بقلم : محمد حبوشة
لمدينة حلب علامتان فارقتان في تاريخها : قلعتها الشهيرة وصباح فخري!، صاحب الحنجرة الماسية الذي خاض رحلة شاقة وطويلة مع غناء القدود الحلبية والموشحات والأدوار، ولا تكفي عبارة حارس التراث الموسيقي الأصيل في وصف مسيرة (فخري الغنائية)، فصاحب الحنجرة الماسيّة منجم موسيقي آسر يحتاج إلى بعثة تنقيب خاصة جدا لتصنيف كنوزه النفيسة، وهو الذي اكتشفه (فخري البارودي) في خمسينيات القرن الماضي فأهداه اسمه، حتلى صار منذ ذلك الزمن ماركة مسجّلة للأصالة والفرادة والسحر على جناح الموسيقى والغناء .. هكذا، ارتبط اسم حلب، مدينة القدود الحلبية والموشّحات و(السميعة) بعلامتين فارقتين : قلعتها التاريخية الشهيرة وصباح فخري.
من من جمهور الأغنية والطرب الأصيل لا يعرف الفنان العربي الكبير (صباح فخري)؟ .. إنها رحلة تمتد إلى أكثر من نصف القرن نجح خلالها الفنان العربي الكبير في أن يصبح (الحارس الأول) للتراث الموسيقي والغنائي العربي، من قدود وموشحات وقصائد وأغان، بعد أن عشق التراث عشقه لحياته، وأصبح رمزا عربيا خالدا أبقى للغناء الأصيل حياته، ومنحه شعبية تتجدد مع كل جيل، ليبرهن أن المعادن الفنية النفيسة لا تتأثر بالغبار، أو اختلاف وتعاقب الأزمان، ولا ببالونات الهواء التي ملأت الدنيا وسرعان ما تلاشت قبل أن يبرح أصحابها أماكنهم بين الناس.
لقب صباح فخري، بـ (صاحب الحنجرة الماسية، أو صناجة الغناء العربي، وأبوكلثوم العرب، وحارس التراث، ولتكن كل هذه الألقاب معاً، لأنه بحق عملاق وقامة فنية عالية من زمن الفن الجميل، وهو يقف شامخاً في منتصف العقد الثامن من عمره، لا يستطيع المنصت إليه أن يبدأ حديثه معه دون الدعاء المخلص بأن يمنحه الله المزيد من العنفوان والصحة والتألق، وأن يبقيه دائماً عنواناً للعطاء الفني الأصيل.
صباح فخري إلى عالم الطرب
لم يأت صاحب (خمرة الحب اسقنيها) إلى الموسيقى والغناء من تلقاء نفسه أو موهبته الفردية، ذلك أن حلب كانت ولا تزال منبع الموسيقى العربية الأصيلة التي أسس لها ملحنون ومطربون كبار أمثال (الشيخ علي الدرويش وبكري الكردي وعمر البطش ومحمد خيري)، هذه الأرضيّة الأصيلة قادت صباح فخري إلى عالم الطرب، فانتسب أولا إلى المعهد الموسيقي في حلب، ثم أكمل دراسته في دمشق، لينطلق منها إلى معظم مسارح العالم، وإذا به يدخل موسوعة (غينيس) للأرقام القياسية بعدما وقف على المسرح عشر ساعات متواصلة، كان ذلك في مدينة (كراكاس في فنزويلا)، حين استبدّ به الطرب كعادته، نسي ابن السادسة والستين حينها الزمن فمزج الليل بالنهار، وراح يتمايل على خشبة المسرح بانتشاء صوفي أخاذ.
ارتباطاته الغنائية الدائمة لم تمنعه من الانكباب على كتابة الموسوعة الكاملة لأعماله، تلك الموسوعة التي توثيق لجميع أعماله الموسيقية والغنائية: مَن كتبها ومَن لحّنها، ومتى غنيت للمرة الأولى مع شروح للأغاني ومعاني بعض المفردات الصعبة، من جهة أخرى، وكنوع من الرّد المباشر على انحطاط الغناء العربي في معظم نماذجه، أسّس صباح فخري معهداً فنياً في مدينة حلب (معهد صباح فخري للموسيقى والغناء)، هو الأول من نوعه لجهة طريقة التدريس، وتعليم اللغة العربية والتجويد.
