بقلم : محمد حبوشة
جميعنا تابع عن كثب حالة الجدل والارتباك التي سادت على مواقع التواصل الاجتماعي في مصر، بسبب تعديلات في قانون الشهر العقاري التي كان من المفترض أن يبدأ تطبيقها الخميس 4 مارس الحالي، ولأنها قضية تهدد ملكيات المصريين للعقارات والشقق إلى حين، حيث لا تستقر الملكية إلا بإجراءات طويلة ومعقدة فضلا عن كونها مكلفة لشعب ترزح نسبة كبيرة من أبنائه تحت خطر الفقر، كان ينبغي أن تجيش القنوات الفضائية بمختلف أطيافها أن تقوم بوظيفتها وتعد العدة للتصدي لهذا القانون الذي جاء في وقت عصيب من عمر وطن يعيش مواطنوه أزمات تلو الأخرى، خاصة أنها جائحة جديدة تلقي بظلال كثيفة على كاهله في ظل جائحة كورونا من ناحية، ومن ناحية أخرى معضلات أخرى كقانون المرور ورسوم الكهرباء التي تقفز بشكل جنوني، ناهيك عن التعليم والامتحانات وغيرها من قضايا شائكة لا يقترب منها الإعلام الرسمي إلا من رحم ربي منهم.
وفي ظل غياب الإعلام كالعادة، نجحت مواقع التواصل الاجتماعي في تحريك المياه الراكدة على مستوى التعامل مع الحدث الجلل بالنقد اللاذع لنواب الشعب من ناحية، واستهجان تصرفات الحكومة من ناحية أخرى، وذلك بأسلوب (الكوميكس) على طريقة المصريين الذين يتمتعون بخفة دم كبيرة ويفلسفون كل أمور حياتهم بالنكتة التي تصدت على مر تاريخهم لكثير من الحكام والحكومات الظالمة، ولم يقف من الإعلاميين وقفة وطنية صادقة سوى الإعلامي أحمد موسى، ربما بقرون استشعاره كمحرر للحوادث والقضايا أدرك خطورة الأمر فتعامل بمنتهى الجدية مع حالة الاحتقان التي سادت الشعب المصري، لذا طالب منذ البداية بتأجيل تطبيق قانون الشهر العقاري، الذي أصبح حديث المصريين في كل المحافظات، وقال قولته الحاسمة في انحياز للمواطن ودون أدنى مواربة: (حسوا بالناس.. بقوا بيكلموا نفسهم.. وقولولهم خلاص).
لقد أعجبني أداء أحمد موسى، والذي تمتع في هذه القضية بحس وطني، حين طالب من خلال برنامجه (على مسؤوليتي) المذاع على قناة صدى البلد بضرورة إيجاد حل جذري بشأن تطبيق قانون الشهر العقاري قائلًا: (الـ 7 سنين اللى فاتوا الناس اتحملت.. لكن المرة دى عندهم حق، مش وقته خالص)، وبقول للحكومة: انحازوا للناس، وأضاف منفعلًا كعادته في حال المساس بمقدرات الشعب المصري: (إزاى مجلس النواب السابق مرر مادة التسجيل بالشهر العقاري؟)، متابعًا: (طلبات المواطن لازم تتنفذ، طالما تحمل الإصلاح، ولا بد أن يستحق أن تنفذ له الحكومة كل ما يريد)، وأكد على أنه لا بد من تقديم كل التسهيلات من أجل المواطنين، منبها إلى أن: (هناك من يتحدث أن حصيلة التسجيل في الشهر العقاري سوف يتم ضخها في الإنفاق على مبادرة تطوير القرى المصرية)، صحيح أن (موسى) قال: إن تسجيل المنازل يصب في مصلحة المواطن، لكن تدراك الأمر وقال: لا بد من تسهيل الإجراءات والتكاليف، مشيرا إلى أنه يعمل على نقل هموم وشكاوى المواطنين من خلال برنامجه قائلا: (انحيازي الدائم من أجل المواطن المصري).
وبمجرد استجابة الحكومة لمناشداته بالتأجيل بدأ الإعلامي أحمد موسى حلقة برنامجه قبل يومين بالتصفيق للحكومة، التي استجابت لمطالب المواطنين بتأجيل تنفيذ التسجيل العقاري، وقال إنه وعد بالتصفيق للحكومة على هواء برنامجه حال الاستجابة لمطلب تأجيل تنفيذ القانون، وناشد في الوقت ذاته المواطنين بضرورة التسجيل خلال الأشهر التسعة المقبلة، وهو الموعد الذي تم منحه مهلة قبل تعديل القانون مجددًا وإزالة ما به من مشاكل، وهنا لابد لي أن أسأل أحمد موسى سؤالا جوهريا يتعلق بانحيازه للمواطن على حد قوله: كيف يمكن للمواطن أن يقوم بالتسجيل قبل أن تعمل الحكومة على تعديل القانون وفصل تحصيل ضريبة التصرفات العقارية عن الشهر العقاري؟، وخاصة أن الحكومة قد وافقت أمس الأحد، على تأجيل تنفيذ التسجيل العقاري إلى نهاية شهر ديسمبر المقبل، تسهيلًا على المواطنين.
