بقلم الدكتور: طارق عرابي
حواس الاستقبال العامة قد تختلف من إنسانٍ لآخر ، فعلى سبيل المثال قد تختلف استجابة شخص عن شخصٍ أخر تجاه شيءٍ واحدٍ تراه العين (حاسة الإبصار) أو تسمعه الأذن (حاسة السمع) ، لكن أصحاب الوجدان الإنساني السليم والحي لديهم استجابات حسية متوافقة ، هذا إن لم تكن موحدة ، تجاه الحب والجمال ، والاستقامة والفساد ، والحرب والسلام ، والظلم والعدل .. إلخ ، ومن أهم ما يميز الفنان الحقيقي هو إنسانيته ومصداقيته ووجدانه الحي .
وإن فقد الفنان إنسانيته وبراءة وجدانه وعزل نفسه عن قضايا مجتمعه فلا جدوى من موهبته ، وإن خُدعنا فيه لبعض الوقت بسبب براعة آدائه (ذي الكذب المستتر) ، فإنه لن يتمكن من خداعنا طوال الوقت وسيخسر كلَ ما اكتسبه زيفاً ولو بعد حين .
هناك أمثلة مصرية عظيمة للفنانين والإعلاميين أصحاب الوجدان الحي والضمائر اليقظة الذين لم ينفصلوا لحظةً عن الناس وعن قضايا مجتمعاتهم ، منهم ممن رحلوا عن عالمنا على سبيل المثال لا الحصر الشاعر “أمل دنقل” والكاتب “وحيد حامد” والمخرج “صلاح أبوسيف” والإعلامي “حمدي قنديل” والممثل “أحمد زكي” ، وبالتأكيد هناك كثيرون غيرهم من الفنانين والصحفيين والإعلاميين المصريين الشرفاء الذين أثبتوا أنهم “يعيشون الناسَ” وكأنهم جسدٌ واحدٌ على قلبٍ واحدٍ إن تألم تداعى له سائرُ الجسد بالسهر والحمى .
وإنسانية الفنان ووجدانه الحي وضميره اليقظ لا علاقة لهم بلونه أو عرقه أو دينه أو أي من خلفياته العقائدية أو الثقافية ، فالفنان هو الفنان بأي بقعة من بقاع الكون ، يرتقي ويسمو دوماً بنبله الإنساني قبل موهبته الفنية .
لقد استحق النجم الأسطوري الراحل “مارلون براندو” أكثر من تلك المقدمة قبل أن أتناول أياً من سيرته الذاتية أو مسيرته الفنية الحافلة .
في حفل الأوسكار الخامس والأربعين الذي أقيم يوم 27 مارس من عام 1973 تم إعلان إسم النجم “مارلون براندو” فائزاً بجائزة الأوسكار كأفضل ممثل في دور رئيسي عن الفيلم الشهير “الأب الروحي” The Godfather (الجزء الأول – إنتاج 1972) وبدلاً من أن يعتلي “براندو” منصة استلام الجائزة (بسبب غيابه عن الحفل) تفاجأ جميع الحضور بصعود ممثلة مغمورة من الأمريكيين الأصليين (الهنود الحمر) Native Americans وتُدعى “ساتشين ليتل فيذر” Sacheen Littlefeather (والمولودة بإسم ماريا كروز Maria Cruz بولاية كاليفورنيا الأمريكية في شهر نوفمبر من عام 1946 ، ومازالت على قيد الحياة حتى وقتنا هذا) ، وتحدثت “ساتشين” من منصة حفل الأوسكار وصرحت بأن “مارلون براندو” قد فوضها نيابة عنه لتعلن رفضه للجائزة مع كل الاحترام للحضور وللجهة المانحة ، وأوضحت أن سبب رفض “براندو” للجائزة هو سوء معاملة القائمين على صناعة الترفيه في هوليود للهنود الحمر ، وكذلك بسبب ردود أفعال الحكومة الأمريكية (في ظل قيادة الرئيس ريتشارد ويلسون) على حركة الهنود الحمر واحتجاجاتهم في مدينة “ووندِد نِي” Wounded Knee بولاية داكوتا الجنوبية South Dakota الأمريكية في السابع والعشرين من فبراير من نفس العام (أي قبل حفل الأوسكار بشهر) ، وقد تعالت بعض صيحات السخرية من بعض حضور الحفل على هذا الكلام ولكن سرعان ما اختفت تلك الصيحات العدائية وسط غزارة التصفيق من غالبية الحاضرين بالقاعة ، بعد ذلك عبرت “ساتشين” عن أنها لم تكن ترغب في أن تنوب عن النجم “مارلون براندو” وتتطفل على الحضور ، وأعربت في نهاية كلمتها عن أمنياتها بأن تلتقي قلوب الأمريكيين جميعاً على التفاهم والمحبة والكرم .
