الحيطة المايلة (8) .. سلفنة مصر
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
برغم ان مصطلح ( القوى الناعمة ) لم يظهر إلا فى بداية التسعينات ، إلا أن كثيرًا من الدول كانت تستخدم تلك القوى قبل ظهور المصطلح ، فكل مجتمع يحاول ” جذب و ضم المواطنين و اقناعهم دون إكراه عن طريق التأثير على الرأى العام و تغييره من خلال قنوات الفن و الثقافة و الإعلام و المنظمات السياسية و الاجتماعية ، و ذلك ليضمن فرض وجهة نظره أو نشر أيدلوجيته لتحقيق مصالحه أو حل المشكلات و الصراعات دون حروب ” . و يتطلب استخدام القوى الناعمة لأى دولة أن تمتلك الوسائل و الإمكانات البشرية و المادية و الثقافية و قيم سياسية أو روحية قادرة على جذب الآخرين .
و قد استطاعت مصر عبد الناصر أن تستغل قواها الناعمة فى التأثير على مجتمعات دوائرها المحيطة ، و ضمان مناصرين لها داخلها ، و هكذا حققت تأثيرا إقليميا و دوليا لتحمى أمنها القومى ، و قد توصلت إلى هذا بأساليب كثيرة من أبرزها الفنون و الإعلام و التعليم و الثقافة حيث قامت – على سبيل المثال – بنشر الراديو الترانزيستور ليصل صوت مصر إلى كل بيت سواء داخلها أو فى الوطن العربى ( فالقوى الناعمة تعنى التأثير داخل المجتمع و خارجه ايضا ) ، كما فتحت جامعاتها للطلاب من كافة الأرجاء ، و أقامت مدينة للمبعوثين ، و كانت ترسل مدرسيها و وعّاظها و أطبائها إلى كل مكان ، و أحيانا تتحمل أجورهم ، هذا عدا فنونها التى رعتها و نشرتها لتصبح رسولها إلى قلوب و عقول الوطن العربى .
و كما استغلت مصر قواها الناعمة ، فإن كثيرا من دول العالم حاولت استغلال قواها أيضا داخل مصر ، فمازال بعضنا يذكر مطبوعات الاتحاد السوفيتى التى انتشرت فى الستينات و كانت تحمل مؤلفات لينين كاملة مشروحة أو مختصرة أو مبوبة فى عناوين متعددة ، و على الجانب الآخر كانت السينما الأمريكية تقوم بدورها فى شيطنة الشيوعية و كل ما يمت لها بصلة . و لم يقف الصراع بينهما عند هذا الحد ، فمن أجل أن يجتذب كل منهما أفراداً إلى جانبه سمحا بكمٍ هائل من البعثات و المنح الدراسية و الرحلات التدريبية لاكتساب أنصار و مؤيدى سياسة داخل كل مجتمع ، يتكلمون و يفكرون و يعيشون حسب النمط الذى اقتنعوا به و أحبوه ، أو ساعدهم على تحقيق النجاح على المستوى المهنى أو العملى ، كالحصول على درجة علمية أو ترقية مهنية .
و بعد أن تخلت مصر عن صداقة الاتحاد السوفيتى فى منتصف السبعينات ، بدأ نفود القوى الناعمة الأمريكية يظهر بوضوح فى الصحافة و الإعلام ، و عاد النشاط إلى منحة فولبرايت التى أنشئت أساسا كوسيلة للتاثير في الثقافات والهيمنة على عقول المجتمعات الأخرى ، ثم انضمت مصر إلى الدول التى تتلقى معونة أمريكية ، و هى وسيلة اقتصادية من وسائل القوى الناعمة تفرض على الدول المتلقية أن تسلك بطريقة لا تغضب السيد المانح للمعونة .
و خلال الثمانينات تسلل بقية المعسكر الغربى فى هدوء إلى مصر من خلال وسيلة أخرى من وسائل القوى الناعمة و هى تمويل مشروعات اجتماعية لها أبعاد ثقافية ، كحقوق الإنسان و شئون المرأة و مقاومة الختان و البيئة ، و تدفق طوفان من جمعيات العمل المدنى أو الأهلى ذات التمويل الأجنبى تغمر ريف مصر و حواضرها . و تحت بصر الحكومة و برعايتها قامت بعض الجمعيات بعمل دراسات عن كل شيئ و أى شيئ فى المجتمع ، كما أصبحت باباً خلفياً للتطبيع ( حسب دراستين أصدرتهما الباحثة سناء المصرى عن العلاقة بين التمويل و التطبيع ).
