ذهب صُبح وجاءت صباح (2-2)
بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
هل أتاك نبأ الشيخة صباح الغريب من قبل؟ قد يكون اسمها قد وصل إليك وقد لا يكون، ولكنك حينما تسمع صوتها وإنشادها ستتعجب!! كيف لمثل هذا الصوت أن يحتجب عن الناس؟! أما أنا فقد أتاني صوتها بغتة ذات يوم منذ خمس وأربعين عاما تقريبا، أو بالأحرى في غضون عام 1975 كنت حينئذ في السنة النهائية للمرحلة الثانوية من دراستي، وكان اليوم شاتيا والوقت في الربع الأول من الليل، دعك من كتب الدراسة فلم تكن تجذبني، ولكنني وقعت تحت أسر القراءة الحرة، بالإضافة إلى جهاز الراديو (الترانزستور) الذي كنت أدير مؤشره لأتوقف عند كل ما يشد انتباهي، وكنت هناك في الإذاعة المصرية وقتئذ شبكة ثقافية اسمها (البرنامج الثاني) أصبح اسمها في مستقبل الأيام (البرنامج الثقافي)، وكنت أعتبر البرنامج الثاني ثروة ثقافية غير عادية، ففيه كنت أستمع لمسرحيات عالمية مترجمة يقوم بإخراجها عباقرة لا يتكررون مثل الفنان محمود مرسي والأديب بهاء طاهر، والمخرج والممثل القدير كرم مطاوع، وعميد الإخراج المسرحي جلال الشرقاوي.
وعندما كنت أستمع لأداء جلال الشرقاوي ومعه كرم مطاوع أو حمدي غيث في إحدى المسرحيات العالمية كان الإبهار يتملكني لدرجة أنني كنت أنسى الدنيا وما فيها وأظل مندمجا بكل كياني مع هذا الأداء التمثيلي الأخاذ، وفي هذا اليوم الموعود كان (البرنامج الثاني) قد أعلن أنه سيذيع إحدى المسرحيات العالمية الشهيرة، وعلى قدر ذاكرتي أظن أن المسرحية إما أنها كانت (البخيل) للمؤلف الفرنسي الأشهر (موليير) أو أنها كانت (كسارة البندق) للكاتب الإنجليزي (إليوت كراوشاي) أما مسرحة (البخيل) فقد قام ببطولتها المترجمة حمدي غيث وزوز نبيل وكلاهما كان رهيبا بحيث لا يمكن أن تغادرهما لغيرهم، وكسارة البندق تلك المسرحية الأخرى فقد كان العبقري المغبون جلال الشرقاوي هو بطلها، وجلال الشرقاوي لو لم تكن تعلم لو نشأ في فرنسا لأصبح عميد المسرحيين في العالم كله، أما في بلادنا فهو العبقري المنسي للأسف الشديد.
المهم أنني أحكي معكم تلك المقدمة لتعلموا كم كانت أهمية المسرحية التي يذيعها البرنامج الثاني عندي، إذ كانت كل حياتي تتوقف وقتها لأتفرغ للاستماع لها وأنا كامن تحت الغطاء في سريري، وفي هذا اليوم الموعود الذي أحدثكم عنه وحينما كنت أقلب المؤشر لأصل لشبكة البرنامج الثاني إذا بالمؤشر يتوقف رغما عن أنفي عند إحدى الشبكات الأخرى لأستمع إلى صوت شجي يطل منه النور، خُيِّل إليَّ وقتها أنني أستمع إلى أم كلثوم وهي في بداية شبابها، فقد كانت الأغنية التي يُغنيها هذا الصوت هي أرق أغنيات أم كلثوم القديمة (غني لي شوي شوي، غني لي وخد عيني).
توقفت حينها عند هذا الصوت، ونسيت البرنامج الثاني والمسرحية التي كنت قد رتبت نفسي على الاستماع لها، نسيت جلال الشرقاوي وحمدي غيث وزوزو ماضي وكرم مطاوع ومحمود مرسي، ولم يشغلني إلا هذا الصوت البهي المنير المتمكن، كانت الأغنية بلا موسيقى، فقد كانت صاحبة الصوت ضيفة في أحد البرامج، ولم يكن قد مر على وفاة السيدة أم كلثوم إلا أسابيع قليلة، فقلت في نفسي :وكأن الله يعوِّض مصر بهذا الصوت الجديد، وحينما انتهت المطربة من الغناء سمعت كلمات الاستحسان من ضيف آخر في الاستديو اتضح لي أنه أحد كبار الملحنين، الذي قال: لو أتيحت الفرصة لتلك الشابة أن تدرس الموسيقى وأن يتم تدريبها لتفوقت على القدماء والجدد ولأصبحت كوكب الشرق والغرب معا، ثم تعهد بأنه سيتولى تدريبها، وظل إسم هذه المطربة عالقا في ذاكرتي لم أنسه أبدا .. هذه هي (صباح الغريب) التي ولدت كفيفة أو فقدت بصرها وهي صغيرة، وحفظت القرآن في قريتها بمحافظة الدقهلية، وأصبحت تقرأ القرآن وهى طفلة في المياتم، وتغني لأم كلثوم في الأفراح ، وكأن سيرة أم كلثوم تتكرر من جديد.
