مطربون قرأوا القرآن: عميدتهم أم كلثوم
بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
هل سبق لك أن غنيت وأنت جالس في غرفتك بعيدا عن عيون وأسماع الناس؟ أنا أكاد أقسم أنك فعلت ذلك، بل من الممكن أن تكون قد قمت بتسجيل مقاطع صوتية لك وأنت تغني حتى ولو كان صوتك لا علاقة له بالجمال، فالهواتف الحديثة أعطتنا إمكانيات التسجيل بلا رقيب ولا رقابة، وكلٌ يعشق صوته، وكلمة في سرك أنا عن نفسي غنيت في غرفة مغلقة ثم عندما سمعت صوتي أقسمت ألا أعود إلى الغناء أبدا رحمة بالمستمعين، ولكن السؤال الأهم هل أغلقت على نفسك في أحد الأيام غرفتك ثم قمت بقراءة القرآن مستخدما ما فهمته من أحكام التلاوة سواء ما يتعلق بالمد والغُنَّة والقلقلة والإضغام وما إلى ذلك؟، أنا أيضا ودون أن يكون هذا سرا فعلت ذلك كثيرا خاصة عندما كنت في فترة المراهقة، إذ وسوست لي نفسي أنني من الممكن أن أنافس الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، ولما لا ؟ فإذا كان الشيخ قارىء القرآن الصييت اسمه عبد الباسط فأنا أيضا اسمي ثروت عبد الباسط، وإذا كان والد الشيخ عبد الباسط اسمه محمد فجدي أيضا اسمه محمد، وإذا كان الجد الأكبر للشيخ عبد الباسط هو “المراعزاوي” نسبة إلى قرية المراعزة بأرمنت، فجدي الأكبر هو “الخرباوي” نسبة إلى قرية خِربا، والفارق بين المراعزاوي والخِرباوي ليس كبيرا، ولكنني لم أكن أدرك أن المسألة ليست بالأسماء والأنساب، ولكنها بالحناجر والعلم والمعرفة، وقد كنتُ صاحب أسوأ حنجرة أنجبتها قبيلة الخرباوي، أما عبد الباسط عبد الصمد فقد كان صاحب حنجرة ذهبية لا مثيل لها في مصر والشام والحجاز وبلاد تركب الأفيال.
المهم أنني أدركت أيضا وأنا في تلك السن المبكرة أن قراءة القرآن لها أصولها، وأن المدرسة المصرية في قراءة القرآن هي الأعلى والأجمل والأحلى، فلا مدرسة الحجاز تشفي غليلي، ولا مدرسة المغرب العربي تروي ظمأي، فمدرسة الحجاز لا تهتم إلا بإلقاء الكلمات من فم المقرىء سريعا وكأن كلمات القرآن عبء عليه يريد أن يتخلص منه سريعا، في حين أن المدرسة المصرية تعرف أهمية الحرف من القرآن، وقيمة التشكيل وحلاوة النطق به، فكأن القرآن في فم المقرىء حلوى ناعمة طرية لذيذة لا يريد أن ينتهي منها ولكنه يحرص على أن تظل ساكنة في فمه أطول فترة ممكنة لينال من لذتها، لذلك فإن القارىء المصري يبدع ويطرب ويشجي ويُبكي ويسعد، القارىء المصري يجعلك تنال كل أنواع اللذة الروحية، ولكن ماذا عن مدرسة المغرب العربي، أقول لك يا سيدي أنه بالرغم من عراقتها إلا أنها تأثرت بالقراءة الأندلسية القديمة، التي كانت بدورها قد تأثرت بالتراتيل الكنسية، لذلك فإذا استمعت إلى القرآن من أحد القراء المغاربة المشاهير سيخيل إليك أنك تستمع لترتيل كنسي، أو لقرآن يُقرأ على مقبرة أحد الأموات لنطلب له الرحمة!.
لذلك فقد عشت أومِن بأنك يجب أن تقرأ القرآن في كل حين للعبادة والتفكر والتدبر، لا يستطيع أن يحجر عليك أحد، فالله سبحانه طالبنا جميعا بذلك، وقد جعلنا قراءة القرآن عبادة لله في شهر رمضان الكريم، ولكنني أنصحك أن تقرأ القرآن في غرفتك بعيدا عن الأسماع إذا كان صوتك مثل صوتي، فإذا كنت من أصحاب الأصوات الجميلة فيجب أن تتعلم أصول القراءة لكي تتحول قراءتك إلى معزوفة إيمانية روحية تهز القلوب وتحرك المشاعر، فماذا لو كنت مطربا جميل الصوت وقرأت القرآن الكريم؟، الذين يحبون القرآن ويحبون الاستماع للقراء أصحاب الأصوات الجميلة يعرفون أن بعض المطربين المشاهير قرأوا القرآن بأحكامه وقواعده، وقد كان أكثر من أجاد فيهم هو الشيخ سيد مكاوي، فقد كان عارفا لقواعد القراءة، وهو مغموس من حنجرته إلى تلافيف أحباله الصوتية في المدرسة المصرية، ورغم أنني لم أسمع له إلا تلاوته لسورة الضحى وكان متأثرا فيها بطريقة الشيخ محمود علي البنا، إلا أنه يتضح منها أن سيد مكاوي رحمه الله أجاد استخدام المقامات الموسيقية في قراءته وانتقل من مقام لآخر بسهولة، وكم تمنيت أن تكون له مسامع صوتية أخرى تشنف آذاننا وتحيي قلوبنا بهذا الأداء العذب الجميل.