وعلى المستوى الثقافى و الفنى بدأت بعض المراكز الثقافية فى نشر ثقافة دولها عن طريق تمويل أنشطة فنية و ثقافية ، مثل المركز الثقافى البريطانى و الألمانى و السويسرى و مؤخرا اليونانى ، و رأينا عروضا من ثقافات تلك البلدان بمبدعين مصريين ، لكنى أعتقد أن أكثر المراكز الثقافية تأثيرا و أقواها حضورا كان المركز الثقافى الفرنسى الذى أنتج عروضا ، و احتضن بعض الفرق ، و أقام مهرجانا للشباب كانت جائزته السفر إلى مهرجان أفينيون المسرحى – أكبر و أعرق المهرجانات المسرحية فى العالم – لتعريف المبدعين الشباب على إبداعات الثقافات الأخرى . إلى جانب مساهمة منظمات و مؤسسات فرنسية فى تمويل أفلام مصرية . و هكذا نجح المركز فى أن يكون بؤرة تلاقح ثقافى ( أو تثاقف كما يقول الأخوة المغاربة ).
و إذا كانت معظم هذه الأنشطة الفنية اتسمت بمجرد نشر ثقافة ( الآخر ) فهناك أنشطة أحاطتها الشكوك و تسببت فى معارك ، بعضها معارك وهمية قادها بعضا ممن لا يستطيعون و لا يقدرون و لا يعرفون كيفية الحصول على التمويلات لمشاريعهم أو عروضهم ، و البعض الآخر كانت لها أسبابها الموضوعية ، فأحد الفرق المصرية المستقلة – على سبيل المثال – تلقت تمويلا طويل الأمد من مؤسسة أمريكية و شاركتها التمويل فرقة أردنية كانت تقيم مهرجانا سنويا ، و فى أحد دورات المهرجان تمت استضافة فرقة من الأرض المحتلة ، و ثار الوسط المسرحى الأردنى و انتقلت الثورة إلى القاهرة و تم اتهام الفرقتين بالتطبيع . و بعيدا عن هذه الواقعة فقد تمت محاولات كثيرة للتطبيع تحت غطاء النشاط المسرحى و الثقافى و لكن غالبها كان يقابل بالرفض ، و من قاموا به فعلوها فى الخفاء .
و لعل أكثر ما أثار شكوك المثقفين أن جهة واحدة من جهات التمويل التى تعمل فى مصر فى مجال الثقافة و الفنون ارتفعت مخصصاتها من الدول المانحة من 65 ألف دولار عام 2010 إلى 4 مليون و مائتى ألف دولار عام 2011 ( و هو مبلغ يزيد عن قيمة ميزانية الأنشطة بوزارة الثقافة فى ذلك الحين ) ، و هى نفس الجهة التى سعت بعد 30 يونيو الى إلغاء و تفكيك وزارة الثقافة ، على أن توزع ميزانيتها على جهات أهلية و كيانات خاصة غير حكومية تتولى أمر الثقافة بعيدا عن إشراف الدولة ، بل و تستولى تلك الكيانات على المبانى و المنشآت من مسارح و سينمات و مراكز تدريب و متاحف و مطابع و مكتبات لإدارتها ، و لكن بعض المثقفين وقفوا فى وجه هذا المخطط ( و لهذا حديث آخر ).
و لم ينته نشاط التمويلات و لكنه تقلص بعد القضية التى حوكم فيها 43 ناشط بعضهم أجانب و التى عرفت إعلاميا بقضية التمويل الأجنبى ، و برغم أحكام البراءة التى نالها الجميع إلا أن الدولة فرضت قيودا على تلقى الجمعيات تمويلات من الخارج ، و تم اقتراح قانون جديد للجمعيات الأهلية يفرض رقابة عليها .
و إذا كان التمويل الأجنبى الواضح قد لازمته السمعة السيئة ، فإن هناك عمليات تمويل أخرى خفية بدأت منذ السبعينات و اتصلت لسنوات طويلة ضمن صور شتى من صور القوى الناعمة اجتمعت لكى تؤثر أسوأ تأثير على الثقافة المصرية ، فإذا اعتبرنا أن الثقافة تحافظ على الهوية ، فهناك قوى تعمدت تشويه هويتنا و جرّفت كثير من عاداتنا و تقاليدنا ، و لم يلتفت إليها أحد .