يقول صباح فخري شارحا: المعهد يعلم الغناء والموسيقى بطريقة جديدة تعتمد على تربية المطرب وصوته مدة ثلاث سنوات، بصرف النظر عن العمر أو الشهادة، وفي نهاية الدراسة يقام مهرجانا للأصوات الجديدة ، ويضيف : (المعهد الجديد هو ملاذاً لحماية التراث الغنائيّ الأصيل بقصد الحفاظ عليه من جهة، وتطويره من جهة ثانية لمواجهة الصرعات الغنائية الوافدة).
محطات ذكريات كثيرة
محطات الذكريات كثيرة في حياة صباح فخري، لعل أكثرها بقاء في الوجدان، تلك التي تعود إلى عام 1973، حين غنّى خلال حرب تشرين (حي على الجهاد)، ما حدا بالحكومة الإسرائيلية إلى إصدار أمر بحرق ألبوماته في الشوارع، كما أنه – خلال حفلة في الأردن – قام بطرد إسرائيليين أرادوا حضور حفلته، وزيادة في الحيطة، أوقف ابنه على باب المسرح للتأكد من جوازات سفر الحضور خوفا من تسلل إسرائيليين إلى الداخل.
تعصبه للتراث لا يعني مناهضته للأغنية الحديثة أو التجديد في الغناء العربي (مع ضرورة الاحتفاظ بهوية الأغنية العربية عبر الحوار الجاد بين الأجيال)، ويستدرك في هذا قائلا: صحيح أن المستمع العادي تستهويه الموجات العابرة والصرعات والموضة، لكن هناك موضة من ذهب وأخرى من معادن رخيصة تشوّه الذائقة، ومن هنا لا ينكر صباح فخري الحال المتردية التي تعيشها الأغنية العربية اليوم، لأن (الأغنية مرآة العصر) كما أن التخلف الذي نعيشه في كل نواحي الحياة ألقى بظلاله على الأغنية العربية التي تعيش (عصر انحطاط حقيقي).
ولكن كيف تستعيد الأغنية العربية هويّتها ورقيها؟: (باستعادة الأغنية الطربية)، يقول صباح فخري جازما : قبل أن يقارن بين عصر أم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب، ورياض السنباطي، وزكريا أحمد وواقع الغناء العربي اليوم، (هؤلاء عاشوا في زمن الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، لذلك أبدعوا تراثا أصيلا لن ينسى)، يصمت قليلا ثم يقول: (لا أخشى على الغناء العربي من التدهور الذي يعيشه اليوم لأنه زائل، ولن يصمد إلا الأصيل منه).
وحين نستغرب أن يتجه ابنه (أنس أبو قوس) إلى غناء الروك، يقول (ليس بالضرورة أن يكون أنس خليفتي في الغناء، وأنا سعيد بأنه اختار الموسيقى التي تستهويه، المهم أن يؤسس خطّه الخاص، ويعتقد كثيرون بأن صباح فخري نقل التراث الموسيقي الحلبي من دون إضافات، لكن صاحب (قدك المياس، وقل للمليحة) ينفي هذه التهمة: (إن ما حققته في غناء القدود الحلبية والموشّحات والأدوار، هو ثمرة رحلة طويلة وشاقّة. إذ كنت أول من عمد إلى تطوير التراث الغنائي الحلبي وإزالة الغبار عنه.. كنت مثل الصائغ الذي يلمع الجوهرة ليظهر جمالها بما يتناسب مع الذائقة العصرية، ولم أتوقف إلى اليوم عن نبش التراث وتطويره).
