الإبداع المجهول ما بين صُبح وصباح (1-2)
بقلم : الدكتور ثروت الخرباوي
في حياتنا عبقريات فنية، منها من مضى إلى وادي المجاهيل، ومنها من لا يزال يطرق أبواب الحياة لعله يجد لنفسه طريقا إلى قلوب الناس، ومنذ سنوات قرأت كتابا ساخرا بعنوان “سكة سفر” لعميد الساخرين في عصرنا الحديث محمد عفيفي عليه رحمة الله وعلى سخرياته الرحمة والسلام، وفي مقدمة الكتاب كتب الساخر الشعبي الحرَّاق محمود السعدني عليه رحمة الله عن عبقرية عفيفي الساخرة وكيف أنه لم يأخذ حظه من الشهرة كباقي الساخرين، وحينما استعرض الأسباب قال السعدني (إن موهبة يوسف وهبي في التمثيل ضئيلة جدا بالنسبة إلى موهبة عزيز عيد الذي كان عملاقا حقيقيا، ولكن يوسف وهبي وصل إلى الناس في حين أن عزيز عيد لم يصل إليهم، وظل تأثيره في المعاهد الفنية فقط ، ونفس الشيء بالنسبة إلى زكي طليمات الذي كان فنانا لا يتكرر وكان يوسف وهبي بالنسبة له كأنه لا شيء، ولكن زكي طليمات توارى أمام موهبة وهبي).
وقد برر السعدني ذلك بأن يوسف وهبي فهم نفسية الناس فقدم لهم ما يروق لمزاجهم النفسي، في حين أن عزيز عيد قدم لهم ما يريد هو أن يقدمه، ونفس الشيء بالنسبة لزكي طليمات، واعتبر محمود السعدني أن وهبي فهم أن الناس تريد الأداء الزاعق الصارخ المنفعل، وهذه هى نفسية المتلقي العربي وفقا لرأي السعدني، في حين أن عيد وطليمات كانا يقدمان الفن بلا زعيق ولا صريخ فلم يلق ذات الهوى في نفوس الجماهير.
وقد رأيت في حياتي العديد من قصص عباقرة الفن المجاهيل الذين كانوا أروع وأبدع من آخرين نالوا شهرة طاغية، ثم طواهم التاريخ في صفحاته السرية وكأنه كَتب على العالم ألا يذكرهم أبدا، ومن هؤلاء صُبح وصباح، أما صُبح فقد يكون قد أتاك ذكره، وقد تكون قد شاهدت بعض مواقفه، ولكنك لن تندمج معه إلا إذا كانت من (السميعة) الذي يعشقون الطرب الأصيل، صُبح هذا هو الموسيقار والمطرب صاحب التواشيح النادرة (محمود محمد صبح الزرقاني)، وقد ولد هذا الفنان في أواخر القرن التاسع عشر وتوفي صغيرا وهو في الثالثة والأربعين من عمره عام 1941، وقد كان صُبح محل اهتمام بعض المؤرخين، وأذكر أن صديقنا العزيز الأستاذ أحمد السماحي كتب عنه من قبل.
وكان الموسيقار ميشيل المصري عليه رحمة الله قد حدَّثني عنه، ووعدني أن يعطيني بعض التسجيلات النادرة له، وتواعدنا على لقاء يحضره صديقي المخرج الإذاعي الأستاذ صفي الدين حسن، وتم اللقاء ولم أنل بغيتي، وتكرر اللقاء ولكننا كنا قد انشغلنا بوضعه الموسيقى التصويرية لمسلسل إذاعي من تأليفي، إلى أن قضى الله أمرا كان مفعولا وتوفي ميشيل المصري ولم أحصل على تلك التسجيلات، ولكنه كان قد حدثني عن الشيخ محمود صبح هذا، وحكى لي بعض نوادره، ومواقفه التي تدل على خفة ظل طاغية، فقد كان يعده من ظرفاء مصر الكبار، قال لي ميشيل المصري إنه رأى الشيخ محمود صبح في محل والده بشبرا، وكان ميشيل وقتها في السابعة من عمره، وكان يستمع إلى موشحاته التي يلقيها أمام والده ومجموعة من السميعة، إلا أن الشيخ صبح سرعان ما قضى نحبه بسبب جرعة زائدة من المخدرات.
