غرام وانتقام “الكاتبة والمخرج”
بقلم: محمود حسونة
“سيادة القانون” من المصطلحات الدارجة التي يتمنى الكثيرون ألا يتحول إلى مصطلح أجوف خال من المعنى والقيمة، خصوصاً بعد حالة الفلتان التي أصابت المجتمع بعد ٢٥ يناير، وتوهم البعض أن حرية التعبير ليست سوى منصة للتجاوز في حق المجتمع وحق الآخر أياً كان موقعه أو طبقته الاجتماعية.
رغم الجهد الذي بذلته الدولة للتخلص من الفلتان السياسي والأمني والاجتماعي، إلا أن بعض القطاعات لازالت منسية، لا يلتفت إليها مسؤول ولا ينتبه لها مشرّع، خطابها لا يؤمن بدستور ولا بقانون؛ والأسوأ، أنها ترفع شعار “كل مواطن يأخذ حقه بيده”، من خلال ما تنشره سواء عن جهل أو قصد، من قصص ومشاهد تتغذى على روح “الانتقام” وتحوّل البريء إلى مجرم باسم “الدفاع عن الحق”، ترفع من رصيده لدى الناس وتهبط بالقانون إلى حيث لا يعود له قيمة فيأتي في ذيل المشهد كمتمم للمهمة ليس أكثر، وغالباً يصل متأخراً وبعد فوات الأوان.
نعلم أن استرداد الحق يستغرق الكثير من الوقت، وهو الأمر الذي يجب النظر إليه بعين الاعتبار حتى لا يفقد الناس الثقة في الطرق المشروعة لذلك، ولكن هل هذا يبرر لبعض صناع الدراما والفن تحويل الشاشة إلى وسيلة لتكريس مبدأ نيل الحق بالذراع، ونشر ثقافة الانتقام التي تصل إلى استباحة القتل والتعذيب وإزهاق الأرواح باسم استرداد الحق، بدلاً من أن تدعم سيادة القانون والتسامح والتغاضي عن أخطاء الآخر لو كانت بسيطة.
مسلسل “لؤلؤ” أثار الكثير من الجدل خلال عرضه، وهو أمر مشروع لأي عمل فني، وساعد على ذلك أنه حظي بنسبة مشاهدة عالية، ولكن جاءت الحلقة الأخيرة لتحول الجدل غضباً من الجمهور على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن أصابت أحداثها الناس بصدمة، نتيجة غياب المنطق عنها وتجاوزها في حق القيم والمبادئ الأساسية والإنسانية التي تضمن سلامة المجتمعات.
ليت المسلسل اكتفى بانتقام لؤلؤ من أبيها وجميع المحيطين بها سواء بتدبير القتل أو بتلفيق التهم، ولكنه للأسف وصل إلى ذروة التجاوز بتشويه النموذج الذي ظل رمزاً للنقاء والشفافية والرقي والوضوح والصراحة والنطق بالحق طوال الحلقات، وهو مجدي (إدوارد) مدير أعمالها وصانع نجاحها والذي تخلى عن كل قيمه ومحاسنه في المشاهد الأخيرة وتحول إلى قاتل، لأن مي عمر ومحمد سامي أرادا ذلك، وقام بقتل بودا (محمد الشرنوبي) حماية للؤلؤ التي يعشقها في صمت ويرضى بأن تحب غيره، وبدل الواحد اثنين، من دون أن يثير ذلك غيرته ولا انزعاجه، وتصل تضحياته الوهمية إلى القتل الذي لا يتوافق مع شخصيته المسالمة، فيتحول إلى مجرم يقدم للناس تعريفاً جديداً للحب، عندما تذهب لؤلؤ لزيارته بعد سجنه وتسأله “ليه عملت كدة؟” فيرد عليها بتعريف جديد للحب، “عارفة ايه الحب؟ الحب أن الواحد يدّي من قلبه من غير مايستنى من اللي قدامه حاجة.. الحب كلمة لما الواحد بيقولها بتبقى وعد وطوق في رقبته، يا يكون أد الكلمة اللى قالها يا لاء.. الحب يعني عشان اللي بتحبه تضحي من غير ماتفكر، متستخسرش فيه حاجة حتى لو حياتك”.
هل صادفتم في الواقع حباً بهذا الشكل، يحول الانسان إلى مجرم لأجل محبوب لم يبادله المشاعر؟ إنه الوهم الجديد الذي تروج له البطلة وزوجها المشرف على التأليف والإخراج، وكأنهم يقولون للناس أن القتل لا يرتكبه المجرمون فقط بل الأسوياء العشاق أيضاً كعربون حب للحبيب أو الحبيبة!
إنه “غرام وانتقام” على طريقة الثنائي الجديد، (الكاتبة والمخرج) بمفهوم يروج للإجرام، ييسر أمام المشاهد عملية القتل والاتصال بالشرطة للإبلاغ عن الذات. سذاجة ما بعدها سذاجة لن تجدونها سوى في الدراما التي لا تعترف بالقانون وتكرس سيادة شريعة الغاب وتسعى (بقصد أو من دون قصد) إلى نشر مفهوم “الثأر” وتشكيل عقول النشء على أخذ الحق بالدراع.
ليس هذا أول درس لمحمد سامي في تكريس القيم الهدامة، بل معظم أعماله تدور في هذا الفلك ابتداءً من الفيلم القاتم “ريجاتا” حيث لا يقبل البطل بتسليم نفسه إلا بعد القتل والانتقام لنفسه ولشرف أخيه، ولا يمكن أن يسقط من الذاكرة مسلسل “ولد الغلابة” الذي تحول فيه المدرّس النزيه المخلص لعمله وتلاميذه والمضحي لأجل أشقائه (أحمد السقا) إلى تاجر مخدرات ومجرم يزهق العديد من الأرواح بدم بارد مع شريكته (مي عمر نفسها)، وأيضاً “البرنس” الذي يتحول فيه البطل من إنسان مكافح يعطي لكل ذي حق حقه إلى قاتل شرس لا يؤمن بسيادة القانون ولا يعرف إلا الانتقام طريقاً لاستعادة الحق.
هذه مجرد نماذج من أعمال تنفق عليها الدولة الملايين ويشاهدها الملايين ولا يتعلمون منها سوى العنف والبحث عن طرق للانتقام بعيداً عن القانون والمحاكم، وكلما قرأنا في الواقع عن جريمة قتل بهدف الانتقام، بحثنا عن أسباب وأسباب، وتجاهلنا الدراما الهدامة، التي تجمل أمام مشاهديها القتل والترهيب والأخذ بالثأر والانتقام، وكأنها نوع من الأكشن الذي يغري الجمهور دون التأثير على العقول!!.
mahmoudhassouna2020@gmail.com