ليست رحلة سهلة في الغناء
ليست رحلة صباح فخري مع الغناء سهلة إذا، فهو صرف سنوات طويلة من عمره على إعادة صوغ التراث الغنائي الحلبي بمنظور جديد، وكان خلال دراسته الموسيقية قد عمل في مهن عدة، كي يستمر في تعلّم أصول الغناء، فعمل مؤذنا في جامع، ومدرسا، وعاملا في مصنع نسيج، وفي محطة وقود، هكذا فإن من يسمع (هات كأس الراح) مثلاً في تلويناتها الصوتية والطربية، سيكتشف عن كثب حجم الإضافات التي حققها صباح فخري في تجديد التراث الغنائي الحلبي بحيث يستسيغه مستمع اليوم، وإلا فما تفسير الإقبال الكبير على أغانيه وإقامة حفلاته في ملاعب كرة القدم والساحات العامة؟، وقبل كل ذلك، الجلوس ساعات طويلة للإنصات إلى سحره الغنائي المتفرّد؟
ليس الصوت الأخاذ وحده، هو من يجذب (السميعة) إلى أغاني صباح فخري، بل الحضور الشخصي للمطرب. إذ ما إن يتماهى مع كلمات الأغنية حتى يبدأ الرقص بحركات مدروسة تشبه الدوران الصوفي، وإذا بالنشوة تستبد بالحضور في طقس غنائي فريد، فتصير عبارة (ليلي ليلي ياليل) التي يكررها عشرات المرات من مواقع طربية ولونية متباينة، ومن مقام إلى مقام، أغنية كاملة، تكشف أصالة صوته وعمق معرفته الموسيقية وقدرته الاستثنائية على جذب المستمع إلى صوته ساعات طويلة، من دون ملل أو تذمر، في عصر صارت فيه الأغنية لا تتجاوز الدقائق.
ولأن لكل إنسان محطات ينطلق منها، وأخرى تمثل له منعطفاً مهماً، أو انطلاقة تغير مسار حياته، فالنسبة لصباح فخري، تصبح المحطة الأهم في حياته على حد قوله: يوم أن أكملت حفظي للقرآن الكريم وعمري خمس سنوات في (الكُتّاب) بأحد مساجد حلب، ومعرفتي المبكرة بأهمية التعلم والعلم، ومن ثم التحاقي بالإذاعة السورية عام 1947 وعمري لم يتجاوز الرابعة عشرة، ومتابعة دراستي في معهد الموسيقى الشرقية بدمشق ودراسة الموشحات والإيقاعات والألحان والنظريات الموسيقية والعزف على العود على أيدي أساتذة كبار مثل: الشيخ علي درويش والشيخ عمر البطش ومجدي العقيلي وإبراهيم الدرويش ومحمد رجب وعزيز غانم.
صوت المنشدين الدينيين يصدح في داره
في حارة الأعاجم، أحد أحياء حلب القديمة، كان صوت المنشدين الدينيين يصدح في دار الشيخ نجيب أبو قوس، إذ اعتاد الحلبيون لعقود على حفلات الإنشاد هذه، وغالبا ما احتفلوا بالموالد النبوية، ومناسباتهم بهذه الطريقة، ولذلك قرر الشيخ أبو قوس في ذلك اليوم، أن يأتي بإحدى الفرق الدينية إلى منزله للدعاء والوقوف إلى جانب زوجته وهي تلد، في هذه الأثناء، ستصل داية الحي سنيحة، التي ولّدت نصف أبناء الحي وأكثر، ومع طلوع الصبح تقريبا، أخذت النساء يزغردن، لقدوم طفل جديد إلى العائلة، ولأنه ولد في هذا الوقت، ستطلب الأم من الشيخ أن يسميه (صباح)، فما كان منه إلا أن هزّ رأسه وهو يقول (فليكن صباح الدين).