والحقيقة أن الدهشة قد أصابتني على أثر تصريحات النائب أشرف رشاد زعيم الأغلبية البرلمانية في مجلس النواب، مع أحمد موسى أيضا، تعليقا على قانون الشهر العقاري حين جاء بعد الموقعة بأيام ليدلي بدلوله قائلا لافض فوه: (إننا القناة الشرعية للمواطنين داخل مجلس النواب)، ولست أدري أين كان زعيم الأغلبية حين تم تمرير القانون تحت قبة البرلمان قبل أن يثير هذا الجدل الواسع؟، والعجيب في تصريحات (رشاد) قوله بابتسامة خجول على وجهه: تم رصد ردود أفعال المواطنين حول قانون الشهر العقاري ما بين مخاوف منطقية وسوء فهم للقانون، مضيفا في التفاف واضح حول الأزمة: (فلسفة قانون الشهر العقاري تعمل على توفير قاعدة بيانات للعقارات في مصر والحفاظ على ممتلكات الشعب المصري).
ياسيادة النائب المحترم: لقد كانت الفرصة سانحة أمامكم لمناقشة تعديل المادة 35 من قانون الشهر العقاري الذي أصدره البرلمان السابق في نهايات العام الماضي، خاصة أن التعديل حدد طريقة جديدة لإشهار العقارات وتسجيلها، واشترطت إدخال الخدمات للعقارات المسجلة فقط، وقد عدّ برلمانيون في هذا الوقت صدور القانون بشكله الجديد إنجازا يجعل لكل شقة وعقار رقما قوميا، ويحدد بدقة حجم الثروة العقارية للبلاد، كما يمنح للعقارات قيمة فعلية وكبيرة، بالمقابل، واعتبر مغردون على (تويتر) أن الأمر لا يعدو كونه إجراء جديدا من إجراءات الجباية التي تفننت فيها الحكومة مؤخرا بشكل أعجز كثيرا من المصريين عن الدفع، وربما هذا ما يدعو لاحتقان جديد في الشارع المصري مثلما حدث ضد غرامات ضخمة للتصالح في مخالفات البناء، اضطرت الحكومة لتخفيضها تهدئة للشارع.
وبعد أن نجحت مواقع التواصل الاجتماعي في إثارة القضية على صفحاتها التي أصبحت تأخذ مسحة كبيرة من الإعلام الوطني التقليدي وتذهب بحرية مطلقة نحو النقاش حول القضايا التي تمس حياة الناس بينما قنواتنا غائبة عن الوعي، والمجلس الأعلى للإعلام عاجز عن القيام بدوره المنوط به فلا هو يقوم بتوجيه دفة الحوار نحو القضايا الوطنية التي تمس الأمن القومي ولا هو يخطط للتصدي للمشهد الذي يجعل المجال مفتوحا أمام قنوات الشر الإخوانية كي تختلق الأكاذيب، وتنفخ في نار الفتنة، وقد أحدثت نوعا من البلبة بالفعل في زعمها أن القانون الجديد سوف يجرد المواطنين المصريين من ممتلكاتهم، وكان ينبغي على قنواتنا إعمال مبدأ الصراحة في مناقشة التعديل باعتباره مناقضا للدستور وأحكام محكمة النقض من ناحية، ومن ناحية أخرى لما سيحدثه من إرباك واضطراب في السوق العقاري بما يجعل ما ستحصله الحكومة من أموال من وراء التعديل باليمين، ستخسره بالشمال نتاج شلل سيصيب عمليات البيع والشراء التي يلزمها التسجيل في الشهر العقاري برسوم ضخمة.
لقد تركت قنواتنا وإعلاميونا الغارقون في أتفه القضايا الأمر برمته حتى سادت حالة من الارتباك على منصات التواصل لعدم فهم المغزى ولا الإجراءات المنظمة، كما سخر مغردون من هذه التطورات واعتبروا أن هدفها الأساسي نوع من التأميم غير المباشر لملكيات المواطنين من العقارات أو دفعهم للشراء فقط من مشاريع الدولة في المدن الجديدة بأسعار باهظة، كما ألمح لذلك بشكل متوري إعلام الشر عبر كتائبه الإلكترونية التي تركها إعلامنا نهبا لعقل المواطن، باللعب بمشاعره وتغذيته بطاقة سلبية ليس تجاه الحكومة وحدها، بل تستهدف بالأساس رأس الدولة ممثلة في الرئيس عبد الفتاح السيسي، في محاولات حثيثة لإجهاض إنجازاته المشهودة بطول البلاد وعرضها، وهى خطة ممنهجة تغيب عن العقل الواعي للإعلام المصري، لكنها تفشل في كل مرة جراء وعي المواطن بتلك الأساليب الشيطانية ووأدها في مهدها.
