يوسف شعبان :هؤلاء منعوا عني النجومية
* يحكي الراحل سر ابتعاده عن كلية الحقوق، وغضبه من السيد بدير
* في وجود رشدي اباظة وعمر الشريف وأحمد رمزي، وغيرهم لم أجد غير (خرم الأبرة)!.
* التليفزيون الذي أعطاني نجومية أكبر من نجومية السينما
* الفن قوة لا يستهان بتأثيرها، وهذه الأيام هدام وخالٍ من أى سمة إيجابية
كتب : أحمد السماحي
لم يكن نبأ الرحيل مفاجئا فالتوقعات كلها في مصر والعالم العربي كانت فى حالة انتظار مشفقة بأمل ألا يتعذب أو يتألم الجسد الواهن للنجم المصري الكبير (يوسف شعبان) الذى كانت كلمة السر في تألقه هى الهواية فهو لم يشعر يوما بالإحتراف، فلم يفتعل ولم يصنع فنا تخاصمه القيمة، ويبتعد عنه الإبداع، الهواية كانت النافذة التى أطل منها على الفن واستمر بها وعاش عليها منذ أول فيلم مثله حتى أخر أعماله.
وكما كانت حياة يوسف شعبان عريضة في الأحداث والوقائع فقد كانت حياته عميقة بغزارة إنتاجه الفني الذي لم يتوقف على امتداد ستين عاما، وخلال هذه الرحلة شغل (يوسف شعبان) الجمهور بأعماله الرائعة التى لا تنسى فهو فهو العم (حافظ) الجشع فى مسلسل (الشهد والدموع)، ورجل المخابرات (محسن ممتاز) فى (رأفت الهجان)، و(سلامة فراويله) الجواهرجي فى (المال والبنون)، و(عسران البخيل) في (الرحايا)، و(سيد الدوغري) في (عيلة الدوغري)، وفى السينما هو (سرحان البحيري) في رائعة نجيب محفوظ (ميرامار)، و(فرج السمسار) فى (وصمة عار)، و(رؤوف الرسام الشاذ) فى (حمام الملاطيلي)، و(فرج القواد) في (زقاق المدق) وغيرها من الشخصيات التى جسدها ببراعة تامة.
وكنت من المحظوظين بالاقتراب من هذا النجم الوسيم لسنوات طويلة وأجريت معه العديد من الحوارات الطويلة في كل الأماكن التى عملت فيها، وآخرها كان العام الماضي فى جريدتنا الغراء (الأهرام)، وكان دائما ما يخصني بكلام مختلف وجديد عن مشواره، وأثناء الحوار معه كنت أجد نفسي من الثانية الأولى منجذبا إلى ملامحه الوسيمة الدائمة التغير والانفعال المشحونة بكم وافر من الاطلاع، وحب الاستطلاع، فالكلام عنده لم يكن بضاعة ولا يقاس بالأمتار، ولكنك تحس فيه ومعه أن الوقت ثمين لهذا كان لكل كلمة يقولها معنى، فهو لم يكن يحب الثرثرة، ولا يتحدث إلا في الفن، وإليكم جزء بسيط من كلامه الذي قاله معي فى بعض حواراته:
** أنا من أسرة بسيطة جدا من حي شبرا، أسرة موظفين، وكان اعتمادي على نفسي مبكرا، فعملت خلال الدراسة وبشهادة التوجيهية كموظف بمصلحة الطيران المدني بالحسابات، وأنا في مدرسة (التوفيقية الثانوية) حصلت على جائزة ذهبية بعد عرض مسرحية (سالومي) لفريق المدرسة، وحاولت دخول كليتي الشرطة والحربية، لكني فشلت، وبعد فشلي التحقت بكلية الحقوق، وفى الحقوق التقيت فى بوفيه الكلية بـ (كرم مطاوع، والكاتب والشاعر والمخرج نجيب سرور، والكاتب والمخرج فايز حلاوة، والفنان والمخرج إسلام فارس، والفنان حمدي أحمد، والفنان والكاتب الصحفي سعيد عبدالغني، والكاتب إبراهيم نافع رئيس مجلس إدرارة وتحرير الأهرام)، والمخرج (صلاح السقا).