ويبدو أن صباح الغريب في عام 1975 كانت في بداية العشرينيات من عمرها، وكان أن شغفت بصوتها وانتظرت مع مرور الأيام أن تعلن الصحف مولد مطربة جديدة اسمها صباح الغريب، حتى أنني أصبحت أشتري كل أسبوع مجلة الكواكب التي تنقل الأخبار الفنية إذ لربما تنشر شيئا عن صباح الغريب المطربة الكفيفة صاحبة الصوت الذهبي الشجي، ولكنني لم أجد عبر عدة سنوات لا خبر ولا يحزنون، وكأن كتاب النسيان طوى صباح الغريب في إحدى صفحاته المجهولة، أو كما يقولون في الأمثال (ضرب على الخبر ماجور)، ومرت الشهور والسنوات وأصبحتُ في السنة الأخيرة بكلية الحقوق، وكان أحد زملاء الدراسة قد دعاني أنا وبعض الأصحاب لحضور حفل زفاف أخيه وكيل النائب العام في قريتهم التابعة لمركز أجا دقهلية، ووجدنا في هذا اليوم عادات كادت أن تنمحي من أفراح القرية المصرية، مثل أن نقف طابورا طويلا ليدفع كل واحد من الزائرين مبلغا ما يتم وضعه في صندوق، ويُسمى هذا المبلغ بالنقوط، ثم خروج العريس من غرفة داخلية وهو يحمل منديلا غطته الدماء، حينها انطلقت طلقات الرصاص من البنادق حتى ظننت أننا وقعنا تحت وطأة غارة عسكرية من الأعداء، وألقى أحد الأصدقاء نفسه على الأرض من شدة الخوف ليتفادى الرصاص.
وحينما هدأت النفوس التي كانت تعبر عن فرحتها بأن العروس كانت بكرا، والنفوس التي خافت عندما عرفت حقيقة الطلقات، إذا بنا نستمع إلى صوت شجي جميل كما يكون الجمال، منيرا كما يكون النور، شجيا كما يكون الشجن، كان هذا هو صوت صباح الغريب!!، وما أجمله من صوت، كان الصوت آتيا من مكان آخر يتجمع فيه النساء، حيث يستمعون لتلك المطربة وحدهن في حفلتهن النسائية، إلا أنه كانت تصل إلينا من مكانهن نفحات مضيئة من صوتها، وبارك الله في الميكرفون الذي أوصل صوتها إلينا، فسألت صديقنا شقيق العريس: من تلك التي تغني؟ فقال: (إنها صباح الغريب، وهي من قرية بجانب قريتنا اسمها طنامل مركز أجا دقهلية، وأن شهرتها كبيرة جدا في كل محافظ الدقهلية ويعتبرونها الامتداد الطبيعي لام كلثوم).
ولكن ليست كل مطربة مهما علا شأن صوتها كأم كلثوم، وليس كل طموح مثل طموح أم كلثوم، فأم كلثوم كانت حالة اجتماعية وثقافية وفنية، كانت مؤسسة كبيرة شاملة، أو قل: كانت فنا خلق اللهُ له إنسانا، فسرعان ما انطفأت صباح الغريب ولم يعرف عنها أحد شيئا، ومع مرور السنوات أيقنت أن صباح الغريب أصبحت نسيا منسيا، لا يعرفها أحد ولم يتأثر أحد بفنها، إلى أن تقابلت مع أحد المنشدين الجدد في بيت أحد الأصدقاء، فأخذ يشدو بصوت جميل بعض التواشيح، ثم قال: سأغني لكم أحد تواشيح الشيخة صباح، أستوقفته: الشيخة صباح؟! من هى؟، نظر لي نظرة المُعلم وهو يقول: الشيخة صباح الغريب يا أستاذ، دي منشدة قد الدنيا وصوتها واصل لفرنسا وألمانيا، تسمعها في الموالد حاجة تجنن.
خرجت من اللقاء إلى بيتي لأبحث عنها على صفحات البحث، لأجد صباح الغريب أصبحت الشيخة صباح، لا تغني لأم كلثوم، ولكنها اكتفت بالتواشيح الدينية، وحينما استمعت لها وجدت بقايا الجمال لا يزال فيها ولكن أصابته بعض الشيخوخة، فصباح الغريب أصبحت الآن في السبعين من عمرها، نعم لا يزال صوتها شجيا جميلا مطربا، ولكنه غادر فتوته وقوته، ستسمعها وهي تغني بوردة البوصيري في مدح سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وستندمج مع صوتها وجماله ورقته، وستسمعها وهي تغني (يارب نورك في قلبي) فينفطر قلبك من البكاء الشفيف في حب الله، وتسمع أغنيتها الرائعة (ذكرى السماح) فترتفع بك إلى أعلى سماء الطرب، وستندمج مع صوتها في حب الله بلا شريك، ولا تزال صباح الغريب بيننا على قيد الحياة، ولا يزال صوتها يجري كما يجري النيل في أرضنا، ورغم أنها حصرت نفسها في الإنشاد الديني، ويبدو أن ذلك حدث بعد أن تزوجت وجاءت إلى القاهرة مع زوجها، إلا أننا نفتقد صوتها في الأنواع الأخرى من الغناء، وليتها تعود لنا بأغنيات أم كلثوم، حتى ولو كانت أغنياتها الدينية، فهل يقرأ أحدهم هذا المقال على صباح الغريب لتخرج من قمقمها للشعب المصري المحب للفن والطرب، يا صباح أصبحي .. وبالغناء إصدحي.