“أحمس” .. غاب الملك وتشوه التاريخ
بقلم : محمود حسونة
رغم أن تقديم الجديد الدرامي منذ رمضان الماضي لم يتوقف، بعد أن فرضت المنصات الالكترونية نفسها كوسائل عرض ودخلت في منافسة في إنتاج الدراما لأجل جذب أكبر عدد من المشتركين ووضع اليد على جيوبهم، رغم ذلك سيظل للموسم الرمضاني نكهته الخاصة وسيظل التوقيت الأنسب لتقديم الأعمال الكبيرة والمتميزة والمثيرة للجدل.
من المسلسلات التي ننتظرها بفارغ الصبر في رمضان الذي يهل علينا بعد أيام “أحمس الملك”، وأسباب توقنا لهذ العمل كثيرة، لعل أولها أنه يضيء على حقبة من تاريخنا نتفاخر بها ويتفاخر معنا العالم كله، كما أن المسلسل يتناول سيرة واحد من أهم ملوك الفراعنة الذي كُتب اسمه بأحرف من نور، وسيظل محط إعجاب الناس وخصوصاً القادة العسكريين المستقبل القريب والبعيد كما كان في الماضي القريب والبعيد، بعد أن خاض أهم المعارك العسكرية وطرد من مصر أسوأ المحتلين وهم الهكسوس، الذين استوطنوا شمال مصر لما يقرب من قرنين وعاثوا فيها فساداً وإفساداً وجعلوا أعزة أهلها أذلة، حتى جاء هذا القائد ليطردهم ويطاردهم حتى بلاد فينيقيا (لبنان حالياً) ويعود ليطهر البلاد من أتباع وبقايا الأعداء وينشر فيها الأمن والأمان ويعيد الطمأنينة والرخاء إلى شعب مصر.
سيرة أحمس هى سيرة الجيش المصري الضارب في أعماق التاريخ، والذي استطاع أن يقهر كل من تسول له نفسه الاقتراب من المحروسة؛ ولأن مصر كانت مطمعاً على مدار التاريخ فقد نجحت بعض القوى في احتلالها على مدار فترات، ولكن أبداً لم يستسلم لا الشعب ولا الجيش المصري لمحتل، وكانت المقاومة غايته حتى تحرير وتطهير أرض الفراعنة ومهد الديانات من دنس الطامعين عبر التاريخ، وهو الدور الذي لا يزال يؤديه الجيش اليوم لتطهيرها من الارهابيين والمتطرفين وتجار الدين، وهو الدور الذي سيؤديه غداً وبعد غد ضد كل من يفكر في النيل من مصر وحقوق شعبها.
ننتظر أن يكون “أحمس الملك” سيرة ورسالة، سيرة لفرعون خلده التاريخ وينبغي أن نخلده في وجدان أبنائنا ليتعرفوا على سيرة أجدادهم ويرفعوا الرأس أينما كانوا عزةً وفخراً، ورسالة تؤكد أن اليوم يشبه البارحة في الكثير من تفاصيله، وأن مقولة “التاريخ يعيد نفسه” ليست هراءً، وأن ما نتعرض له اليوم ليس سوى حلقة من مسلسل طويل عشنا حلقاته عبر التاريخ، ولأن العبر بالنهايات فقد كانت النهايات دائماً لنا، نصر وفرحة وعزة.
بقدر فرحتنا بإنتاج مسلسل عن حياة الفرعون العظيم أحمس، بقدر ما نخشى أن يأتي مخيباً لآمالنا، خصوصاً أن الجواب يُقرأ من عنوانه، والعنوان الذي يختلف عن الاسم لا يطمئن، لذا كانت انتقادات الناس للمسلسل قبل عرضه على مواقع التواصل الاجتماعي تصل إلى حد الغضب من عبث صناع المسلسل بتاريخ نتباهى به أمام العالم، ونتمنى ممن يتصدى لتقديمه درامياً أن لا يتعامل معه كسبوبة، ولعل غضب الناس وتوقفهم عند تفاصيل غفل عنها صناع المسلسل تأكيد جديد على أن المصريين لن يرحموا من يعبثوا بتاريخهم.
