“الملك”.. بين الخطأ والخطيئة
بقلم : محمود حسونة
القرار قد يكون طريقاً للنجاح ووسيلة للانجاز ومنجاة من مطبات حياتية، وقد يكون بداية الفشل ونهجاً للخسران المبين ومهواة إلى قاع الحياة. وما بين القرار الصائب والقرار الخائب، مسافات ومساحات، فالأول لا يتخذ إلا بعد دراسة وبحث وتمحيص واستشارات للخبراء والمتخصصين واستشراف لعواقبه، أما الثاني فهو عشوائي متعجل تتحكم فيه الأهواء والعلاقات الشخصية، والنتيجة أن هذا قرار وذاك قرار ولكن بينهما كما بين السماء والارض.
قرار إنتاج مسلسل “الملك” عن الفرعون أحمس الذي قاد معارك طرد و تطهير أرض مصر من الهكسوس، هو قرار صائب ونحتاج إليه، ولكننا أيضاً نحتاج إلى أن يأتي بعد دراسة وبحث واستشارات للمختصين من خبراء وأساتذة علوم المصريات، أما قرار إنتاج المسلسل الذي تم تصويره وإسناد بطولته إلى عمرو يوسف، فقد كان عشوائياً اعتباطياً، وربما أن مَن اتخذه ورصد له الميزانية الضخمة وكلف بالبدء في تصويره، لم يكلف نفسه عناء قراءة السيناريو، ولأنه من المؤكد ليس لديه وقت لقراءة هذا الكم من المسلسلات التي يحتكر انتاجها ويوزع مغانمها على من يشاء، ويعطي من يشاء بطولة ويحرم من يشاء الوقوف أمام الكاميرا باعتباره وجد نفسه فجأة “إله” الدراما والمتحكم الأوحد في كل شاشات مصر بل ومنصتها الإليكترونية، فقد كان ينبغي أن يكلف لجنة مهمة قراءة السيناريو وإعداد تقرير عنه قبل الموافقة على انتاجه؛ فهو إما أن يكون لم يفعل وإما أن يكون قد كلف لجنة من أهل الثقة الذين لا يعرفون سوى القشور عن أحمس ولا يفقهون في التاريخ والحضارة الفرعونية أكثر من معلومات أي عابر سبيل.
لو افترضنا أن صاحب القرار شكل لجنة لقراءة السيناريو وإجازته، وهي التي قامت بتضليله سواء عن وعي أو من دون وعي، فإنه لم يكلف أحدا من المختصين وضع تصميمات الملابس ومشاركة المخرج في تحديد ملامح الشخصيات بما يتناسب وزمن الأسرة 18 التي بدأت من حكم سقنن رع والد أحمس، والنتيجة أن السيناريو حسب ما تم تداوله ليس له علاقة بالحقائق التاريخية، كما أن شكل الممثلين وملابسهم جاءت لتتناقض بشكل كامل مع هذا الزمن وملامح تلك الحضارة وان توافقت مع أزمان أخرى.
صاحب قرار انتاج المسلسل قد يكون هو نفسه صاحب قرار وقف عرضه وتشكيل لجنة خبراء لدراسة مدى توافقه مع الحقائق أم لا، ولكن الفرق بين القرارين كما ذكرنا سلفاً هو كما الفرق بين السماء والأرض، فالأول كان بالنسبة للمجتمع مثل “شكة إبرة” لا تؤلم ولا تترك أثراً، أما القرار الثاني فهو مثل تفجير ميناء بيروت، أحدث جلبة وضجيجاً وصخباً، وتناثرت شظاياه لتصيب كل من شاركوا في هذا المسلسل سواء أمام الكاميرا أو خلفها، فمنهم من أصابته الشظايا في لقمة عيشه ومنهم من أصابته في سمعته الفنية والابداعية واهتزت الثقة فيه، ناهيك عن الميزانية الضخمة التي أنفقت على هذا المسلسل، ولو لم يعرض ستكون هذه الفلوس قد ذهبت أدراج الرياح وهو الخيار الأكثر احتمالاً.
لو لم يتخذ القرار الأول بعشوائية ولا وعي ما كنا وصلنا إلى الحالة التي نعانيها والتي قسمت المجتمع ما بين أناس لا يقبلون العبث بتاريخ الأجداد الذين نعيش على مجدهم ونتغنى بانجازاتهم ليل نهار ونتفاخر بأننا ورثنا هذه الأرض عنهم وأننا أحفاد لهم، وأناس يتعاطفون مع الفنانين والفنيين والعمال والكومبارس الذين حرموا من أجر يتقاضونه نتيجة وقف المسلسل.
قرار الوقف كان ضرورياً رغم تعاطفنا مع فريق العمل والفئة الأكثر تضرراً من هذا القرار، وهى فئة العاملين في الكواليس والمتفرغين لهذا العمل المعتمدين على تقاضي الأجر منه، فكل ما في المسلسل يستفز الجمهور والنقاد وسيستفز غير المصريين أيضاً بعد عرضه، ابتداء من البوستر “السبارتاكوسي”، وصولاً إلى الفيديو الترويجي للعمل، كما أن قارىء رواية “كفاح طيبة” يدرك أنها ليست هي المرجع المناسب لصناعة عمل عن أحمس.
نقدر تعاطف كثير من الفنانين مع زملائهم أبطال المسلسل، ونحن أيضاً نتعاطف معهم، ولكننا نختلف معهم فيما يسوقونه من مبررات بحجة أن المسلسل صنع للتسلية، فهل يغيب تاريخنا وحضارتنا عن إنتاجاتنا الدرامية والسينمائية ثم نهلل لأي عمل عنها يبدو “طفولياً” أمام عظمة الفراعنة وأمجاد الماضي العريق، ونوافق عليه من أجل إرضاء فلان وعلان؟
من يريد أن يصنع أعمالاً للتسلية أو لتضييع الوقت فليبتعد عن التاريخ ويتجنب عظماءنا الذين صنعوا لنا حضارة نتباهى بها أمام الأمم، وإذا أرادوا الاقتراب من التاريخ فليكن عبر الوهم الذي صنفوه “فانتازيا تاريخية” والتي أجاد فيها وخدعنا بها كثيراً المخرج السوري نجدت أنزور، أما من يقترب من تاريخنا فإما أن يكون مخلصاً له ولما يتضمنه من حقائق مع قليل من الخيال الذي يضعه في إطار درامي مشوق، أو فليكتف بما يسليه ويسلي به الجمهور من دراما اجتماعية. إما أن يكون على قدر ووزن الميراث الفرعوني أو أن يكتفي بالنبش في دفاتر الماضي القريب والحاضر.
تاريخنا به من الدراما ما يعجز خيال أكبر المبدعين عن مجاراته، وإذا كان قرار إنتاج “الملك” خطأ فقرار عرضه خطيئة لا تغتفر، وليتحمل المنتج كامل تبعات ما يحصل، وأياً تكن خسائر وقف العرض فهي أقل من خسائر تبعات العرض وتشويه التاريخ خصوصاً بعد كل هذا الإبهار والإتقان والرقي الذي عشناه مع موكب المومياوات الملكية والذي يتحدث عنه العالم كله، بعد أن استطاع أن يعيد إحياء سيرة
الفراعنة على كل لسان وبكل فخر.
mahmoudhassouna2020@gmail.com