات و الرحمات و أنه يضم ليلة بألف شهر ، و يرتبط بالتراحم و التبتل و التهجد و الاعتكاف إلا أن الشهر المعظم صاحبته عند المصريين – على مر العصور – إلى جانب العبادة مظاهر خاصة ، و لا أقصد هنا تزيين الشوارع أو المحلات فى الأحياء الشعبية أو انتشار سرادقات بيع المكسرات و الحلويات و الفوانيس ، و لكن هناك مظاهر أخرى تهل مع الشهر الكريم مرتبطة بالأكل و بالترفيه بدأت مع عصور الفاطميين ، ففى تلك العصور ارتبط الشهر بمجموعة من الأكلات و خاصة الحلوى سواء فى رمضان أو فى العيد ، و ارتبط أيضا بالفانوس الذى تحول إلى رمز لهذا الشهر و لم تستطع الكهرباء و التكنولوجيا الحديثة من أن تجعله يندثر ، كما كانت قصور الكبراء تمتلئ بالمقرئين و المنشدين ، و بداية من ظهور المقاهى ظهر رواة السيرة . و مع انتشار الراديو فى العصر الحديث ارتبط الشهر بصوت القارئ العبقرى محمد رفعت ، و صوت الفنانة القديرة زوزو نبيل التى قدمت دور شهرزاد فى مسلسل إذاعى لعدة سنوات ، ثم فى فترة لاحقة ارتبط بصوت الإذاعية آمال فهمى و هى تقدم لنا فوازير رمضان التى كتبها بيرم التونسى ، ثم استمرت بعد وفاته بفضل صلاح جاهين.
ثم مع ظهور التليفزيون صارت هناك فوازير أخرى مصورة بدأت بثلاثى أضواء المسرح ، و تناوب عليها النجوم حتى حل العصر الذهبى لها على يد المخرج الكبير فهمى عبد الحميد الذى كان أول من استخدم الخدع التليفزيونية ببراعة شديدة ، فقدم لنا فطوطة ثم نيللى و شريهان ثم توالى من بعده المخرجين ، حتى صارت الفوازير من معالم الشهر ، و من القضايا الهامة التى يستعد لها مبنى التليفزيون بأكمله و يوفر لها كل الإمكانات ، و كان السؤال الأهم قبل بداية الشهر لمن تكون البطولة هل ستكون لنيللى أم شريهان؟ و يمضى الناس يتجادلون أيهما أفضل حتى كادا أن يتحولا إلى (أهلى و زمالك) و عندما أعلن التليفزيون أنه لن يقدم الفوازير فى أحد الأعوام انتشرت دعابة : هل سيكون صومنا مقبولا بدون فوازير أم لا ؟.
و مع ظهور التليفزيون ظهرت أيضا المسلسلات التى بدأت دينية ثم صارت فى كل موضوع – حتى لو تناقض مع الشهر الكريم – و فى نفس الشهر كانت بداية المسلسلات ذات الحلقات الثلاثين و أيضا مسلسلات الأجزاء المتعددة ، و مع التطور و انتشار القنوات الفضائية بات هناك صراع بين شركات الإنتاج لعرض أعمالها فى رمضان بسبب كثافة المشاهدة خلاله ، حتى وصل عدد المسلسلات المعروضة على القنوات العربية فى أحد الأعوام إلى 75 مسلسل ، أنتجت مصر وحدها أكثر من 30 مسلسل.
و مؤخرا ارتبط الشهر بالإعلانات ، فجميع الشركات أصبحت تستغل كثافة المشاهدة للقنوات التليفزيونية لتعلن عن سلعها . و قبل أن تظهر شركات المحمول ( المعلن الرئيسى حاليا ) كانت شركات المشروبات الغازية و مصانع السمن و الزيت و الصابون و أدوات التجميل و الأجهزة المنزلية هم المعلن الرئيسى ثم انضم لهم مؤخرا الجمعيات الخيرية و المستشفيات ، التى صارت من أكبر المعلنين فى شهر رمضان ، لتتنافس على 8 مليار جنيه يتبرع بها المصريون فى الشهر الكريم .
و بزيادة حجم إعلانات و تنافس المعلنين صارت الإعلانات تغطى على المسلسلات و البرامج ، فقد تقلصت حلقات المسلسلات لتتيح مساحة للإعلانات ، فبعد أن كانت الحلقة الواحدة لا تقل عن 45 دقيقة وصلت بعض الحلقات إلى 25 دقيقة يتم عرضها فى ساعة و نصف . 90 دقيقة كاملة يجلس فيها المشاهد أمام التليفزيون ليشاهد مادة درامية فى أقل من ثلث الوقت و الثلثين للإعلانات . و لم يقف الأمر عند هذا بل أصبح صاحب الإعلان هو المتحكم فى المادة المقدمة دراميا أو فى النجوم المختارين ، فمنتج المسلسل يعلم أى النجوم يفضلهم المعلنين و يسعى للتعاقد معهم بأى ثمن .