وهناك مطربون آخرون قرأوا القرآن وأمتعونا بحلاة القراءة، فالكل على ما أعتقد استمع لأم كلثوم وهى تقرأ آيات من سورة إبراهيم، وقد اتضح من قراءتها أنها تتقن قواعد القراءة وتجيد أحكام التلاوة وكأنها من أكبر قراءة القرآن، أو كأنها احترفت القراءة لفترة من عمرها، إذ لا يمكن أن تقرأ أم كلثوم بهذه الإجادة إلا إذا كانت قد احترفت القراءة في فترات حياتها الأولى، ولذلك فإنني أقول إن أم كلثوم هى أستاذة المطربين في قراءة القرآن، ومن الممكن أن نضعها في مصاف الشيوخ الكبار مثل محمد رفعت ومصطفى إسماعيل وعبد الباسط عبد الصمد والبنا، وعلى عكس أم كلثوم نستمع لموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، فرغم حلاوة صوته التي لا ينكرها إلا جاحد إلا أنه وهو الذي تربى في أحضان المقرأين وكان والده من قراء القرآن في مسجد سيدي الشعراني، إلا أن قراءة محمد عبد الوهاب لسورة الضحى في التسجيل الذي وصل إلينا يدل على أنه كان في مرتبة الهواة لا المحترفين، فهو بقدر الإمكان حاول أن يقرأ مثل القراء المحترفين، ولكنه وقع في العديد من أخطاء التلاوة، فهو لا يعرف مواضع القلقلة، إذ نطق القاف بالسكون وهي ينبغي أن تُقلقل، (والقلقلة هى هز الحرف في اللسان عند نطق بعض الكلمات الساكنة مثل حرف القاف وحروف الدال والباء والجيم والطاء)، أما حرف السين عند عمنا عبد الوهاب فهو في الضياع، وانتقاله من مقام لآخر في تلاوته كان يتم بشكل عشوائي غير متناسق، ومع ذلك فإن حلاة صوته تشفع له، ولو كان حيا لطالبناه بأن يستمر في القراءة حتى ولو وقع في أخطاء الهواة.
مطربتنا الكبيرة وردة الجزائرية، هي الأخرى وقعت في العديد من الأخطاء وهي تقرأ القرآن في فيلم (ألمظ وعبد الحامولي) من سورة آل عمران، كانت تلاوتها من باب الهواة لا المحترفين، فهي لا تعرف أحكام الترقيق والتفخيم، فحينما نطقت كلمة (أغنياء) نطقتها “الغين” مرققة، في حين أنها تنطق في هذا الموضع تفخيما فترقيقا، ولو استمعت للشيخ الحصري وهو يقرأ هذه الآية (ونحن أغنياء) لعرفت كيف تقرأها، كما أن مخارج الحروف عندها ليس فيها إتقان، ولكنها مثل عمنا موسيقار الأجيال، يشفع لها حلاوة صوتها الذي يجعلنا نغض الطرف عن أخطاء الهواة في قراءتها.
وقد قيل إن عبد الحليم حافظ قرأ القرآن وسجل بعضه إلا أننا لم نستطع الوصول إلى تلك التسجيلات رغم أنني بحثت عنها كثيرا وجبت البلاد والفيافي أجلس مع كبار الموسيقيين حتى أظفر ولو بآية بصوت عبد الحليم ولكنني لم أنجح في ذلك، وإن كان الموسيقار الكبير ميشيل المصري عليه رحمة الله أخبرني أنا والمخرج الإذاعي الكبير صفي الدين حسن بأنه كان يمتلك اسطوانة قديمة لعبد الحليم وهو يقرأ القرآن ولكنها ضاعت منه، وأخبرنا أن أحد كبار الأثرياء من الخليج عرض عليه الملايين ليقدم له تلك الأسطوانة ولكنه أخفق في العثور عليها، ولا يبقى لنا إلا أن نطلب من إبن الموسيقار ميشيل المصري أن يبحث عن تلك الأسطوانة فإن وجدها فإنه بمجرد وضعها على اليوتيوب سيحصل على ملايين أكثر من الملايين التي تم عرضها على والده.
ومن المطربين العرب نجد من قرأ القرآن بطريقة الترتيل مثل المطرب طلال مداح والمطرب محمد عبده وأيضا حسين الجسمي، كما أن كاظم الساهر حاول أن يقرأ القرآن في مشهد تمثيلي في عمل درامي ولكن الأداء دل على عدم معرفته لقواعد القراءة، ويبقى لنا أن نتحدث عن فاكهة المطربين الذين قرأوا القرآن، إنه المطرب بهاء سلطان، ذلك المطرب الذي اشتهرت له أغنية (قوم اقف وانت بتكلمني) وهو صاحب صوت عذب جميل مؤثر، ومنذ عام أو أكثر اتجه بهاء سلطان لغناء بعض التواشيح الشهيرة للشيخ المبتهل محمد عمران، وقد أدى بهاء سلطان الابتهالات كأروع ما يكون، وكأنه ينافس بقوة الشيخ عمران، إلا أن المفاجأة الكبيرة كانت عندما قرأ آية من سورة الرعد، وكم كان مجيدا ومبدعا وهو يقرأها، متحكما ومتمكنا من قواعد التلاوة، عارفا بأحكامها، وكأن البهاء قد أطل علينا من صوت بهاء في سورة الرعد، فلا تدري هل القارىء الذي يقرأ هو محمد رفعت كبير قراء مصر منذ عهد التسجيلات إلى الآن، أم أنه بهاء سلطان، ثم تتوه معه كلما استمعت له، فهو قد حاول في تلاوته تلك أن يجمع بين طريقة سلطان القراءة مصطفى إسماعيل، وطريقة سلطان المقرأين محمد رفعت، فأصبح من حقنا أن نطلق عليه بهاء سلطانين، ونتمنى أن يستكمل بهاء سلطان تلك التجربة الثرية فبها سيعود بنا إلى عصر القراء الكبار.