ومرت الشهور والسنوات ونسيت أمر الشيخ صبح إلى أن تقابلت مع صديقي الملحن النابه خالد طاحون فذكَّرني به، فعدت إلى ما كُتب عنه، وعرفت أن نجيب محفوظ كان من المعجبين به جدا، وأن صبح هذا كان قد بدأ في الإذاعة عام 1934 حيث كان يبدأ بقراءة القرآن، ثم يدخل بعد ذلك على الموشحات، وكان يتحدى أثناء أداءه للموشحات الموسيقار عبد الوهاب والمطربة الكبيرة أم كلثوم، ومن طرائفه التي ذكرها المعاصرون له أنه كان يتوقف وهو يؤدي أحد الموشحات ليقول على الهواء: (سامع يا سي عبد الوهاب؟ تعرف تعمل اللي أنا عملته، سامعة يا ست أم كلثوم، تعرفي تغني زيي كده؟!)، وغير ذلك من الحوارات حتى أنه ـ وهو الكفيف ـ كان يداعب الموسيقار مدحت عاصم مدير الموسيقى في الإذاعة المصرية قائلا: اسمع يا مدحت يا أعمي اللي أنا بقوله، مع أن مدحت عاصم كان مبصرا والشيخ صبح هو الكفيف ولكنه كان يسخر حتى من عاهته.
كل الذي سلف كتبه كثيرون غيري، وتحدثوا عن مساحة صوته التي لا نظير لها في الموسيقى العربية منذ عصر التسجيلات، وكيف أن صوته ومساحته كانت أقوى بكثير من عبد الوهاب وأم كلثوم، وإذا كنت من عشاق الطرب الأصيل واستمعت إلى موشح من موشحاته ستصل بلا ريب إلى درجة السلطنة التامة، وستنسى الدنيا وما فيها، ومشاكلها وسخافاتها، ولكن الذي لم يقله أحد هو (علاقة محمود صبح بالفنان الراحل محمود عبد العزيز عليه رحمة الله)، لا تتعجب يا صديقي فقد كانت بينهما علاقة قوية رغم أن صُبح مات قبل أن يولد محمود، ووارد جدا أن محمود لم يسمع عن الشيخ صُبح قط، ولكن ما هو أصل الموضوع؟ إسمع يا صديقي واحكم بيننا.
فحينما مثل محمود عبد العزيز شخصية (الشيخ حسني) الموسيقي الكفيف الذي يعيش في الكيت كات، والذي كان يقود الموتوسيكل ويفضح الخلائق بالميكرفون، ويقود الأعمى مدعيا أنه هو المبصر، وما إلى ذلك مما شاهدناه جميعا في هذا الفيلم الرائع، ضرب الناس أخماسا في أسداس، هل للشيخ حسني نظير في الحياة؟، قال البعض أخذا من الراحل إبراهيم أصلان المؤلف الأصلي لرواية “مالك الحزين” التي صاغ منها المخرج داود عبد السيد قصة فيلم (الكيت كات) : نعم إن للشخصية وجود في الحياة وهى لشخص يدعى كذا كان يعيش في حي إمبابة، وفي قول آخر للإعلامي الأستاذ شردي إن الشيخ حسني يُدعى عبد العزيز وكان يعيش في بورسعيد، وقال الأستاذ طارق الشناوي: بل هو مقرىء يعيش في الكيت كات، أو شيء من هذا القبيل، وأن هذا الشيخ كان يركب الموتوسيكل والدراجات رغم أنه كان كفيفا.