ببساطة شديدة ودون أي نوع من الفزلكة أو التنظير الذي لايجدي، كان يمكن لبرامج (التوك شوز) اللاهية في جهلها بوظيفة الإعلام أن تقول بصريح العبارة أن التعديلات الجديدة ليس لها داع، وكان يمكن طلب الرسوم من المواطنين دون هذا القانون، لأن معظم العقارات يصعب تسجيلها، كما أن مأموريات الشهر العقاري غير مجهزة لاستيعاب واستقبال تكدس الشعب المصري كله عليها، كما أن مكاتب المساحة ما زالت تعمل بالطرق البدائية دون برمجة، والتسجيل في الأوضاع الحالية يمثل رحلة عذاب للمواطن والمحامي، وأن تطلب تلك البرامج وبقوة من مجلس النواب أن يعيد النظر في هذا القانون مجددا، أو يقوم بتأجيل تطبيقه حاليا لأنه سوف يتسبب في شل حركة العقارات ويؤثر على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، أو يمكن مطالبة الحكومة على الأقل حذف الجملة الخاصة بتوصيل المرافق من هذا القانون، لأن هذا سوف يؤدي إلى انتشار ظاهرة سرقة هذه المرافق من كهرباء ومياه، أي أن المحصلة سوف تكون إهدار المال العام وليس العكس.
نقاط كثيرة أثارتها مواقع التواصل الاجتماعي حول الإجراءات التعسفية التي تقع على المواطن جراء تطبيق هذا القانون في وقت مازال يعاني فيه ملايين المصريين من إجراءات قانون التصالح على مخالفات البناء، التي تقضي بدفع غرامات مالية كبيرة على الوحدات السكنية التي لم تحصل على تراخيص من الأحياء، حتى وجدوا أنفسهم أمام أزمة جديدة تتعلق بتعديلات قانون الشهر العقاري، الذي سيجبرهم على دفع مبالغ مالية كبيرة لتسجيل وحداتهم السكنية، علما بأن الغالبية العظمى من المصريين كانت تلجأ للاعتداد بصحة التوقيع دون التسجيل الرسمي في الشهر العقاري، ما يعني في ضوء التعديلات الجديدة، دفع نحو 2.5 في المئة من قيمة الشقة المالية، بخلاف رسوم أخرى لأربع جهات حكومية، وهو مايشكل عبأ مضافا على كاهل مواطن يعيش أزمة اقتصادية طاحنة رغم جهود الدولة والرئيس في رفع المظالم عن الناس.
لم تدرك قنواتنا وبرامجنا وإعلاميونا الأشاوس – للأسف – حجم الأعباء التي يتكلفها المواطن البسيط في رحلة العذاب التي يخوضها في التسجيل، فبحسب نص التعديلات الجديدة على القانون، فإن صاحب العقار أو الشقة يتجه لنحو 5 جهات حكومية لدفع الرسوم المقررة لتسجيلها، ومن ثم السماح بدخول المرافق من ماء وكهرباء وغاز إليها، وهذه الجهات تتمثل في رسوم التسجيل في الشهر العقاري، ورسم نقابة المحامين، ورسم ضريبة تصرفات، ورسم المساحة، ورسم دعوى صحة ونفاذ ورسم الأمانة القضائية، وهي كلها إجراء معقدة وتخضع لروتين سوف يتسبب بالضرورة في حالة من العزوف عن التسجيل.
وحتى لم تسعى وسائل إعلامنا الغراء – على سبيل الدعابة والفكاهة – إلى رصد جوانب السخرية اللاذعة التي تقول أبرز عباراتها: (الشهر العقاري خير من ألف شهر!)، وعبارة أخرى بالغة السخرية تقول: (من أجمل ما قيل في الغزل : انتي اللي متسجلة في القلب والباقي صحة توقيع!)، وغيرها من عبارات تؤكد منهج المصريين في سخرية والتحايل على أعقد مشكلهم بالنكتة، وذلك في سبيل الهروب من تلك النفقات المرتفعة وكثرة الإجراءات للتردد على الشهر العقاري ثم المحاكم ثم الشهر العقاري مرة أخرى، فقد اكتفي غالبية المصريين بالعقود العرفية بين البائعين والمشترين للوحدات السكنية، كما لجأ بعضهم إلى ما يسمى الحصول على صحة توقيع لأطراف العقد من المحكمة، أو رفع دعوى صحة ونفاذ للعقد رغم طول الفترة التي يستغرقها، لكنه يجنبهم دفع قيمة الضريبة المرتفعة.
ألم أقل من فترة أننا في حاجة ماسة لإعادة ترتيب أوراق الإعلام المصري (مكتوب ومسموع ومرئي وإلكتروني) كي يعبر عن هموم المصريين بشكل حقيقي، ويكون حلقة وصل بين المواطن والمسئول، وفوق هذا وذاك يكون معني برصد الإنجازات التي تقدمها الدولة للمواطن، وأن يعكس طموحات وأحلام الرئيس في غد أكثر إشراقا للمصريين؟ .. ظني أنه قد آن الأوان لإعادة النظر في المشهد الإعلامي برمته!!.