سر دموع (يوسف شعبان) على (محسن ممتاز)!
كتب : أحمد السماحي
عبر مشواره الفني الطويل جسد الفنان الراحل (يوسف شعبان) العديد من الأنماط البشرية، وكان حريصا على أن يتمرد على كل شخصية نجح في تقديمها، ويقدم آخرى مختلفة تماما، حتى لو لم تنجح الأخرى كما سابقاتها، لأنه عانى كثيرا على مدى مشواره بعد أن وضعه المخرجون فى إطار واحد لا يتغير، فعندما امتلك النجومية كان يغير جلده ويدخل فى نسيج كل شخصية يلعبها، يمتزج بمشاعرها وينطق بلسانها ويعبر بملامحها، فأصبحت شخصياته الفنية علامات واضحة في مشواره.
من هذه الشخصيات شخصية (محسن ممتاز) رجل المخابرات المصري في مسلسل (رأفت الهجان)، فى هذه الشخصية لم يكن يمثل ولكنه كان الشخصية بأدق تفاصيلها، وكان يعطي درسا فى فن التمثيل، وفى هذا العمل قدم مشهدين مازالا رغم مرور سنوات على تقديمهما محفورين بالوشم فى ذاكرة الجمهور المصري والعربي أولهما كان يقول:
محسن ممتاز : خد بالك يا رأفت مصر أمانة بين إيديك.
رأفت الهجان : رقبتي سداده يا محسن بيه.
ويحتضن الرجلان بعضهما وتفيض دموعهما ويفترقا، الكلمات هذه كانت هى القمة، هى الذروة، وقد أحس بها (يوسف شعبان ومحمود عبدالعزيز) فدخلت الكلمات عبر ادائهما الرفيع تاريخ الدراما العربية من أوسع الأبواب، ومازالت هناك متربعة على قمته، وكلما تذكرنا مسلسل (رأفت الهجان) هتفنا : (الله الله يا يوسف ربنا يرحمك).
المشهد الثاني عندما يعتقد (رأفت الهجان) أنه عندما احتضن (محسن ممتاز) ستكون هى المرة الأخيرة التى يرى فيها استاذه ويودعه، ومن ميناء الأسكندرية ركب السفينة فى طريقه إلى إسرائيل فى مهمته الوطنية، وكان بوداعه الكثيرون ولكنه كان ينتظر واحدا فقط، وجاء هذا الشخص ولم يكن إلا (محسن ممتاز).
فى هذه اللقطة الثانية التى دخلت تاريخ الدراما التليفزيونية من أوسع الأبواب أيضا اختلطت ابتسامة الفنان (محمود عبدالعزيز) بدموعه في لقطة عبقرية وهو يلوح بيديه ولمعت فى المقابل دموع (محسن ممتاز)، وكانت اللقطة هى الأخيرة فى الجزء الأول من المسلسل الشهير.
الفنان (يوسف شعبان) حكي للكاتب الصحفي الراحل (محمد الدسوقي) بعد انتهاء عرض المسلسل كواليس هذه اللقطات، وحبه للشخصية التى جسدها فقال : (محسن ممتاز) ضابط لا يقل عظمة عن (رأفت الهجان) وقد حكي لي المؤلف الكبير (صالح مرسي) الكثير جدا عن عظمة هذا الرجل وبساطته وتواضعه، وبكل هذه المشاعر دخلت على الشخصية درستها، وأحببتها بقوة، وجسدتها أمام الكاميرا.
وأضاف النجم الراحل: (محسن ممتاز) شخصية نادرة وقليلا ما يلتقي الفنان بمثل هذه الشخصيات في حياته، فكثيرة هى الأدوار التى قمت بتجسيدها، ولكن قليلة هى الأدوار التى التقيها وتكون لشخصيات من دم ولحم، ولها تاريخ حافل بالبطولات، لقد مات الرجل اللواء (عبدالمحسن فائق) الذي قمت بتجسيد دوره والحلقات تنشر مسلسله في مجلة (المصور)، ولو أنه كان باقيا على قيد الحياة لكنت قد سعيت اليه وجلست معه لاستمد من روحه العطاء، وأحسست بعظمة دوره، وكبر تضحياته، وأيقنت أنني أمام بطل أسطوري بكل ما تعنيه هذه الكلمة، لكن هذا لم يحدث فكانت مسئوليتي كبيرة.
فالرجل كان بطلا وبطولته طاولت بطولة (الهجان)، كل هذه الأشياء حاولت أن أبرزها، وأن أظهرها عبر أدائي للشخصية، والحمد الله وفقت فى ذلك، وكنت سعيدا جدا ليس لأنني نجحت!، ولكن لأنني كنت على مستوى الرجل الذي أعطى الكثير لمصر، حتى لو كان عطائي هذا فنيا، وما أسعدني أكثر أننى تلقيت مكالمات من أولاد هذا الرجل العظيم يشيدون بأدائي، وأعتبرت هذا جائزتي الكبرى.
ويضف الراحل – رحمه الله – كثيرون شاهدوا الحلقة الأخيرة وكثيرون اعتقدوا أن دموعي ودموع (محمود عبدالعزيز) دموع تمثيل، ولكن أقسم بالله أنها كانت دموع حقيقية، وما ظهر منها كان بسيطا، وبعد انتهاء التصوير ظللت أبكى لدقائق طويلة ولا أدري حتى الآن سر هذه الدموع الغزيرة التى فاجئتني بعد انتهاء التصوير، وأعتقد أننا لو لم نكن صادقين فى عمل كما (الهجان) ففي أي الأعمال سنصدق، (رأفت الهجان) عمل تاريخي دخل التاريخ ودخلنا معه.
الله يرحمه ويغفرله ويسكنه فسيح جناته كان أمبراطورية في التمثيل