رحيل (ميادة بسيليس) .. فراشة الغناء السوري!
كتب : أحمد السماحي
ابتي…
أسر اليك أن غسول هذه الأرض من دمنا
وأن يدا تعتق للصباح صفاء أدمعنا
وأن غدا سيولد من مخاض غد
فيرحم حزن هذا الكون في أحناء أضلعنا
ابتي.. ابتي
هذه الكلمات الرائعة التى استمعنا إليها في شهر رمضان الماضي، من خلال (تتر) المسلسل القضية (حارس القدس) والذي بهرنا بموسيقاه الموسيقار (سمير كويفاتي)، وكان مليئا بالخشوع والتراتيل والجو الكنائسي، كان آخر ما شدت به المطربة الراحلة والصوت الراقي المثقف (ميادة بسيليس) التى رحلت عن حياتنا صباح يوم الخميس الماضي 18 مارس، بعد أن ملأت الدنيا رقيا وجمالا.
كنت أشعر كلما استمعت إلى صوت فراشة الغناء السوري الراحلة، أنها ثائرة، والثائر لا يحيا حياتنا، ولا يفرح بمسراتنا، ولا يمرض ولا يموت، فهو ليس شخصا ولا جسدا له مطالب، إنه كلمة وموقف ومثل، كنت أشعر أنها ثائرة على المفردات والكلمات الاستهلاكية المقررة فى آلاف الأغنيات العربية، كنت أشعر أن هذا الصوت السماوي لديه قضية كرس لها كل كلمة شعرية تصدر عنه، وبعدا روحانيا، كانت تغني دائما في كل تجاربها الغنائية وليس أغنياتها شيئاً يتصل بالروح الإنساني الذي يمسنا، ولما لا فصوتها يشبه علامات الذكريات الجميلة مثل العطور المعتقة التى تعانق الخلايا الحية في الإنسان.
لم يكن صوت صاحبة (كذبك حلو، ويا طيوب، ويا نديمي، يارجائي) نابعا من الحزن الزائف والشجن المقرر علينا ممن يعيشون أكتر ألوان الحياة ترفا وبعدا عن الهموم، ثم يجيئون بعد ذلك إلينا ليغنوا، فيكون كل غنائهم أنينا وشكوى ودموعا وعذابا، و(ميادة) لم تكن من أهل الشكوى المزيفين هؤلاء، ولم تكن كارهه للحياة، بالعكس تجد في أغنياتها التفاؤل والحب والحياة.
بقيت فراشة الغناء (ميادة بسيليس) التى أدت الأدوار والمقامات، وسجلت دور (أصل الغرام) لـ (محمد عثمان) في إذاعة حلب ونالت المرتبة الأولى في برنامج الهواة وهى صبية، بقيت بعيداً عن النجومية والانتشار، مفضلة البقاء في مدينتها (حلب) التي علمتها الكثير من أصول الغناء الطربي الأصيل، لذلك لم يكن غريبا حين سنحت لها الظروف لتقدم موهبتها الغنائية أن تتألق وتأخذ مكانها الطبيعي بين نجوم الغناء العربي، ويساعدها في ذلك زوجها الموسيقار المبدع صاحب التجربة المختلفة (سمير كويفاتي)، الذي كون معها ثنائيا غنائيا يسقطان كل المعاني العظيمة للوطن، سواء بالنقد أو المديح فى معظم أغنياتهما الوطنية، فالوطن هو سمائهما الدائمة دوام الأبد، وهو الحياة والموت.
ويتسع لكل الأحداث والمشاعر فى قلوبهما وأعينهما، ودلالات لمعنى المعاناة، وبين المشاعر التى تعكس معاني الوفاء والانتماء والحب المطلق، فهو وطن يجمع على الأرض، الحياة بنضوجها وبين الموت على ترابه، ومن أجل ترابه، ويلخصون مشاعرهما تجاه الوطن، بأنه هو أغلى ما يعتزون به، لأنه صباهما ومدرج خطاهما، ومرتع طفولتهما، ومآوي كهولتهما، ومنبع ذكرياتهما ونبراس حياتهما، وموطن آبائهم وأجدادهم وملاذ أحفادهم.
كانت (ميادة بسيليس) واحدة من قلة فى العالم العربي لديها مع زوجها مشروعهما الغنائي الاستثنائي مثلهما مثل (زياد الرحباني، خالد الشيخ، مارسيل خليفة، علي الحجار، خالد الهبرا، محمد منير) هؤلاء الذين نطلق عليهم شعراء الغناء العربي، والذين يشكلون استثناء لقاعدة سائدة تتمثل في شيوع أصحاب الأصوات التى تغني الكلمات العادية والمستهلكة التى تأتي على حساب الأغنية الجادة واللحن المؤثر والكلمة الدالة.