وقد فاز “براندو” عن نفس الفيلم بجائزة جولدن جلوب التي رفضها كذلك لنفس الأسباب .
مارلون براندو من طالب فاشل إلى ممثل ناجح !
وُلد “مارلون براندو” Marlon Brando في شهر أبريل من عام 1924 في مدينة “أوماها” بولاية نبراسكا الأمريكية ، والده كان بائعاً لكربونات الكالسيوم ، ووالدته كانت ذات ميول فنية ومحبة لفن التمثيل وقد شاركت في بعض مسرحيات الهواة في نبراسكا مع الفتى المجهول آنذاك “هنري فوندا” وكانت تقوم من خلال دورها كمديرة لمسرح “أوماها كوميونيتي” Omaha Community Playhouse بنصح “هنري فوندا” وتوجيهه فيم يتعلق بفن الآداء التمثيلي .
شقيقة “براندو” الكبرى الممثلة “جوسلين براندو” سبقته في الانتقال إلى نيويورك لتدرس فن التمثيل .
كان “مارلون براندو” في صباه محاطاً بطاقة سلبية وتلازمه حالة من الإحباط وخاصة من والده (بارد المشاعر) الذي كان يُشعره دائماً بأنه لا يوجد مستقبل مهني جيد له ، وكذلك من أساتذته بالمدرسة الثانوية ، وهي المدرسة التي قامت بطرده لرؤية إدارتها بأن الطالب “مارلون براندو” غير قابل للإصلاح .
لم يكن الفتى “مارلون براندو” جيداً في أي شيء ولم يكن لديه أيَ شيءٍ آخر يلجأ إليه سوى فن التمثيل الذي كان بارعاً فيه وهو الشيء الوحيد الذي حظى بالثناء عليه ، لذا أصر “براندو” على أن يكون التمثيل هو مصيره المهني الوحيد .
بدأ “مارلون براندو” أول عمل احترافي له عام 1949 في المسلسل التلفزيوني الشهير Actor’s Studio والذي شاركت فيه كذلك شقيقته الكبرى “جوسلين براندو” .
ونرصد فيما يلي بعضاً من أهم أعمال النجم الراحل “مارلون براندو” في مسيرته الفنية الحافلة .
– في عام 1950 يحصل الشاب “مارلون براندو” في أول عملٍ سينمائي له على دور البطولة مع النجمة “تريسا رايت” Teresa Wright وذلك في فيلم The Men الذي يجسد فيه دور الجندي “كين ويلوتشيك” المصاب بشلل نصفي (في ساقيه) ويفقد القدرة على المشي إثر إصابته في الحرب ، ويقضي وقته بالمستشفى غارقاً في الشفقة على حاله ولا يبذل جهداً في الاستجابة للعلاج ، ويأتي دور حبيبته وخطيبته “إيلين” (النجمة تريسا رايت) التي تعيد له الأمل وتشجعه ليوافق أخيراً على السماح للطبيب “بروك” (الممثل القدير إيفريت سلون) بمساعدته ، ويأمل “كين ويلوتشيك” أن يكون قادراً على الوقوف والسير في يوم زفافه على “إيلين” .
جديرٌ بالذكر أن “براندو” ذهب قبل تصوير هذا الفيلم إلى مستشفى المحاربين القدامى واحتجز نفسه على كرسي متحرك لمدة أسابيع بين المحاربين القدامى المُعاقين حتى يستطيع معايشة الحالة والشخصية بشكل واقعي قبل أن يبدأ الفيلم ، وكانت تجربة “براندو” تلك حدثاً جديداً لم يعتده ولم يسمع به أحدٌ في هوليوود من قبل .
ترشح فيلم The Men لجائزة الأوسكار كأفضل قصة وسيناريو .