كان الحي الذي ولد فيه هذا الطفل يشبه بقية الأحياء الحلبية القديمة.. لم تكن هناك ملاعب ومسابح، بل كانت شوارع الحي الضيقة، هى مكانهم الوحيد للهو واللعب، كان بيتهم، كما يذكر هذا المطرب في ذكرياته (التي صدرت عن دار هاشيت أنطوان لبنان، جمعتها شذا نصار من خلال تسجيلها لقاءات طويلة مع صباح فخري)، يتكون من حوش، وعدد من الغرف الصغيرة، لم تكن جميع بيوت حلب آنذاك متشابهة، أو تتكون من بحرة كبيرة، كما تنقل لنا بعض المسلسلات، في هذا الحي أيضا، كان يمكن أن تشتري حاجات المنزل اليومية على الأقدام من السمان إلى اللحام، ومما يذكره عن هذه الأيام، أنه لطالما استمتع بمراقبة بائع العجة الحلبية وهو يقليها.
عرف والد صباح بوصفه أحد شيوخ الطريقة الرفاعية في المدينة، وكان يقول لابنائه أنهم عمريون (نسبة إلى عمر بن الخطاب)، وبحكم هذا الأمر، سيرافق الطفل الصغير والده في مرات عديدة إلى الجامع، وهناك سيستمع إلى تجويد الأصوات الحلبية، وكان شيوخ الصوفية ومريدوهم قد لعبوا، كما يذكر شفيق شبيب في مؤتمر للموسيقى في مصر في عام 1934، دورا في الحفاظ على الألحان العربية، فحفظوها كما حافظ عليها أسلافنا، بعد أن كبر قليلا، أخذ أخوه يصطحبه في سهرات مدينة حلب، التي كانت تقام عادة في منازل بعض الأعيان والتجار، يومها بدت له هذه الزيارات فرصة لسماع جهابذة وكبار فناني ومنشدي المدينة.
عمل مؤذنا في مسجد، ومدرسا
وخلال دراستي يقول فخري، عملت في مهنٍ عديدة، فعملت مؤذنا في مسجد، ومدرسا، وواصلت دراستي إلى أن تخرجت عام 1948، والتحقت بالتليفزيون عام 1960 مع انطلاقته الأولى، بعدها انتشرت فنياً خارج سوريا إلى أوروبا وأميركا وأستراليا عبر بوابة العرب في معظم الأقطار العربية، ولعل البيئة هى الوعاء الذي يحتضن الإنسان منذ نشأته الأولى، وكان والدي رجل دين، لكنه يعلم ما هى الموسيقى، وما جوهرها، وعدم تعارضها مع الشريعة، فبالرغم من أن البيئة والمجتمع في ذلك الوقت كانا ينظران إلى الفنان نظرة فيها الدونية والازدراء، وكان يشيع بين الناس المقولة البالية: (ثلاثة لا تقبل شهادتهم، الفنان، والحلاق، وكشاش الحمام – طيار الحمام).
إلا أن معرفة والدي لجوهر الدين والموسيقى شجعني، وساعدني على ذلك حفظي لكتاب الله الكريم، وأتقنت تجويده وترتيله، ومن ثم كانت بدايتي مع الغناء الديني والتواشيح الدينية والأذكار والتراث والموشحات الأندلسية والقدود الحلبية الشهيرة، وتعلمت منذ الصغر أن أحمل هدية هذا الوطن بمشاعري وأفكاري وفني، ومن المنطقي أن يكون انتمائي لهذا التراث الذي أنتمي إليه، وأحببته وأحبه الناس، ولم أفصل بين التراث السوري والتراث العربي في مصر أو العراق أو الأندلس أو غيرها، وما زلت أؤمن بأن رسالتي في نشر هذا التراث وإحيائه.
ويضيف الفنان الكبير قائلا: لا تعنيني الألقاب كثيراً ولم أبحث عنها، إنها رسالتي الفنية والغنائية التي حملت نفسي مسؤولية حملها منذ أكثر من نصف قرن وأصبحت مدرسة كبيرة لها محبون وتلاميذ ومريدون في كل مكان، ولعل ما حققته في غناء القدود الحلبية والموشحات والأدوار، هو ثمرة رحلة طويلة وشاقّة، إذ كنت أول من عمد إلى تطوير التراث الغنائي الحلبي وإزالة الغبار عنه، إنما كنت مثل الصائغ الذي يعيد تلميع الجوهرة ليظهر جمالها بما يتناسب مع الذوق العصري، ولم أتوقف إلى اليوم عن البحث والنبش في التراث الموسيقي وتطويره.