لم ينتبه أحد أن العائد من ” البلدة الأخرى ” يرتدى (جلباب أبيض و شبشب) ، مطلقا لحيته و مظهرا السواك فى جيب الجلباب ، و يسمى ” السبوع ” عقيقة ، ما هو إلا مبعوث لتغيير نمط الحياة المصرية . و لم ينتبه أحد أن الكتب المطبوعة فى أناقة وتباع بأقل من ثمنها بكثير و التى تُحرّم الاجتهاد و تتصدرها الفتاوى ضد النساء و أصحاب الديانات الأخرى هى معول هدم للتسامح و قبول الآخر الذى يميز الثقافة المصرية . و لم ينتبه أحد إلى أن موجة التوبة عن الفن التى قيل أنها مدفوعة الثمن و التى صاحبت ظهور دعاة من كل شكل و لون يفرضون على الناس ألا يتحركوا خطوة دون فتوى كلها تصب فى غاية واحدة : أن تتوقف مصر عن استخدام قواها الناعمة ، و تتخلى عن قيادة العالم العربى و العالم الثالث ، و تنضم إلى القطيع الذى يقوده الكاوبوى الأمريكى ، مبتعدة عن المسار الاشتراكى الذى تعتبره هذه البلدة رجس من عمل الشيطان ، لذا قامت بحملتها لفرض الحجاب على عقل مصر ، مستخدمة تأثيرها الروحى و إمكاناتها المادية ليس فقط كوكيلة للكاوبوى فى المنطقة ، و لكن تحقيقا لمصالحها و حفاظا على نظامها ، و خوفا من ظهور عبد الناصر آخر يقود الشعوب للتمرد على حكامها مطالبة بالعدالة فى توزيع الثروة .
حتى الفنون المصرية فى تلك الفترة حوصرت و تم وأد صوتها لصالح أصوات جنسيات أخرى أو خضعت لرقابة متزمته جاهلة ، فرضتها تلك البلدة لأنها جهة الشراء الوحيدة للأعمال ، و من حق الشارى أن يقول ( يفتح الله ) إذا لم تكن البضاعة على هواه ، فمنعت تلك الرقابة الأعمال الجادة التى تناقش قضايا المجتمع الكبرى ، ثم تعسفت فى قواعدها فصارت تمنع أن تقسم بالنبى أو تقول ( يا شيخ ) أو تذكر الأولياء ، أو أن يحتضن الممثل من تقوم بدور أمه فى الفيلم أو المسلسل ، و وصل الأمر لطلب أن يظل الباب مفتوحا بشكل ظاهر فى الغرفة لو اجتمع فيها رجل و امرأة حتى لا تكون خلوة ، فى حين أن هذه الغرفة مبنية داخل استوديو يمتلئ لحظة التصوير بمئات العاملين ، و الغرفة من الأصل لها ثلاث حوائط أو اثنين فقط ليسهل التصوير بها ، و لكن تحكمات الجُهّال طالت كل شيئ ، لتتحول تلك المظاهر لقنابل حقيقية تنفجر فى الشارع المصرى و تصيب شظاياها قلب الثقافة المصرية .
و لم نخرج من آثار تلك الرقابة إلا فى التسعينات ، عندما حاولت الدولة استعادة قوتها الناعمة تحت اسم الريادة ، فاهتمت بإنتاج فنون تتسق مع الذائقة المصرية و تحافظ على ثقافتها ، و ساعدت الانفراجة الديمقراطية التى سادت على تناول موضوعات لا تجرؤ على مناقشتها دولا محيطه ، فعاد التميز للفنون المصرية .
و لكن على جانب آخر أخطأت الدولة بدعم الطرق الصوفية و تنظيمات السلفيين للحد من نفوذ الإخوان المسلمين ، فقد نقلتنا من عصر الحجاب إلى عصر النقاب ، و أتاحت الفرصة لسيطرة التفكير الغيبى و انتشار المنهج السلفى حتى فى الدراسات و الابحاث ، فالنقل عن فلان أو الاستشهاد بمقولات السابقين – فى أى مجال – هو المُثبت لأى فكرة و صانع الحقائق الوحيد . و كانت النتيجة أننا عشنا فى الماضى لا الحاضر و باتت أفكارنا على شاكلة : ” العودة إلى عصر الصحابة ” و ” الندم على ضياع الأندلس ” و البحث عن صلاح الدين ” و اختفت أى فكرة عن العدل الاجتماعى أو إعادة توزيع الثروة أو أى نقاش لمبدأ تداول السلطة أو التفكير فى المستقبل .
و هكذا ، تمزقت أوصال الثقافة المصرية و لم تعد بناءً واحدا ، نتاج لسنوات طويلة من محاولات أمركة المجتمع أو أخونته أو سلفنته . فبين ما تتيحه وسائل الاتصال و التواصل الحديثة من انفتاح على العالم و مابين انغلاق الاتجاهات الرجعية و تعويضها للنقص بزرع قيم التفوق على الجميع بادعاء التدين ، تشوهت الشخصية المصرية و أصابتها أمراض عدة ، أنتجت جرائم لم نعرفها من قبل . و صار السؤال الذى أطلقه أستاذنا الدكتور جلال أمين عن ” ماذا حدث للمصريين ؟ ” الصادر فى نهاية التسعينات ينتظر إجابة جديدة ، يشارك فيها علماء التربية و النفس و الاجتماع و السياسة ، حتى نعرف ماجرى لثقافتنا أو الحيطة المايلة ، لنسعى لإنقاذها قبل أن تنهار .
و للحديث بقية ..