“كليوباترا”.. والنوايا االصهيونية الدفينة
بقلم : محمود حسونة
لا تقف أطماع الصهاينة عند احتلال الأرض وتكوين دولة (من النيل إلى الفرات)، كما تؤكد العبارة المدونة على مدخل الكنيست: (ولما تجلى الرب على إبراهام، منحه الأرض المقدسة من النيل إلى الفرات)، ولكن أطماعهم تتجاوز ذلك بكثير، فهم يريدون الاستحواذ على مياهنا وطعامنا وفنوننا وثقافتنا وتراثنا وأيضاً إنساننا، ولن تشبعهم الجغرافيا إلا إذا أخذوا معها التاريخ بكل مفرداته ومواقفه وإنجازاته وانتصاراته وشخصياته، والشيء الوحيد الذي سيتركوه لنا في تاريخنا هو انكساراته وإحباطاته وهزائمه، عينهم على الماضي بقدر لا يقل عن الحاضر والمستقبل.
وقاحتهم تفرض عليهم الانشغال بكل عظيم ومضيء في تاريخنا، يزعمون ويدّعون ويتسللون، ويروجون الأكاذيب، وعندما يفشلون في السطو على ما يريدون لا تكفيهم إثارة الجدل، ولكنهم يصمتون لبعض الوقت ثم يعودون لاستئناف المحاولات؛ ولعل مزاعمهم بشأن الأهرامات تأكيد على ذلك، ابتداءً من ادعاءات مناحم بيجن أمام السادات خلال توقيع اتفاقية كامب ديفيد عندما قال بطريقة ظاهرها المزح وباطنها ترويج أكذوبة جديدة والتشكيك في قدرات المصري القديم بقوله (نحن بناة الأهرامات)، ولم ينهره رد الرئيس المصري حينئذ ليعود هو وخلفاؤه إلى تكرار الادعاء والزعم بأنهم بناة الحضارة الفرعونية، وهو ما لا تمل أجهزة إعلامهم الخوض فيه بين حين وآخر، وعندما لم يصغ إليهم أحد بثت قناتهم الثانية تقريراً بأن بناة الأهرامات كائنات فضائية وليسوا الفراعنة، فإن لم يكن أجداد الصهاينة هم البُناة فلتكن كائنات فضائية والمهم أنها ليست إنجاز مصري ولا فرعوني!!!
لنفس الهدف ولكن بأسلوب مختلف يحاولون تكريس وجود سيدة الغناء العربي أم كلثوم في حياتهم، من خلال الاهتمام الزائد ببث أغنياتها عبر محطاتهم الإذاعية والتليفزيونية وإطلاق اسمها على شوارعهم تمهيداً لكذبة مستقبلية بأنها منهم، ونحن عن مخططاتهم غافلون وفِي أمور هامشية لاهون.
آخر أطماع الصهاينة في العبث بالتاريخ المصري تجسده الممثلة الإسرائيلية (جال جادوت) بطلة الفيلم الأمريكي (ووندر وومن) أو (المرأة الخارقة)، كما لعبت بطولة فيلم (الموت على النيل) عن قصة لأجاثا كريستي، وقد أعلنت مؤخراً نيتها لعب بطولة فيلم جديد عن حياة أيقونة ملكات العالم الملكة كليوباترا، وقالت في حوار تليفزيوني على شاشة بي بي سي الانجليزية (أريد أن أحتفي بإرث كليوباترا).
الاحتفاء بإرث كليوباترا قرار اتخذته الممثلة الإسرائيلية التي خدمت عامين في جيش الاحتلال وتلطخت يداها بدماء عربية، بعد أن تلطخ عقلها بالفكر الصهيوني على يد قادة جيش الدفاع الذين يسقون جنودهم ماء الكراهية ويطعمونهم سموم الحقد على كل ماهو عربي، ويملأون قلوبهم غضباً تجاه الحاضر والماضي العربي.