حافظت على نقاء وقوة صوتي والحمد لله على الصحة والعافية.. والصوت.. والسمع.. والرؤية.. كلها نعم أنعم الله بها علينا، وهذه النعم علينا أن نتعلم كيف نحافظ عليها ونصونها، وأنا لا أخاف من تقدم السن، وعمر الإنسان لا يقدر بعدد السنين، إنما بقدر ما يشعر الإنسان من قدرته على العطاء، وعجز الإنسان أو شبابه في قلبه، وعلى سبيل المثال – تزوج والدي للمرة الرابعة وعمره 75 عاما – والغناء يحتاج لياقة بدنية وذهنية عالية، فالعقل السليم في الجسم السليم، والصوت السليم في الجسم السليم أيضاً، وهذا يحتاج تضحية، ويحتاج أن أحرم نفسي من أكلات أحبها، وأن أبتعد مثلاً عن الأكلات (الحريفة والبهارات والمخللات والمخربشات)، مع مراعاة أهمية النوم لساعات معينة، وممارسة رياضة المشي، والاعتدال في الغذاء، والاعتماد على نظام غذائي صحي وسليم، والاستعانة بالمشروبات الساخنة وعسل النحل وبعض الأعشاب، والابتعاد عن أي مأكولات تسبب جفاف الحلق يوم الحفل، ولا أبالغ إن قلت أنني أقضي أياماً كاملة على منقوع الأعشاب.
يتحرك على المسرح ويرقص كالفراشة
إن الأمر يحتاج إلى إرادة وتضحية أيضاً، ومن ثم يجدني الجمهور على المسرح أتحرك وأرقص كالفراشة دون كلل أو ملل، وأظن من يستطيع أن يشد الجمهور عشر ساعات غناء متصلة دون تعب، عليه أن يدفع ثمن ذلك، أو أن يضحي من أجل تحقيق ذلك، فلكل نجاح ضريبة، ولا يخفي فخري الحالة المتردية التي تعيشها الأغنية العربية اليوم، قائلا: الأغنية مرآة العصر، كما أنّ التخلف الذي نعيشه في كل نواحي الحياة، قد ألقى بظلاله على الأغنية العربية التي تعيش (عصر انحطاط حقيقي)، ولكن كيف تستعيد الأغنية العربية هويتها ورقيها؟ ، إن ذلك لن يكون إلا باستعادة الأغنية الطربية الأصيلة لمكانتها.
وعن تفاؤله بالغناء حاليا يقول صباح فخري: ليس بالإمكان أن أتخلى عن تفاؤلي، فتراثنا العريق يعتمد على الأصالة والرقي، ولا يعتمد على (البزنس، أو التجارة)، وهناك كثير من المهرجانات والاحتفالات التي يتألق فيها مطربون من جميع البلدان العربية، ولاننسى أن الفن دوره خطير للغاية.. وبإمكانه أن (يخرب) المجتمع، ويُخرب (أذواق الناس)، وفي المقابل يمكن أن يكون سلاحا فعالا في الارتقاء بأذواق الناس وبكل شيء في المجتمع.. الفن ليس (استربتيز) للتعري أو الإثارة الرخيصة – كما ترى الآن – إنما هو رسالة وأداة يمكن أن تلعب مفعول السحر في تقدم المجتمعات وازدهارها ورقيها.