و من قبل أن يبدأ الشهر الكريم هذا العام بدأت مظاهره تهل علينا ، فقد امتلأت الشوارع بإعلانات المسلسلات و ذلك تشجيعا للشركات على اختيار المسلسلات التى ستعلن أثناءها ، أما الشركات الكبرى كشركات المحمول أو المشروبات الغازية أو الجمعيات الخيرية فهى تعلن فى جميع القنوات و الأوقات و داخل كل المسلسلات تقريبا . و لكن للأسف الشديد لا تعلم معظم الشركات أن المبالغ الضخمة التى تدفعها للإعلانات لا قيمة لها أو على أقل تقدير أن العائد منها أقل بكثير مما تدفعه ، فمنذ سنوات قريبة و مع انتشار استخدام الشبكة العنكبوتية صارت الأكثرية تفضل مشاهدة المسلسلات بلا إعلانات على اليوتيوب ، و مع انتشار المنصات فمن المتوقع عدم مشاهدة المسلسلات فى التليفزيون هربا من الإعلانات التى أصبحت تتكرر إلى حد الإملال . بل بدأت شكوى المواطنين تظهر منذ اليوم الأول لرمضان ، ثم بدأت دعوات مقاطعة مشاهدة المسلسلات بسبب الإعلانات منذ اليوم الثانى ، حتى اضطر المجلس الوطنى للإعلام لإصدار بيان ينبه فيه القنوات لكثرة الإعلانات التى تنتهك حقوق المواطن فى مشاهدة ممتعة.
ففى مصر تختلف أساليب الدعاية عن أى بلد آخر ، ففى داخل المسلسل الواحد يتكرر نفس الإعلان عدة مرات ، بل وصلت إلى تكرار نفس الإعلان فى نفس الفاصل ، مما جعل مشاهدى التليفزيون يعتبرون فترة الفاصل الإعلانى هى فترة القيام بأى عمل بعيدا عن شاشة التليفزيون كالاتصال التليفونى أو مراقبة وسائل التواصل أو الانتقال إلى قناة أخرى لمشاهدة جزء من مسلسل آخر حتى تنتهى الإعلانات . و هكذا تحولت الإعلانات إلى مادة طاردة بدلا من أن تكون مادة جاذبة و خاصة فى النصف الثانى من رمضان حيث تتضاعف أعداد الجهات المعلنة.
و بما أن الإعلانات لم تعد تجدى ، و خلال سنوات قليلة من المتوقع اختفاؤها من على الشاشة نتاج لانتشار المنصات التى ستبدأ من العام الحالى فى إذاعة معظم مسلسلات رمضان فى نفس الوقت مع القنوات ، فمن الأفضل التفكير فى وسائل اخرى للدعاية ، و أعتقد أن أفضل وسيلة للدعاية لشركات المحمول هى تحسين الخدمة بدلا من الإعلانات التى تستهلك ميزانية خرافية . فالشركة التى ستعطى تسهيلات حقيقية و حوافز مجدية ستزيد أرباحها ، بدلا من الشكاوى المتكررة من سوء الخدمة ، و لكن شركات المحمول فى مصر تعاملنا و كأننا أيتام على مائدة اللئام ، فبرغم أن هناك 94 مليون مستخدم للخدمة يصرفون سنويا أكثر من 12 مليار جنيه على المحمول ، تحقق للشركات أكثر من 6 مليار جنيه أرباحا ، و برغم أن الحكومة تمتلك إحدى الشركات الأربعة العاملة فى المجال كما تمتلك حصة كبيرة فى شركة فودافون ، و تكاد تحتكر أكثر من 70 % من النت المنزلى ، كما أنها تتقاضى ضرائب ضخمة من شركات المحمول و من مستخدميه على السواء ، فليس هناك أسوأ من الخدمة فى مصر ، سواء على مستوى التليفونات المحمولة أو النت ، بل أن هناك هاشتاج خاص بأكبر شركة تستحوذ على مشتركين يدل على سوء الخدمات لديها الذى تبرره بأن الحكومة لا تسهل لها إقامة أبراج لتقوية الإرسال و أن الأهالى يرفضون اقامتها فوق منازلهم خوفا من آثارها الضارة على الصحة.
فلماذا لا تعطينا تلك الشركات دقائق مجانية ( حقيقية ) فى رمضان عوضا عن سوء الخدمة ( و المقصود بالدقائق الحقيقية هنا أى القابلة للاستخدام ، فمعظم الشركات تضع شروطا صعبة التحقق للحصول على عروضهم ، كأن يعطيك أضعاف الشحنة بشرط استخدامها خلال ساعات محدودة ، مما يستحيل تنفيذه عمليا ) . أعتقد لو أن هذه الشركات ضحت فقط بنصف تكلفة إعلاناتها و أعطت مقابلها دقائق مجانية سيدعو المصريين لتلك الشركات بأن ( تطول أبراجهم و تكتر اشتراكاتهم و تزيد تردادتهم ) و لن يحتاجوا للإعلان مرة اخرى ، و بذلك يتوفر لهم بعضا من تكاليف الدعاية كما سيكسبون دعوات المشتركين لهم بدلا من الدعوة عليهم فى هذا الشهر الكريم .