وقدمنا في تلك الفترة مسرحية (هاملت) من اخراج (حمدي غيث) على مسرح الازبكية وقام بدور (هاملت) كرم مطاوع، وقمت انا بدور (فونتنبراس) واستعنا في هذه المسرحية بطالبتين في معهد الفنون المسرحية هما (زهرة العلا وسميحة ايوب) اللتين سلكتا طريق التمثيل لتصبحا نجمتين.
** لم أكمل في كلية (الحقوق) لأنني فتحت الجريدة ذات يوم فوجدت خبرا يقول : التفكير في تعيين خريجي الحقوق (محضرين)، فتصورت نفسي محضرا بشهادة الليسانس، فتركت الكلية فورا، رغم أنني كنت في السنة الثالثة، كما تركها الجميع أيضا وعلى رأسهم (كرم مطاوع) وكان في السنة الرابعة، والتحقت بمعهد (الفنون المسرحية) بناء على نصيحة زملائي في (شلة الحقوق)، وبمجرد أن تخرجت من معهد الفنون المسرحية عام 1962، استقلت من وظيفتي بمصلحة الطيران المدني.
** مع بداية التليفزيون وأنا طالب فى السنة الثالثة في معهد الفنون المسرحية عملت مع أستاذي (محمود مرسي) فى أول تمثيلية لي بعنوان (الحب الكبير) مع ليلى طاهر وعبدالرحيم الزرقاني، وعام 1962 بدأت أعمل في السينما وبدأت بدور الفتى الشرير وليس الفتى الوسيم أو (الجان)، وكان ذلك فى فيلم (المعجزة) أمام (شادية) و(فاتن حمامه)، وبعد مرور 3 أيام فقط على التقاط أول كادر بالفيلم، كنت قد وقعت بطولة ما يزيد عن 3 أفلام وكلها أدوار شريرة منها (زقاق المدق، أنا الهارب، ألف ليلة وليلة)، وكل ذلك من سمعة الممثل الذي يسير بطريق الشر على الشاشة، لم أتوقف أمام نوعية الأدوار طويلا لأنني وببساطة كنت سعيد جدا وكان مهما أن أعمل وفقط.
** لم أصبح فتى أول لأنه لم يكن بإمكاني الاقتراب من القمة بوجود النجوم الآتية أسماؤهم: (عمر الشريف، رشدي أباظة، شكري سرحان، أحمد مظهر، صلاح ذوالفقار، أحمد رمزي، كمال الشناوي، فريد شوقي، إيهاب نافع) ولقد نفذت من (خرم الإبرة) الذي تركوه لي وهو أدوار الشر، وبالتحديد دور الولد المكروه.
** لم أرفض تمثيل الدور المكروه أو الفتى الشرير لأنني كان أمامي خيار من اثنين أما أن أعمل أو أموت من الجوع، ولم يكن أمامي من حل آخر غير العمل، وفيما هو متاح أمامي فقط، بعد أن أصبح التمثيل أكل عيشي، فعملت فيما هو موجود ومتاح، وحين وجدت أن (خرم الإبرة) يتسع ليصبح حبل مشنقة، أدرت ظهري للسينما وتوقفت، وذهبت للعمل في التليفزيون الذي أعطاني نجومية أكبر من نجومية السينما.
** تجربتي بالمسرح مريرة كما تجربتي فى السينما بالضبط، ولي حكاية طويلة مع المسرح، فأنا الفنان المصري رقم واحد الذي اعترض على تكوين فرق مسرحية (بالهبل) مثلما كان حادثا وقت إنشاء التليفزيون، وهى الفرق التى سميت (مسرح التلفزيون)، لقد بدأ التليفزيون مسرحه بـ 3 فرق، تم تكوينها من الـ 54 طالبا وطالبة من خريجي المعهد عملا مسرحيات هامة مثل (الطريق المسدود) و(شيئ في صدري) تأليف إحسان عبدالقدوس، و(أرض النفاق) تأليف يوسف السباعي، وكنا جميعا من خريجي الفنون المسرحية.
لكن القيادة المسرحية فى هذه الفترة عشقت الكم دون الكيف، وقعت في غرام (التهجيص) والكذب، لقد رفعوا لافتة النهضة المسرحية عبر 9 فرق مسرحية تم تكوينها فى ذلك الوقت على طريق (سلق البيض).