حنجرته ومسيرته، في مجمل ما قدمه وأداه، صباح فخري، تعتبر مدرسة كبيرة ملهمة ومضيئة، وتأثيره الفني لا يقتصر على سوريا بل يشمل العالم العربي، وصولا إلى كل العرب في بلاد الانتشار، إنه صباح فخري الذي اشتهر بالقدود الحلبية والطرب العربي في إطار يوائم بين التجديد على صعيد الأداء المؤسلب المنعش وبين الأصالة، واستمال أيضا المستشرقين والمستعربين في العالم، الذين انكبّوا على دراسة هذه (الأسطورة) المحسوسة في سبيل التقاط بعض أسرارها وخلفياتها وأبعادها الحضارية، فقد طور وجوهر صباح فخري صوته العظيم في حلب القديمة حيث برزت مجموعة مؤثرة من المنشدين وقارئي القرآن وشيوخ الطرب وبناة مجد القدود الحلبية.
عرف صباح فخري بتميزه في غناء (قدك المياس يا عمري، وإبعتلي جواب، وتراتيل الغرام، ومالك يا حلوة، ويا طيرة طيري يا حمامة، وسيبوني يا ناس) التي تلقى كلها رواجا شعبيا حتى يومنا هذا، وهو من يبقيها دارجة في أوساط واسعة، أدى قصائد من تجليات الشعر العربي مثل قصيدة (أقبلت كالبدر) للشاعر أبي فراس الحمداني (932- 968)، وهي من ألحان صباح فخري أيضاً وفقاً لمقتطف مصور من حفلة (نادي الحرية) في حلب عام 1994، ولمع صباح فخري في التلحين في (خمرة الحب) ، وجذب المسامع في دور (القلب مال للجمال) على مقام (عجم عشيران) الذي أداه في دار الأوبرا المصرية عام 1998، وهو من ألحان الشيخ بكري الكردي ومن كلمات حسام الدين الخطيب، علما بأن (الدور) هو قالب غنائي.
حضوره على المسرح محبب
نعم حضوره على المسرح محبب، لا سيما في قدرته الخارقة على الإطراب و(توليع) الجو و(المزاج) حينا، وفي حضه الجمهور على الإصغاء بعمق أحيانا كثيرة، وفي انسجامه الكلّي مرات عدة مع ما يغنّه، ما قد يصل إلى حدود تمايله ورقصه على الخشبة في حركة تنم عن فنان ديناميكي واثق الخطوة وظريف.
صباح فخري لا يتكرر ويشكل قدوة للعديد من الفنانين والمطربين والشباب الصاعد، على الرغم من اجتياح موجات انحدار البلاد ثقافيا في نهاية المطاف، فإنّ الأغاني المائعة – على حد قوله – سوف تندثر، ولن يصمد عبر الزمن إلا النتاج الغنائي الذي تتكثف فيه قيمة إبداعية وثقافية وجمالية ذات هوية ولون ونكهة ومزاج وأجنحة وآفاق، علما بأن الدمج الحداثي الخلاق أيضا يشق مدى جديدا مطلوبا في ظل التفاعل الثقافي والحضاري الطبيعي وضمن أُطر حرية الإبداع، إلى جانب التراث الذي يحتاج إلى مؤتمنين على كنوزه على شاكلة صباح فخري الذي جعل للتراث قدرة وسلطانا خارج بيئته الزمانية.
يتمتع صباح فخري بتكوين جسدي قادر على إظهار الموهبة الخلاقة والصوت النادر، واعتمد على نفسه ليشق طريق المجد بعصامية، متخطيا الصعوبات كافة في طريقه نحو القمة فوصلها وحده، متحديا بصوته وأدائه العوائق كافة، ليرفع علم التراث الأصيل منتصرا، ويتوج ملكا على عرش الغناء الشرقي، هو رسول مدينته وناشر تراث بلده وحامل راية وطنه، وسفيره إلى العالم أجمع، ألقيت بين يديه رسالة الفن الملتزم، فكان أهلا لها، خطا إلى العالمية بقوة وحجز لنفسه مكانة بين الخالدين .. إنه حارس تراث حلب، وفنان العالم العربي، الكبير صباح فخري .. فتحية تقدير واحترام له ولفنه العريق الذي أثري التراث والموسيقى العربية الشرقية الأصيلة .. أمد الله في عمره وجعله تاجا على رأس الغناء السوري والعربي.