نسرين طافش .. شوق على شوقك لمدينتك (حلب)
بقلم : محمد حبوشة
لأنها ملاذ آمن لشاكى النواب وعابرى السبيل، بوصف أبو (العلاء المعري)، ووجهة (أبو فراس الحمداني) التى لابديل عنها، بعد أن طاف الآفاق شرقا وغربا فلم يجد مثلها منزلا ولا مشربا يدنو بلحظة قرب من نسائهما التى تعطر الروح، ويرق لها القلب والوجدان، ولأنها عند الشاعر المصري (محمد إبراهيم أبوسنة) سحابة نثرت ضفائرها، وفستق دمعها يشكو الصبابة فى ميل الشمس نحو حافة الغروب، وذلك قبل أن يدرك الشاعر نفسه الآن، إن ما بين بحر الروم والمنفى – وتلك نبوءة العراف – لايمكن أن تلمع سيوف ذوي القرابة دافعا عن شرفها وعرضها.
لأجل ذلك كله وأكثر فإن النجمة (نسرين طافش) سورية الهوى، فلسطينية الهوية، جزائرية الموطن، عربية الجنسية والروح، عبرت عن شوقها الجارف لمدينة حلب مسقط رأسها التي ولدت فيها وتربت وترعرعت في شوارعها صبية عاشقة للفن المستمد من رحيق نبعها الصافي، وذلك من خلال مشاركتها لجمهورها ومحبيها على مواقع التواصل الاجتماعي بالغناء عبر صوتها المتدفق بالمشاعر الفياضة المعبرة عن حنين جارف يبعث على الشجن بموال (اللؤلؤ المنضود) للشاعر ابن مدينة حلب الدكتور (جلال الدين الدهان)، وكتبت (نسرين) في تعليق مصاحب للموال: إنه (غناء أسطورة مدينة حلب الفنان القدير (صباح فخري)، وقد تفاعل الجمهور معها وسط إعجاب بجمال صوتها وتعلقها بمدينة حلب وهى تشدو بعضا من الموال الذي يقول:
اللؤلؤ المنضود في فمك الجميل
فيه السعادة للشقي وللعليل
فإذا تفتحت الشفاه ثوانيا
نورت دنيانا وأحييت القتيل
فقتيل حبك ليس يحييه
سوى أنوار ثغرك إنه يرضى القليل
جودي عليه بنظرة لا تبخلي
جودي عليه ببسمة لاتبخلي
جودي عليه بقبلة لا تبخلي
فالحب والرحمن أعداءه البخيل
سبق أن دخلت الفنانة (نسرين طافش) مجال الغناء إلى جانب الدراما والسينما، وأصدرت ألبوما تضمن أغنيات من مختلف الأقطار العربية ومنها (متغير على، 123 حبيبي، إلا معك، أريد أرتاح ، شوقي، الحلوة) وغيرها من أغنيات تعكس جمال صوتها وعذوبته بطريقة احترافية، لكنها في موال (اللؤلؤ المنضود) ورغم غنائه بطريقة تلقائية وعلى غير ترتيب، يؤكد حالة الوجد والشوق لمدينتها دون موسيقى، إلا أن نبرات صوتها جعلت كل ما في حلب يتكلم، منابرها ومساجدها، قلاعها، أسواقها، أزقتها، حجارتها التي تروي قصصا تمتد آلاف السنين، وحكايات عن غزاة عادوا خائبين، وحضارة استوعبت كل حضارات الكون، لتعطي حضارة متميزة، وعددا من مبدعين لا يحصون في كتب التاريخ، ولا نستطيع حصرهم من المعاصرين لكثرتهم وتفوقهم.
وعلى إيقاع صوتها الشفاف الذي يحمل في طياته نبرة حزن وأسى على تلك المدينة العربية الضائعة وسط غبار ما يسمى بالربيع العربي استطاعت (نسرين) أن تعبر عن حال مدينتها الآسرة للقلوب والأبصار في الماضي البعيد، بعد أن تحطمت قلاعها وبيوتها الدافئة، فلم يعد فتيان الأمس هم فتيان اليوم في حلب، بل وحوش تطل من قلعتها المهجورة حتى من الغربان، هذه القلعة التي جاورها أبو الطيب يوما، وكأن لسان حال صوتها المعذب بفعل الغربة والترحال يقول: لن تستعيد حلبك يا أبا الطيب.. إلى حين، تيمورلنك عاد إلى الشهباء، وليس أنت، جماجمه التي سدت الطرق، القبور أمست عزاء.