– في عام 1951 يشارك “مارلون براندو” النجمة “فيفيان لي” والنجمة “كيم هَنتر” والنجم “كارل مالدين” ونجوم آخرين في فيلم A Streetcar Named Desire الذي ترشح عنه “براندو” ولأول مرة لجائزة الأوسكار كأفضل ممثل في دور رئيسي ، وفاز الفيلم بأربع جوائز أوسكار كانت لكلٍ من “فيفيان لي” كأفضل ممثلة في دور رئيسي ، و”كيم هَنتر” كأفضل ممثلة في دور مساعد ، و”كارل مالدين” كأفضل ممثل في دور مساعد ، وترشح الفيلم لثماني جوائز أخرى كان من بينها “براندو” كما ذكرنا ، والمخرج “إيليا كازان” كأفضل إخراج . وترشح الفيلم لثلاث جوائز من جولدن جلوب فازت منها “كيم هَنتر” بجائزة أفضل ممثلة في دور مساعد ، وجاءت “فيفيان لي” بين الترشيحات كأفضل ممثلة في دور رئيسي .
وترشح الفيلم لجائزتين من BAFTA فازت منهما “فيفيان لي” بجائزة أفضل ممثلة في دور رئيسي .
جديرٌ بالذكر أن النجمة “فيفيان لي” لم تحضر حفل الأوسكار لعام 1952 وتسلمت الجائزة نيابة عنها النجمة “جرير جارسون” ، وقد تُوفيت “فيفيان لي” عام 1967 في لندن متأثرة بمضاعفات مرض السل المزمن وكان عمرها آنذاك 53 عاماً .
– في عام 1952 يشارك “مارلون براندو” النجم “أنتوني كوين” والممثلة القديرة “ميلدريد دونُك” ونجوم آخرين في فيلم Viva Zapata ويجسد فيه “مارلون براندو” شخصية المزارع المكسيكي “إيمِليانو زاباتا” الذي يتحول إلى شخص ثوري ومعه شقيقه “يوفيميو” (الممثل أنتوني كوين) ضد الرئيس المكسيكي الفاسد “بورفيريو دياز” (الممثل فاي روب) بسبب ظلمه لشعبه وتجاهل احتياجاته ، وينضم إلى “إيمِليانو” وشقيقه المتمرد الشمالي “باتشو فيلا” (الممثل ألان ريد) ويقفون جميعاً خلف “فرانسيسكو ماديرو” (الممثل هارولد جوردون) الخصم السياسي للرئيس “دياز” ، وبعدما يساعدون “ماديرو” في هزيمة “دياز” يكتشف “إيمِليانو زاباتا” أن إدارة “ماديرو” فاسدة تماماً مثل سابقتها ، وخصوصاً الجنرال “فِكتوريانو هويرتا” (الممثل فرانك سيلفيرا) الذي يقود منظومة الفساد بتلك الإدارة الجديدة ، فيضطر “زاباتا” إلى إتخاذ إجراءات مغايرة .
ترشح “مارلون براندو” عن هذا الفيلم لجائزة الأوسكار كأفضل ممثل في دور رئيسي ، وفاز بجائزة BAFTA وجائزة مهرجان “كان” السينمائي Cannes Film Festival كأفضل ممثل ، بينما فاز “أنتوني كوين” عن نفس الفيلم بجائزة الأوسكار كأفضل ممثل في دور مساعد ، وترشحت الممثلة “ميلدريد دونُك” عن نفس الفيلم لجائزة جولدن جلوب كأفضل ممثلة في دور مساعد .
– في عام 1953 يجسد “مارلون براندو” شخصية “مارك أنتوني” السياسي والقائد العسكري والذراع الأيمن لقيصر الامبراطورية الرومانية في فيلم السيرة الذاتية التاريخي Julius Caesar ، وهو الذي كشف مؤامرة “بروتَس” و”كاسيوس” ضد “يوليوس قيصر” . من المعروف أن “مارك أنتوني” مات منتحراً في مدينة الإسكندرية المصرية عام 30 قبل الميلاد وعمره 53 عاماً .
ترشح “مارلون براندو” عن هذا الفيلم لجائزة الأوسكار كأفضل ممثل في دور رئيسي وفاز بجائزة أفضل ممثل أجنبي من BAFTA ، وقد فاز الممثل الإنجليزي العالمي القدير “جون جيلجود” من نفس الجهة عن نفس الفيلم بجائزة أفضل ممثل بريطاني .
– في عام 1954 يشارك “براندو” النجمة “إيفا ماري سانت” وكلاً من “كارل مالدين” و”لي جيه كوب” و”رود ستايجر” ونجوم آخرين في فيلم On the Waterfront الذي ترشح لعدد 12 جائزة أوسكار فاز منها بثماني جوائز ، وفاز “براندو” عن هذا الفيلم ولأول مرة بجوائز الأوسكار وجولدن جلوب و BAFTA كأفضل ممثل في دور رئيسي ، وكان من بين الفائزين بالأوسكار “إيفا ماري سانت” كأفضل ممثلة في دور مساعد ، و”إيليا كازان” كأفضل إخراج ، وكان من بين ترشيحات الأوسكار “لي جيه كوب” كأفضل ممثل في دور مساعد ، و”كارل مالدين” كأفضل ممثل في دور مساعد ، و”رود ستايجر” كأفضل ممثل في دور مساعد .
