كتب : أحمد السماحي
لم يصنع نفسه بمجرد ضربة حظ، لكنه مارس القسوة على نفسه وذاق طعم المرارة، وعاش لحظات الفشل، وهزمته الظروف أحيانا، على مدى مشواره الفني لم يكرر إحساسه التمثيلي، وقدم شخصيات مختلفة ومتباينة لهذا سكن ذاكرة الجمهور، وحفر اسمه بحروف من ذهب في تاريخ الفن العربي، إنه أسطورة التمثيل المبدع (أحمد زكي) الذى نحيي اليوم الذكرى السادسة عشر لرحيله.
أسعدني الحظ بالجلوس مع هذا العملاق كثيرا فى مكتب صديقنا المشترك الفنان الراحل (فكري أباظة) أثناء كتابتي مذكرات أسطورة الأبيض والأسود (رشدي أباظة) عام 1999، فى هذا المكتب الذي كان يجتمع فيه بصفة منتظمة النجوم (هشام سليم، عبدالله فرغلي، عمر عبدالعزيز) وغيرهم من النجوم أصدقاء (فكري أباظة) حدث موقف لا ينسى بيني وبين الأسطورة أحمد زكي!.
فى هذا الوقت كان النجم المبدع (أحمد زكي) يستعد لبطولة فيلمه الشهير (السادات)، وكان يتحدث طوال جلسته معانا بطريقة الرئيس الراحل، وفى أحد الأيام أثناء مناقشتي للراحل (فكري أباظة) عن أحد التفاصيل الشخصية الخاصة بالنجم (رشدي أباظة)، لفت السؤال انتباه النجم (أحمد زكي) وسعد جدا بالسؤال وبالدقة التى اشتغل بها المذكرات التى كان يقرأها فور نشرها في مجلة (الأهرام العربي)، وحكى لنا ذكرياته مع النجم (رشدي أباظة) أثناء عملهما معا في فيلم (وراء الشمس) إخراج محمد راضي، وأضفنا هذه الذكريات فى الحلقات.
وفى نهاية حديثه قال : أيه رأيكم بعد ما تخلصوا نشر المذكرات دي، أقوم بتمثيل شخصية (رشدي أباظة)؟! فرددت بحكم صغر سني وقتها كنت في العشرينات: ماينفعش طبعا؟! أبسط شيئ (رشدي أباظة) كان أبيض، وحضرتك أسمر، فرد ومالوا فيها ايه؟! المهم قوة تجسيد الشخصية، واستحضار روحها، ونظر لي صديقي (فكري أباظة) نظرة عتب على ردي هذا!.
ويبدو أن نظرات (فكري) فجرت بداخلي تحدي أكبر فقلت بإستغراب للنجم أحمد زكي: حضرتك عملت (جمال عبدالناصر) وحاليا بتستعد تعمل (السادات)، وعايز تعمل رشدي أباظة؟! فرد وقال : لأنكم كشفتم جوانب مجهولة وهامة فى حياة (رشدي أباظة) غير اللي احنا كلنا نعرفها عنه كنجم معشوق للنساء، والجانب الإنساني ده شدني جدا!.
فتدخل (فكري أباظة) فى الحوار حتى يخفف من حدته وقال (أحمد زكي) يعمل أي شخصية هو عايزاها أنا مؤمن بهذا جدا، فانسحبت من لساني وقلت: لكن أنا كنت بعمل حوار مع نجم كبير وقالي: إزاي أحمد زكي يعمل (جمال عبدالناصر) بأفكاره وشخصيته، ويرجع يعمل (السادات)؟!
وهنا تكهرب الجو ووجدت (فكري) يقول لي :خلاص يا سماحي خلينا ننتهي من حلقة رشدي الوقت تأخر، وفجأة وجدت (أحمد زكي) يسألني وهو يفتعل ابتسامة لطيفة على وجهه: من هذا النجم يا أستاذ سماحي؟! فرددت : أنا أسف لن أستطيع التصريح بإسمه!.
وهنا انتفض (أحمد زكي) وقام وبحث عن علب سجائره، وترك المكتب غاضبا، ويومها حاول (فكري) أن يثنيه عن مغادرته المكتب، لكنه كان مصمما على الخروج.
وبعد خروجه من المكتب عاتبني الصديق (فكري أباظة) وقال لي : منك لله، أحمد مش هينام الليلة دي، بعد الكلمتين اللي أنت قلتهم دول! فقلت له : أنا لم أقصد غضبه والله.
وبدأنا ننتهي من كتابة الحلقة الجديدة من مذكرات (رشدي أباظة)، وبعد حوالي ساعة عاد النجم (أحمد زكي) مرة أخرى للمكتب، ووجدته يقترب مني ويسألني مجددا من النجم اللي قالك الكلام ده يا سماحي؟ فرفضت الإجابة، وكرر السؤال مرة أخرى، وهنا تدخل (فكري) وقالي : لازم تجاوب أنا قلت لك أحمد مش هينام الليلة دي، فقلت على استحياء وبصوت منخفض النجم (نور الشريف)!.
فقال أحمد زكي باستغراب ودهشة وصدمة : نور الشريف؟! فقلت : آه والله، فقال : صدمتني، وصدمتي كبيرة لأن (نور) أحد القلائل المثقفين ثقافة كبيرة فى الوسط الفني، إزاي يفكر كده؟! أنا على استعداد لتقبل هذا الكلام من أي نجم آخر، إلا نور الشريف!.
فرد (فكري): يجوز نور قال الكلام بطريقة لا يقصدك تحديدا يا (أحمد)، وقاله بطريقة (السماحي) معرفش يوصلك وجهة نظره، وهنا وجدتني أدافع عن صديقي (نور الشريف) فقلت له : فعلا هو بيحب حضرتك جدا، وقالي : أنا متأكد أن أحمد زكي هيقدم الفيلم بطريقة عبقرية! وطلب مني حذف هذا السؤال عند تفريغ الحوار.
وهنا بدأ (أحمد زكي) يستعيد هدوئه وقال: طب أكتب على لساني الفنان الموهوب على استعداد أن يجسد أي شخصية تسند إليه، مهما كانت هذه الشخصية، وأكتب أيضا أنني أحلم بتجسيد شخصية (سعد زغلول.. غاندي مصر) و(محمد متولي الشعراوي)، و(عبدالحليم حافظ) وأي شخصية كان لها دور هام ومؤثر في مصر أتمنى تجسيدها، أريد أن أترك لـ (هيثم) ابني مجموعة من الأفلام والمسلسلات التى يرجع إليها هو وجيله والأجيال القادمة كأنها كتب فى مكتبه.
رحم الله نجمنا الأسمر الكبير الذي أمتعنا بروائعه التى لا تنسى والباقية في وجداننا جميعا.