والآن بعد أصبحت (حلب..المدينة الشهباء) عارنا العربى بامتياز، بعدما سقطت فى براثن خيبتنا، وضاعت معالمها الحضارية الجميلة، تلك التى تغنى (المتنبي) بطيب مكانها، وعز مقامها، ومرابط جيادها الحرة، يزيدني هذا شوقا على شوق (نسرين) لحاضرة الدنيا الشهباء، بعدما أصبحت حلب ترحل من حلب ..رنين صوتها الشجي يتساءل في لهفة: ترى يا أبا الطيب؟، هل ترحل مدينتك التي كانت منارة الدنيا وموطن الفن والحضار والتاريخ للمرة الأولى في تاريخها، وهى التي لم تتعلم الرحيل من قبل؟، وهل بعد أن استيقظت ذات نهار عفي مفعم بالأسى على كل هذا الخراب والدمار، ومات نهرها منذ زمن لم تعد تتذكره، وجف ضرعها، وقتل شعراؤها بعد أن أشبعوها غزلا، وتيتمت وشاب شعرها.
ظني أنها أبدا لن ترحل، لا لشيئ إلا لأنها لا تجيد الرحيل، فقط هى تتعلمه للمرة الأولى ولكن هل يرحل المكان؟ .. حتى ولو لم تعد كما كانت يوما على حد وصف نزار قباني: كل الدروب لدى الأوروبيين توصل إلى روما، وكل الدروب لدى العرب توصل إلى الشعر، وكل دروب الحب توصل إلى حلب.
ليتك الآن يا (نزار) تصحو من غفوتك التى طالت 23 عاما لتسمع ترديد صوت (نسرين) قادما بهوى عطر تراب حلب المنعش رغم كثافة الدخان الأسود، لترى تلك المدينة التى لم تغفر لنفسك خطاياك فى تأخر حبها، بعدما اختبئ فى شراينك مثل الكحل فى العين السوداء، وكما يختبئ السكر فى حبة العنب، لتشعر المرارة التى تفجرت من قبل حلاوة فى فمك، حتما لن تتغزل فى خرابها هذه المرة وأنت واقف على تلال الذكريات قائلا: لا أريد أن أتغزل بحلب كثيرا، حتى لا تطمع، ولا أريد أن أتكلم عن الحب، بقدر ما أريد أن أحب، كلماتنا فى الحب تقتل حبنا، إن حروفنا تموت حين تقال، كل ما أريد أن أقوله أن حب النساء، وحب المدن قضاء وقدر، وها أنذا فى حلب، لأواجه قدرا من أجمل أقداري .. ما أتعسها الآن من مدينة، وما أقساه من قدر مشئوم لحق بها.
ما أجمل وأرق وأحن صوت بنت حلب الشهباء (نسرين طافش) عبر موال (اللؤلؤ المنضود) الذي جاء كطيف هادر ليحرك مشاعرنا التي تبلدت بفعل جائحة كورونا، وزادتنا شوقا على شوقها لتذكرنا بجميلة جميلات المدن العربية (حلب) .. معذرة يا (نزار) فلم يعد لدينا متسع الآن سوى البكاء على (حلب) بعدما غدت مدينة أشباح وأطلال شاهدة على ماض عريق كان يوما هنا، وبعد تحولها بفرط من تخاذلنا إلى رمز صارخ للخراب والدمار الذى قضى على أكثر من 75% من بنيتها التحتية، عندما تركناها نهبا لقوى الشر الكبري، ومرتعا لجماعات إرهابية تتخذ من الإسلام شعارا يبرر القتل باسم الحق والجبروت فى قلب ساحة المسجد الأموي، وبعدما داست أقدامهم الخسيسة فى ليل أسود (باب قنسرين وباب أنطاكية وباب النصر وباب المقام وباب جنين وباب الفرج).
وفى رحلة زحفهم المقدس على جناح سفك الدماء وهم يتجهون نحو أبواب جهنم العرب، اكتفينا نحن بالجلوس نطل من شرفات عارنا نستنشق دخان مدافع القصف بإباء وشمم، وفى حالة من الاستسلام اللذيذ لشاشات الفضائيات نرقب عن كثب تفاصيل موت الصورة القادم من بين صفحات كتاب (حياة الصورة ومماتها) لـ (رجيس دوبريه) الذى استوحى مادته من قلب مأساة عربية سابقة – قبل 60 عاما فى حرب الجزائر ضد عنصرية فرنسا – ولم نكتف بهذا فحسب بل نصحو من نومنا ننفض غبار كسلنا، وفى شغف نرشف قطرات قهوة الصباح بمزيج مرارة أيامنا الحزينة فى نشوة واستمتاع مذهل، ونستقبل صحف الصباح والمحطات الفضائية والمواقع الإلكترونية المشحونة بعناوين الموت القادم من رحم تفاصيل ملهاة تراجيدية سوادء لأطفال ونساء ورجال وشباب قضوا حتفهم بأبشع أنواع الذبح على كتاب الله وسنة ورسوله، دون ذنب أو جريرة لهم، سوى أنهم يحملون بطاقة هوية مكتوبا فيها بخانة الجنسية: (سورى عربي).
