رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

حكمة (عم رمضان) عن جنة الله على أرضه في (يوم من الأيام)

كتب : محمد حبوشة

روعة الريف المصري وجمال مشاهده الخلابة المكسوة بالخضرة والوجوه الطيبة رغم شقائها، العودة لأصالة وصفاء الروح والأخلاق الكريمة التي كانت تميز حياة المصريين، التمسك بالقيم الضاربة في طين الأرض التي تسكنها البهجة والجبروت جراء تحمل شظف العيش الكريم، الحكمة الكامنة في نفوس الطيبين من أهلنا، ملح الأرض، وسند المضطر لتحمل قسوة الأيام والظروف الصعبة في زمن الغربة والضياع .. كل تلك وغيرها من علامات على الحضور القوي لمفاهيم الإنسانية على أرض مصر الطيبة هو ما تعود بنا على جناحه الحكاية الثانية (يوم من الأيام) في سلسلة حكايات (وراء كل باب)، بطولة الفنان القدير (أحمد خليل، يوسف عثمان، حلمي فودة، يوسف إسماعيل، هايدي رفعت، حمزة الشوربجي، محمد عمروسي)، سيناريو وحوار محمد الشواف، وإخراج أحمد خالد أمين، ومن إنتاج سينرجي والتي ينتهي عرضا اليوم على شبكة الحياة.

حكاية (يوم من الأيام)

هى دراما حقيقية تعيدنا إلى زمن المسلسلات الاجتماعية التي تركز على القيم الإنسانية التي يتمتع بها أهل مصر الطيبين في الريف والحضر، ولأنها (مستوحاة من أحداث وحكايات حقيقية) بحسب تتر الحكايات، فإنها جاءت صادقة نابضة بالمشاعر والأحاسيس التي نفتقدها في قلب دراما العنف والكراهية والقتل والعشوائية والترهل على أقل تقدير والذي يصيب المزاج العام لصناعة الدراما المصرية في مقتل ما يجعلها ترواح مكانها بفعل شيطاني رجيم، وكأن هنالك حالة من التعمد لتقديم بضاعة فاسدة في لفافة من ورق السلوفان الذي يحمل روح العصر بتشوهاته النفسية التي تسعي لتجريف تربة الدراما المصرية التي بدأت منذ 5 سنوات تقريبا في الخروج عن طورها الطبيعي المعهودة به.

ومع ذلك يبقى لنا قليلا المتعة عبر أعمال شيقة مثل: (الطوفان، أبو العروسة، الأخ الكبير، شارع الشانزليزيه، أهو ده اللي صار)، وغيرها من أعمال متناثرة تأتي على استحياء من حين لآخر على جناج تجارب غير ناضجة للأسف، وأخيرا من خلال خمسة حلقات منفصلة متصلة جاءت بعض حكايات (إلا أنا)، لتستعيد روح الدراما الاجتماعية التي أدت إلى نضج فكرة الكاتب الصحفي (يسري الفخراني) أكثر وأكثر في حكايات (وراء كل باب) التي اقترب فيها من الواقع المصري المعاش ومحاولة اللعب على أفكار قضايا حقيقية ماتزال تسكن نفوس المصريين عبر صلات القربي والجيرة وقيمة العمل والعيش بكرامة محتى الأزمات الطارئة كـ (كورونا) وغيرها من أمور تعكس عشق المصري لحياة الأصالة التي تسكن الأرض والبيوت الدافئة بالمشاعر الإنسانية الفياضة بالحب والعطاء.

حكاية (يوم من الأيام) هى ثاني حكاية في سلسلة (وراء كل باب) التي تعزف لحنا شجيا على أوتار مشاعر كانت مقطوعة ومحذوفة من حياتنا المصرية البسيطة والفطرية حتى عادت إلينا بأداء رائع لكل فريق العمل، وعلى رأسهم القدير أحمد خليل في ذهابه بحرفية وخبرة طويلة نحو مناطق دافئة في حياة الجد الذي يكد ويتعب على حفيده الكفيف الذي خرج به من الدنيا، وذلك من خلال معايشته للدور والتماهي مع شخصية (عم رمضان) في حركته الرشيقة وروحه الوثابة رغم كبر سنه، وهنا قدم لنا المؤلف نموذجا مثاليا للإنسان المصري المكافح في الحياة والمتمسك بقيمه وتقاليده محافظا على وصية والده.

ولأن أحمد خليل واحد من عتاة التمثيل المصري خلال العقود الأربعة الماضية، فقد جسد الشخصية ببساطة وتلقائية تقترب من كل واحد منا يعيش على تراب مصر الطيبة العفية بأخلاقها وقيمها الأصيلة، وساهم بأداء العذب السلس في تجسيد الحالة الإنسانية الدافئة التي تتمكن من أن تعدل المزاج العام لنوعية الدراما الاجتماعية، وقد ساهم في تعميق الحالة أكثر أداء يوسف عثمان لشخصية (حسن) الطالب الجامعي الأزهري الكفيف على نحو يوحي بنضج موهبته الكبيرة التي بدت عنده وهو طفل في فيلم (بحب السيما).