واختتم “براندو” عام 1954 بآدائه لشخصية “نابليون بونابرت” في فيلم Désirée الذي ترشح لجائزتي أوسكار كأفضل ديكور وأفضل تصميم ملابس .
– في عام 1956 يشارك “براندو” في الفيلم الكوميدي The Teahouse of the August Moon الذي ترشح عنه لجائزة جولدن جلوب كأفضل ممثل .
– في عام 1957 يقدم “براندو” مع “باتريشيا أوينز” و”مارثا سكوت” والممثل القدير “ريد باتونز” و”جيمس جارنر” والممثلة اليابانية “ميوشي أوماكي” ونجوم آخرين فيلم Sayonara الذي ترشح لعشر جوائز أوسكار فاز منها بأربع جوائز كان من بينها فوز “ميوشي أوماكي” بأوسكار أفضل ممثلة في دور مساعد ، و”ريد باتونز” كأفضل ممثل في دور مساعد ، وترشح “مارلون براندو” عن هذا الفيلم لجائزتي الأوسكار وجولدن جلوب كأفضل ممثل في دور رئيسي .
– في عام 1958 يقدم “براندو” فيلم The Young Lions الذي ترشح لثلاث جوائز أوسكار وترشح عنه “مارلون براندو” لجائزة BAFTA كأفضل ممثل أجنبي .
– في عام 1963 يقدم “مارلون براندو” فيلم The Ugly American الذي ترشح عنه لجائزة جولدن جلوب كأفضل ممثل .
– في عام 1972 يقدم “مارلون براندو” عملين رائعين للسينما ، يبدأهما بالجزء الأول من الفيلم الأسطوري “الأب الروحي” The Godfather الذي جسد فيه زعيم المافيا الكبير “فيتو كورليوني” ، وقد تحدثنا عن تفاصيل هذا الفيلم في موضوع سابق خاص بالنجم “آل باتشينو” بعنوان (آل باتشينو .. مفيش فلوس للأتوبيس!).
ثم يختتم “براندو” نفس العام بفيلم Last Tango in Paris الذي ترشح عنه لجائزتي الأوسكار و BAFTA كأفضل ممثل في دور رئيسي .
– في عام 1989 يقدم “مارلون براندو” فيلم A Dry White Season الذي ترشح عنه لجوائز الأوسكار وجولدن جلوب و BAFTA كأفضل ممثل في دور مساعد .
– في عام 2001 يقدم “مارلون براندو” آخر أعماله السينمائية مع النجم الكبير “روبرت دي نيرو” والنجم الشاب آنذاك “إدوارد نورتون” وذلك في فيلم The Score ، وقد تحدثنا بالتفصيل عن هذا الفيلم في موضوع سابق خاص بالنجم “إدوارد نورتون” بعنوان (رَيَّح “الواد” ياابو “إدوارد”!) .
– في عام 2004 يبدأ “مارلون براندو” قبل رحيله بشهور المشاركة في آخر أعماله الفنية التي لم تُعرض حتى يومنا هذا رغم جاهزيتها للعرض منذ عام 2006 ، والغريب في الأمر أن “براندو” شارك هذه المرة بآدائه الصوتي لشخصية إمرأة تملك محلاً للحلوى وتُدعى السيدة “ساور” Mrs. Sour وذلك في فيلم الكارتون التلفزيوني الكوميدي Big Bug Man .
جديرٌ بالذكر أن أعلى أجر حصل عليه “براندو” كنجم سينمائي هو 3 مليون و 300 ألف دولار وكان ذلك عن فيلم A Dry White Season عام 1989 ، ولكنه في بعض أفلامه كان يحصل على أجر بسيط مقابل حصوله على نسبة من عائد شباك التذاكر ، وقد حدث ذلك في فيلمه الشهير The Godfather عام 1972 الذي تقاضى عنه أجر 50 ألف دولار فقط ، وحصل على نسبة من عائدات التذاكر على الفيلم.
ترشح النجم الراحل “مارلون براندو” إجمالاً لعدد 8 جوائز أوسكار فاز منها مرتين ، وترشح لعدد 10 جوائز من جولدن جلوب فاز منها خمس مرات ، كما ترشح لعدد 7 جوائز من BAFTA فاز منها ثلاث مرات.