وذات يوم ذهبت إلى المسرح فوجدت لافتة كتب عليها (على من يجد فى نفسه الكفاءة الفنية أن يتقدم للعمل بمسرح التليفزيون)، ملحوظة (لا يشترط المؤهل) أي أن بإمكان كل من يمر من أمام المسرح أن يصبح ممثلا، من فوري صعدت إلى المسؤول الأول وهو المرحوم (السيد بدير) وقلت له بغضب: (إيه ده يا أستاذ وشاورت على الإعلان) فرد بحدة : (فيه أيه؟!)، قلت : (ماذا تعني بكلمة لا يشترط المؤهل؟!) نحن نريد الإرتفاع بالمستوى وأنتم تريدون الهبوط به، فرد: هوه يعني أنا اتخرجت من المعهد، طب ما هو أنا مخرج وممثل ومؤلف؟!، فقلت: ولكن هذا كان زمان، فقال: يعني ده موش عاجبك؟ قلت: آه موش عاجبني لأن هذه العقلية ستؤدي إلى كارثة، واتفضل استقالتي!، وخرجت دون أسف.
** مارلون براندو هو مثلي الأعلى فى التمثيل أعتبره أعظم ممثل في العالم، عندما أشاهد فيلم له أكتم أنفاسي حتى لا تفوتني لفته أو كلمة منه، له قدرة على التعبير وتجسيد الشخصية والذوبان فيها وأضع صورته في صالون منزلي لأنظر اليه قبل الخروج وعند الدخول.
** حسن الإمام وحلمي رفلة وكمال الشيخ وصلاح أبو سيف ومحمود مرسي من أكثر الذين ساهموا في إعطائي فرص الظهور ومنحوني تجاربَ ساهمت في تطوير أدائي بشكل كبير.
** أنا واحد من الفنانين الذين شاركوا فى أفلام سينمائية فى بيروت، واشتغلت أيضاً فى تركيا، ولست نادماً على هذه الأعمال، لأننى باختصار قدمتها تحت ضغط الحاجة، وكنت مضطراً لها، بالمناسبة ذات مرة قرأت خبراً أن الفنانة نادية لطفى سوف تقدم فيلماً مع مخرج محدود الموهبة جدا، واندهشت جداً، فاتصلت بها ووجهت لها اللوم، وفوجئت بها ترد (لو معاك خمسة جنيه هاتها)، أدركت أنها مضطرة للعمل لأنها لا تمتلك المال الذى يضمن لها مواجهة أعباء الحياة.
حاليا لا يوجد عمل شدني لدرجة أن أتابعه، لا أقصد بكلامي أشخاصا معينة، فالعمل له أركان يتكون منها، تمثيل وكتابة وإخراج، والنصوص حاليا هشة لا تعبر عن مجتمعنا، هناك مقولة (إذا أردت أن تتعرف على شعب من الشعوب انظر إلى ما يقدمه من فن)، فالجمهور العادي حاليا لا يوجد ما يشده ويعبر عنه، أشعر بوجود استسهال في كتابة النصوص، أشعر أن النص يستغرق في كتابته من 20 إلى 25 يوما، على وقتنا كانت الكتابة تستغرق عاما كاملا، لأن الكتابة ليست سهلة، الكتاب كانوا حريصين جدا في الحفاظ على أسمائهم، أما الآن أعتقد أن الكاتب “يكتب في الشارع”، بمعنى أنه ليس على راحته.
أما الممثل فهو وحده غير كاف لنجاح العمل، هناك ممثلون يبذلون مجهودا ضائعا في نص ضعيف – دون ذكر أسماء – وهناك ممثلون جيدون، وهناك ممثلون دخلاء على الفن، لكن الممثلين الجيدين يفتقدون جهد الكاتب والمخرج.
الفنان منا قديما عندما كان يشاهد فنانا كبيرا أقدم منه بسنة واحدة كان يقف له احتراما وتقديرا، فالفنان دون أخلاق لا يساوي شيئا فما بالك لو تطاول على زملائه، كذلك الفنان من الأساس لا يجوز أن يطلق على نفسه لقب (رقم واحد).
** الفن قوة لا يستهان بتأثيرها، وهذه الأيام هدام وخالٍ من أى سمة إيجابية.