ولكن الناس نسوا أو تناسوا أن إبراهيم أصلان مؤلف الرواية الذي صاغ شخصية الشيخ حسني كان محبا لدرجة العشق لنجيب محفوظ، وأن محفوظ هو الذي قدَّم أصلان لعالم الأدب، وهو الذي قدمه لتوفيق الحكيم قائلا: (إن هذا الأديب يأتي في مقدمة المقدمة من النبغاء)، وكم من الجلسات جمعت بين الأديبين الكبيرين، وفي صالون محفوظ كانت لهم أيام، وحينما مات محفوظ كتب أصلان : (الناس، هنا، على أرصفة المدن، في المقاهي والمدارس، في أقسام الشرطة وأحواش البيوت وباحات المصانع والمزارع والملاعب والسجون، في حواري القرى والنجوع والدساكر والكفور، تصورتُهم، وقد راح كل منهم يشد على يد الآخر معزياً في رحيل الرجل الذي كان، لفرط المقام، على الأقل، صار على صلة قربى بكل واحد منهم، والذي، في الآخر، عرّف العالم بأنقى ما فيهم، وأفضل ما فيهم، وجعلهم جزءً من ضمير الدنيا الثقافي). ورغم اختلاف مدرسة محفوظ عن مدرسة أصلان الروائية إلا أن أصلان كان يحفظ لمحفوظ مقامه ومكانته، وأحسب أنه تأثر بحكاياته، ومن حكايات محفوظ التي رواها للكاتب والناقد الكبير رجاء النقاش وأوردها في كتابه (نجيب محفوظ: صفحات من مذكّراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته)، وكان يرويها أيضا في صالون: (جلست إلى الشيخ محمود صبح أكثر من مرة وكنت أجده شخصية ممتعة، ومتحدثاً لبقاً، وعاشقاً للنكتة، وللشيخ محمود صبح صوت رهيب لم تر الحنجرة المصرية مثله، وأطرف ما فى حياته تلك المشاجرات على الهواء والتي كان يمارسها فى محطات الإذاعة الأهلية، وأذكر مشاجرة له مع مدحت عاصم على الهواء، حيث دخل الشيخ صبح الاستوديو وغنى لبعض دقائق ثم سكت فجأة ليقول: (اسمع الأغنية القادمة يا مدحت عاصم يا أعمى!)، ثم واصل الغناء.
والطرافة هنا أن الشيخ محمود صبح هو الذى كان ضريرا وليس مدحت عاصم، وكان الشيخ صبح صاحب موهبة عظيمة وله شخصية جبارة، ولكن المخدرات أضاعته، ويقول الكاتب والباحث زياد عساف في كتابه (المنسي في الغناء العربي) الصادر عن الهيئة العامة للكتاب، عن الشيخ محمود صبح: (رغم فقدانه للبصر كان يمارس الألعاب الرياضية الصعبة مثل رفع الأثقال والملاكمة والمصارعة، وكان يحلو له أن يركب الدراجة أحيانا ويسير في شوارع القاهرة مخاطبا المارة وهو يضرب بعصاه على الدراجة (وسَّع يا جدع للشيخ صبح)، وبقدر ما كان عصبي المزاج كان صاحب نكتة وجميل الطباع، واعتاد أن يغير من طبيعة ملابسه من فترة لأخرى فتخلى عن لبس الجبة والقفطان والعمه ليرتدي الطربوش، وبعد ذلك بدأ يرتدي البدلات الأوروبية الحديثة في وقتا، ويقول أيضا نقلا عن المعاصرين للشيخ صبح إنه وكثيرا ما كان يحلو له أن ينزل على درابزين الإذاعة زحلقة.
تلك الملامح نجدها شديدة الشبه بالشيخ حسني، نعم قد يكون الكاتب جمع أكثر من نموذج وصاغ منه شخصية واحدة وهذا يحدث في كثير من الروايات، فليس من الضروري أن تكون ملامح الشخصية الروائية مطابقة تماما للشخصية الحقيقية، ولكن الأصل أن الروائي يضيف للشخصية الكثير من الصفات التي رآها في شخصيات مختلفة ثم يخلق منها الشخصية الروائية، قد تجد في الشيخ حسني (سيد مكاوي، و عبد العزيز البورسعيدي، ومحسن الكيت كات)، ولكنك ستجد أن شخصية الشيخ صُبح هي الشخصية الطاغية والتي أعطت للشيخ حسني طرافته وخفة ظله.
انتهينا من حكاية الشيخ محمود صُبح وحكايته، وأمنياتي أن نعيد الاستماع إلى صوته المذهل، لندخل إلى الشيخة صباح، ولكن من هي الشيخة صباح؟ هذا ما سنعرفه في المقال القادم إن شاء الله.