كثيرة هى مشاهد الـ (ماستر سين) في هذه الحكاية التي لاتزيد عن خمس حلقات، والتي تحمل في طياتها كثير من المعاني والمشاعر التي افتقدناها وخاصة جو الريف الذي تنعق فيه غربان التكنولوجيا الحديثة في الوقت الراهن لتغير ملامحه شكلا وموضوعا، لكن استوقفني مشهد الحوار الجميل في حكمته الرائع في أداء قوي بين الفراش (عم رمضان – أحمد خليل) وصديقه المدير (ممدوح – حلمي فودة) تحت شجرة عتيقة وارفة الظلال في نهار ريفي عفي مفعم بالبراءة والفطرة الطيبة، والعودة للطبيعة وللجذور الحقيقية، وقد جاء على النحو التالي:

ايه ده .. ايه اللي عملته ده كله وايه الحلاوة دي؟

ممدوح ينهج من شدة طعم وحلاة عود القصب قائلا: لا .. لا خلاص .. كفاية بقى .. مبقيتش قادر آخد نفسي .. ايه ده .. ايه اللي عملته ده كله  وايه الحلاوة دي؟ .. القصب ده حاجة تانية خالص غير اللي بتنزل لنا القاهرة !.

عم رمضان بابتسامة نابعة من القلب تؤكد على فطرية الريف: كل حاجة هنا لها طعم تاني.

ممدوح : معك حق .. بس اسمع يارمضان أنا شايف انك لازم ترتاح وكفياك شقى.

انت فاكر اني عشان طلعت معاش يبقى خلاص .. دا انا اموت لوارتحت
نفس الحكاية برضه حاعملها .. اصحي بدري وأروح الأرض

عم رمضان : انت فاكر اني عشان طلعت معاش يبقى خلاص .. دا انا اموت لو ارتحت .. لا ياحبيبي أنا لو ارتحت أعيا .. أنما زي ما كنت كل يوم اصحي الصبح بدري وأروح الشغل .. نفس الحكاية برضه حاعملها .. اصحي بدري وأروح الأرض واخدمها واخضرها.

كبرنا يارمضان كبرنا السنين والأيام بتعدي زي الريح

ممدوح : كبرنا يارمضان كبرنا .. السنين والأيام بتعدي زي الريح واديك اهوه طلعت معاش وأنا كلها كام سنة واحصلك.

يسرح عم رمضان بخيال ويحكي حكاية تحمل دلالات وملامح حكمة السنين في الحلقات الخمس كلها قائلا : كان فيه اتنين صحاب ساكنين في شقة فوق سطوح عمارة ستين دور .. لقو الأسانسير عطلان .. مكنش قدامهم إلا انهم يطلعوا على السلالم الستين دور دول .. اتفقوا مع بعض أول عشرين دور حيكوا حدوتة كلها فرح، وتاني عشرين دولا حيكوا حدوتة فيها شقى وتعب، وتالت عشرين دور يحكوا حدوتة فيها حزن .. لما وصلوا للسطوح (يهز رأسه بسخرية مرة) .. لما وصلو للسطوح افتكروا انهم نسيو المفتاح تحت .. أهى الدنيا كده يا ممدوح : أول عشرين سنة طفولة ومرح وحياة حلوة جميلة مفيهاش مسئولية، وتاني عشرين سنة شقى وتعب وكفاح، وتالت عشرين سنة بقى يا حبيبي الحزن كله : مرض وضغط وسكر .. المهم ان البني آدم وهو طالع فوق مينساش (المفتاح) الذي إلى أعمال الإنسان في الدنيا.

ممدوح : عندك حق يارمضان .. كل واحد فينا لازم يكون في ايده مفتاح شقته و يستعد لصالح الأعمال اللي يقابل بها ربنا.

اسمع يارمضان أنا شايف انك لازم ترتاح وكفياك شقى

عم رمضان : أنا الحمد لله (حسن) بالنسبة لي هو صالح الأعمال بتعتي في الدنيا.

ممدوح : أنا دلوقتي عرفت ليه انت مكنتش عايز تعيش في القاهرة وتسكن فيها: عبيط مين اللي يسيب البراح  ده كله والجنة دي الجميلة دي وينزل يروح يقعد في الزحمة والخنقة والديقة .. طب تصدق أنا من ساعة ما وصلت هنا وأنا حاسس ان نظري ستة على ستة .. شايف كويس قوي ولآخر مدى .. مفيش حاجة حايشة نظري خالص .. ويضيف : ياسلام ايه الجمال ده كله وايه الخضرة اللي ملهاش حد دي.

شايف كويس قوي ولآخر مدى .. مفيش حاجة حايشة نظري خالص

عم رمضان : يارجل خضرة ايه اللي بتتكلم عنها دلوقتي الخضرة دي كانت زمان .. الأيام دي اللي عنده حتة أرضة بيبورها ويعملها مباني .. زمان بقى كنت تقعد القعدة دي تبص على مدى الشوف تلاقيها كلها خضرة .. تشوف الجنة بحق وحقيق .. هى حكمة الحياة إذن وتقلبات الأيام التي عصفت بأجمل ما كان في حياتنا المصرية البسيطة، طبقا لمقولة الإمام محمد عبده : اللهم ارزقني حياة الفلاح البسيط الذي يعيش على العشب ويصلي على العشب ويموت على العشب.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.