لقد كشفت (نسرين) بموالها الحزين خزلاننا حين اكتفينا بمصمصة الشفاة والبكاء دما على أطلال مدينة كانت عزب العرب، بعد أن غدت أكبر مقبرة عربية فى التاريخ، دفنت فيه واستراحت للأبد معالم نخوة وفروسية الأباء والأجداد، بينما الأحفاد ذاهبون فى غيهم وراء سراب وأوهام تفضى إلى قمم (جنيف وفيينا وموسكو) وغيرها من موائد وولائم الوفاق الوطنى على الحقد والكراهية، بحثا عن حلول لبقايا أشلاء وطن تعرف أروقة الأمم المتحدة حجم مأساته الإنسانية التى راق لها فكرة وضع الملف برمته تحت بند (قضية إغاثة) مع فيض من قرارات الإعراب عن القلق الذى لايرقى إلى مستوى الإدانة أو الاستنكار، كما يتشدق بذلك (الأمين العام للأمم المتحدة) الذى يشبه الفأر المذعور فى تراجعه حال طرفت واشنطن بعينها مكشرة عن أنيابها.
وبعد كل ما مضى دعنا نتساءل ونحن نقف على أطلال (حلب) و(نسرين) معنا حاضرة بموالها (اللؤلؤ المنضود): ترى هل كان يخطر على بال (الإسكندر المقدوني) يوما وهو يشيد (قلعة حلب) التى تعد من أكبر القلاع فى العالم، أنها ستصير موطنا للغربان والخفافيش من (داعش، والنصرة) وغيرهما من طوائف المعارضة المسلحة بفاتورة مدفوعة سلفا، من جانب أمريكا والغرب على مذبح الديمقرطية الجديدة؟، وهل يمكن أن يطل الشاعر اللبنانى الكبير (بشارة الخوري) الذى لقب بـ (الأخطل الصغير) اقتداء بالشاعر الأموى الأخطل التغلبي، برأسه من تحت التراب من جديد ليقف على أعتاب (خان الجمرك وخان الوزير وخان البنادقة وخان الحرير وخان القاضى وخان الصابون وخان خاير بك وخان القصابين)، ومن خلف شرفات (تكية النسيمى وتكية بابا بيرم وتكية المخملجى وتكية المولوية وتكية أبوبكر الوفائى وتكية بيرم دده وتكية الإخلاصية الرفاعية يصرخ قائلا من جديد:
وشهباء، لو كانت الأحلام كأس طلا
فى راحة الفجر كنت الزهر والحببا
وكان لليل أن يختار حليته
وقد طلعت عليه لازدرى الشهبا
وأنصف العرب الأحرار نهضتهم
شيدوا لك فى ساحاتها النصبا
لو أَلَّف المجد سفراعن مفاخره
لراح يكتب فى عنوانه حلبا
وفي نهاية شوقي الذي يجاري (شوق – نسرين طافش) إلى تراب (حلب)، ألمح الآن هيردوت (أبو التاريخ) جالسا فى ثياب مسربلة، فى يمناه قلم وفى يسراه قرطاس، يقف حائرا بين أطلال حضارات أقامها (الأكاديون والبابليون والآرامون والحيثيون والسومريون والرومان والإغريق والبيزنطيين والعرب والمسلمين)، وبعينين ذاهلتين يرثى حال ممالك ودول كثيرة قامت على تراب الشهباء، تلك التى كانت أقدم وأوائل المدن فى العالم، وعاصمة فى أكثر من حقبة تاريخية، كما تشهد على ذلك مدن وبلدات محافظة حلب التى ماتزال تحمل بين جنباتها ما تبقى من نهابى الآثار فى متحف المدينة الحاضن لأهم آثار وأحداث التاريخ منذ آلاف السنين، غير ما تبقى من كنائس ومدارس وجوامع تظل شاهدا حيا على عبقرية الزمان والمكان والإنسان على أرض حلب التى ماتزال عصية على الخروج من بوابة التاريخ بفعل الأبالسة.