نعم نتمنى تقديم بعض شخصيات ومحطات تاريخنا العظيم، ولكن أبداً لا نتمنى أن يقدمه عجزة ولا تجار دراما ولا مرتزقة، والناس على مواقع التواصل لم تغضب لمجرد الغضب، ولكنهم غضبوا وشرحوا وبرروا وكشفوا أنهم أكثر اطلاعاً على التاريخ الفرعوني من صناع “أحمس الملك”.
أول المآخذ هو إسناد البطولة إلى عمرو يوسف، ومع كل الحب والتقدير له إلا أن الكثيرين يرون ملامحه تختلف عن ملامح الفراعنة وعن ملامح أحمس حسب الصور الموجودة على جدران المعابد، وزادت الطين بلة اللحية التي يقدم بها الشخصية والتي تتناقض مع معتقدات الفراعنة من أن اللحية والشوارب الطويلة والحواجب الكثيفة دليل عدم نظافة، بل أن نجيب محفوظ أكد في أكثر من موضع في رواية “كفاح طيبة” المأخوذ عنها المسلسل على أن الفراعنة كانوا يعتبرون اللحى دنساً، أما الملابس التي ظهر بها عمرو يوسف في إعلان المسلسل فلا علاقة لها بملابس الفراعنة، وهناك من يشبهها بملابس بعض العصور الاسلامية ومن يشبهها بملابس الرومانيين.
تقديم مسلسل عن حياة قائد وبطل مثل أحمس لا يكون أمراً تتحكم فيه الصدفة، حيث يتقدم سينارست أو أكثر بمعالجة أو حتى سيناريو كامل مأخوذ عن رواية تاريخية فيتم الترحيب به ووضعه في خطة الانتاج، أحمس يلزمه تخطيط وتفكير واسناد مهمة جمع المادة العلمية لأولي الأمر وهم هنا علماء الآثار، ثم تكليف سينارست مشهود له بالتميز بمهمة الكتابة ثم إعادة السيناريو للعلماء لمراجعته وإقراره حتى نخرج بعمل فيه تأريخ لمرحلة مهمة من تاريخنا، وحتى نقدم للأجيال المعلومة الصحيحة التي يمكنهم تناقلها بثقة، ونعطي لكل ذي حق حقه من شخصيات هذه المرحلة.
أديبنا الكبير الراحل نجيب محفوظ كتب رواية “كفاح طيبة” عام ١٩٤٥ وقدمها كرواية مستوحاة من هذه المرحلة التاريخية، ولدى علماء الآثار وخبراء التاريخ الفرعوني الكثير من المآخذ عليها والتي تجعلها لا تصلح أن تكون موضوع مسلسل عن حياة أحمس.
الرواية لا تعطي أمه “إياح حتب”حقها، والتي كانت هى وراء الانتصارات التي حققها ابنها وخصوصاً أنه قاد الجيش وحرر مصر وهو صغير السن، وكانت هى من يخطط ويشارك في القيادة من الخلف، وتقديراً لها قام أحمس بتكريمها كقائد عسكري ومنحها قلادة ذهبية بعد تحرير مصر تقديراً لدورها، ونتمنى أن يعطيها المسلسل حقها، وإلا سيكون عملاً لا يعبر عن الحقائق التاريخية، وسيرة “إياح حتب” وحدها تستحق مسلسلاً، وللعلم فإنه يتردد في بعض أن أغنية “وحوي يا وحوي.. ايوحة” الرمضانية كانت تغنى لها في زمن الحرب فرحا بها وتكريماً لها وهي عائدة من المعارك التي شاركت فيها.
من مآخذ أساتذة التاريخ أيضاً على رواية “كفاح طيبة” أنها تشوه صورة أحمس بحكاية غرامه مع ابنة زعيم الهكسوس أبو فيس، ويؤكدون أنها تجافي الحقيقة وتنال من صورة قائد عظيم في التاريخ المصري، وهي السقطة التي لا يمكن أن يقع فيها أحمس.
هذه مجرد نماذج من انتقادات طالت المسلسل الذي نتمنى أن يفاجئنا بخلوه منها، وخصوصاً أننا ننتظر عملاً يليق بالشخصية التي يتمحور حولها، ولا يكون مجرد حكاية للتسلية نخرج منها بصورة مشوهة عن مرحلة من أعظم مراحل تاريخنا.
mahmoudhassouna2020@gmail.com