بعد الإعلان عن مشروع الممثلة الإسرائيلية أبدى بعض المصريين والعرب اعتراضهم عبر مواقع التواصل، وجاء رد (جال) فاضحاً نواياها ووقاحتها، حيث قالت لبي بي سي: (قبل كل شيء ، إذا كنت تريد أن تكون صادقاً مع الحقائق، فإن كليوباترا ليست مصرية بل كانت مقدونية)، وأضافت (كنا نبحث عن ممثلة مقدونية تناسب كليوباترا، فلم نجد وكنت متحمسة جداً لها فقررت تمثيلها، وهذا هو ما يكشف عن نواياها الصهيونية الدفينة والتي تبدأ بالتشكيك في مصرية كليوباترا، وبعد ذلك قد لا نفاجأ بنسبها إلى إسرائيل مثلما قال قادتهم وروج إعلامهم حول الأهرامات، وليس خافياً أن كليوباترا تنتمي لعائلة مقدونية بطلمية قدمت إلى مصر قبل توليها الحكم بـ ٣٠٠ عام، انصهرت هي وأهلها وأجدادها في البوتقة المصرية التي صهرت كثيرا ممن طرقوا بابها وحولتهم إلى مصريي الهوى والهوية عبر التاريخ وكثير منهم كانت شخصيات عظيمة سواء في مهارات الحكم أو قدرات الساسة أو مواهب الفنانين والمبدعين.
ولعل الممثلة الصهيونية تدرك أن الدولة التي تنتمي إليها كيان لم يكن له وجود قبل ٧٣ عاماً، وأن شعبها خليط لا رابط بينه إلا الدين، وليست إسرائيل وحدها، فربيبتها أمريكا خليط عجيب غريب من أعراق وألوان وديانات مختلفة، ويتساوى في ذلك ساستها وشعبها وكل من يحمل جنسيتها لا يشكك أحد فيه ولا في أمريكيته، وليست أمريكا وإسرائيل فقط ولكن في ظل أمواج الهجرة تغيرت وتتغير ملامح الدول، سواء كانت الهجرة أملاً في حياة أفضل أو هروباً من حروب وصراعات وتمييز عنصري، ولا يفصل بين مواطن ومواطن في أي دولة سوى انتماءه إليها واعتزازه بها، ومن يراجع تاريخ كليوباترا يعلم كم كانت تعتز بمصريتها، ولكن ماذا نفعل في النوايا الخبيثة التي تجاوزت كل حدود وتسعى للعبث في مليكتنا التي شغلت الدنيا ولَم تشغل صناع الفن في مصر ليمنحوا الفرصة للممثلة الاسرائيلية ومن هم على شاكلتها للعبث بتاريخ وعظماء مصر.
فيلم جال جادوت ليس أول عمل فني عن كليوباترا التي ألهمت صناع الفن حول العالم، وألهمته أفلام ومسلسلات بل وفيديو كليبات وجسدتها فنانات عدة أشهرهن اليزابيث تايلور في الفيلم الأهم “كليوباترا” (١٩٦٣)، كذلك (صوفيا لورين وفيفيان لي، وكاتي بيري، ومونيكا بيلوتشي، وكلوديت كولبير، وليونور فاريلا وأماندا باري)، وبينهن يهوديات، ولكن جادوت هي الوحيدة التي شككت في مصرية الملكة الفرعونية حتى قبل التصوير، وهو ما ينبئ بأن ما ستقوله هى و(جيشها) المعاون بعد العرض لن يكون بريئا.
أعتقد أن الميزانية التي أنفقت على مسلسل (لؤلؤ) أو على غيره من المسلسلات التي يتم تفصيلها على مقاس بعضهم أو بعضهن كفيلة بإنتاج أعمال فنية تحيي ذكرى شخصيات عظيمة شكلت تاريخ مصر الذي نعتز به ونتفاخر بشخصياته التي لا يعرف شبابنا عنها سوى الاسم فقط بل وبعضهم لا يعرف عنها شيئا.
المسؤولون عن الفن ليسوا وحدهم المقصرين في حق تاريخنا، ولكن أيضاً المسؤولين عن التعليم ولو سألت فرنسياً أو ألمانياً عن التاريخ الفرعوني لوجدته يعرف أكثر من المصري، والسبب أن التاريخ الفرعوني وعلم المصريات مادة أساسية في معظم مناهج التعليم الأوروبي في حين أنها لا تزيد عن فصل في بعض كتب التاريخ لدينا.
ليت المحتكرين للانتاج والمسؤولين عن التعليم و(عتاولة الإعلام) وصناع الثقافة في مصر ينتبهون إلى ما يحاك ضد التاريخ المصري وهم غارقون في تقديم أعمال لا تتجاوز قيمتها حدود قتل الوقت لمن يعانون فراغاً، فتاريخنا وما فيه من كنوز يستحق من كل صاحب موهبة أو قلم أو قرار بعض الاهتمام.
mahmoudhassouna2020@gmail.com