نظرا لابتعاد ما تقدمه (بسيليس) عن الغناء السائد لهذا كانت تنتج ألبوماتها مع زوجها على نفقتهما الخاصة، لعدم تقديمهما اللون الغنائي التجاري الذي تسعى إليه شركات الكاسيت، وكان أول ألبوماتها (يا قاتلي بالهجر)، وآخر ألبوماتها (إلى أمي وأرضي) الذي طرح عام 2010، وما بين الألبومين امتدت مسيرة أثمرت 14 ألبوماً غنائياً منها (مريميات، وخلقت جميلة)، وغيرها من الألبومات التى ترضي ذائقة عشان الرقي والجمال.
(ميادة بسيليس) التى رحلت عنا منذ يومين وهي في عز ربيعها حيث رحلت عن عمر 54 سنة بعد معاناة مع مرض السرطان، تركت السوريون يتامى وهم يترنمون برائعتها (صاير كل شي قاسي، ناقصنا حنان، ضيعان هالعمر، يروح هيك يا ضيعان)، كما يرسلون لبعضهم أغنيتها الشهيرة (عيني ع دنيا ) التى تقول فيها:
وعيني ع دنيي كلها غروب
ومشينا بعتمة دروب وراها دروب
وانسينا الهنا ماعاد إلنا قلوب
لا عاد في صفا ولا عاد فينا ندوب
والدنيي كلها غروب
هذا وقد نعتها الأوساط الفنية والثقافية في دمشق بكلمات مؤثرة، من هؤلاء النجوم (المطربة العربية لطيفة، رويدا عطية، مها المصري، ديمة قندلفت، مهيار خضور، فادي صبيح، شكران مرتجى، يارا صبري، ناصيف زيتون، الموسيقار طاهر مامللي، مصطفى الخاني) وغيرهم من نجوم الغناء والتمثيل.
أما النجم الكبير (أيمن زيدان) الذي كانت تربطه صداقة وطيدة بالراحلة وزوجها، وكتب لها أكثر من أغنية مثل (خليني معك) وأخرج لها أكثر من كليب، وغنت له أكثر من (تتر) مسلسل من بطولته مثل (إخوة التراب، أيام الغضب، هوا بحري) فقد تألم كثيرا لرحيلها وكتب على صفحته على الفيس بوك قائلا (أيقونة مبدعة .. صديقة درب من الحلم والطموح، هذه المرة لم تكن كذبة الحياة حلوة .. كم أوجعني رحيلك يا ميادة، خسارتك كبيرة في زمن ما أحوجه لإبداعك .. تهزمني الكلمات وأنا أشيع قطعة من القلب، عزائي لك يا توأم الروح).
خاضت المطربة الراحلة العديد من أشكال التعامل مع النصوص الغاية في التنوع، ومن بين أهمها التعامل مع القصائد العربية التقليدية والحديثة فغنت (يا قاتلي بالهجر) الذي يقول مطلعها:
يا قاتلي بالهجر كيف قتلتني
قلّي بربك مالذي أنا فاعل
صحّ الذي بيني و بينك بالهوى
يرضى القتيل و ليس يرضى القاتلُ
كما غنت من كلمات الشاعر الفلسطيني (يوسف الخطيب) قصيدة (أجراس بيت لحم) التى تقول فيها :
فيوم أن يضمنا عناق في جبل الزيتون والبراق
نقسم أن نكحل الأهداب ملء الأكف حفنتي تراب
وأن نرش أندر الأطياب ملء الصدور
زعتر التلال.. وسع الدنى أريج برتقال
ها قد أقبلت على جناح الريح أجراس بيت لحم
شفاء عالم جريح
تقرع ميلاد المسيح
أجراس بيت لحم أجراس
كما قدمت الأغنية العاطفية الراقية والتراثية من خلال (يا محلى الفسحة، أنا رح دائما أهوالك، طيب خليك، عادي، على عيني، كذبك حلو، ما بدي يا ماما، ما في شي مستاهل، ناتالي، يا رجائي، يا طيوب، ما في شي مستاهل، يا نديمي، أحسنلك تروح، بسأل على حالي، بليلة عم بحلم، الله عليك، وحدي بلا رفيق، يا غالي) وغيرها من الروائع الغنائية.
(ميادة بسيليس) ستترك برحيلها فراغا كبيرا لدى الجمهور المحب للأصالة والرقي والذي ردد يوما وسيردد دواما أغانيها بحب وشغف، إذ جمعت بين الأصالة والمعاصرة، بروح شبابية متوقدة.