محمود سعد الذي يغرد خارج السرب
بقلم : محمد حبوشة
الأمر المؤكد أن للزمن آثاره وعلاماته التي تصبح تاريخا محفورا في الذاكرة، فنحن نقتات على تاريخ ينقش على جدران الزمن، نستمد منه بقاءنا ووجودنا وهويتنا وعروبتنا، لكي يصبح نبراسا للأجيال المتعاقبة، ومن ينكر ذلك فهو جاحد بلا شك، تلك حقيقة ما أكده الصحفي المخضرم – ولا أقول الإعلامي – (محمود سعد)، في تغريده الدائم خارج سرب البرامج التليفزيونية الصاخبة بالأحداث المفزعة تارة، والتافهة تارات كثيرة، حينما يذهب في برنامجه (باب الخلق) في سياحة روحية إلى مناطق مغايرة عن تلك التي اعتادتها عين المشاهد.
نحن بالفعل نستمتع معه بمبدعينا على المستوى الإنساني، عن سير وقصص مثيرة تتحدث عن (الحرف والأعمال الفنية التراثية، والمناطق التاريخية والسياحية) وغيرها، حيث نستأنس بهم ونقدرهم ونستمتع بأعمالهم، وهم بلا شك يعكسون واقعاً جميلا بكل تناقضاته ومتاعبه بدون أن يدركوا تلك القيمة الكبيرة التي يدونونها، تنساب من بين أناملهم في خلسة الإبداع وأنسته المحضة!
ما زاد من سعادتي أكثر وأكثر وأنا أتابع برنامجه القصير إلى حد ما (باب الخلق) قياسا ببرامج التوك شو وغيرها من برامج حوارية ثقيلة الظل، حيث لاتزيد الحلقة أحيانا كثيرة عن الـ 15 دقيقة، لكنها في الوقت ذاته تحظى بقدر من المعلومات الجديدة (طازة فعلا)، عن بعض معالمنا الأثرية (الأهرامات نموذجا ومراقد المشايخ والصالحين، أو قصص مدافن الصحابة الموجودين على أرض مصر)، ربما استطالت رقبتي حتى لامست نجوم السماء البهية أثناء مشاهدتي لكثير من الحلقات التي تحكي عن نساء مصريات سمر تحدون الزمن والأيام بمهن شاقة للغاية، لكنهن يمارسن تلك المهن بحب وجلد وعن طيب خاطر، فأثمرت عطاياهن محبورة بما حوته أيديهن من عطايا الله الكثيرة اللاتي يؤمن بها عن ظهر قلب.
أجمل ما يقدمه محمود سعد في برنامجه الذي بدأه منذ سنوات بطريقة تقليدية، لكن خبرة السنين والأيام أثقلت تلك التجربة وأضافت لها نوعا من الثراء والرقي، حتى صار أبدع الحكائين والرواة الأقرب إلى القلب، عبر لغة سهلة وبسيطة وابتسامة لاتغادر وجهه الذي يظل محتفظا ببرءة وسذاجة فطرية، أظنها لايعمدها بقدر ما أعتمد عليك كتنيك خاص في البرامج التليفزيونية المحببة لقلب مشاهد يتوق إلى سياحة روحية خاصة من خلال عرضه الشيق للسيرة الذاتية لأي منا تحمل شيئا عن ذكرياتنا عما كان، عما حصل، رؤيتنا في ذاك الزمن، عن الأحداث، الأفكار التي نحملها، المحطات المهمة في حياتنا، تأثيراتها علينا.
وهو هنا يقدم لنا سيرة مختصرة، مختزلة، يحكي فيها عن المراحل المهمة التي مر بها الإنسان أو المكان (موضوع الحلقة)، سواء كان أثرا ذكر في القرآن أو كتب السيرة حول صحابي أو مكتشف أثري أو مفكر أو روائي أو حتى شخصية فنية معروفة، فهو يتجنب الخوض في التفاصيل، لكن تبقى دقائه القليلة بمثابة محطات مفصلية بالنسبة للإنسان أو المكان الذي يقصده، ومن تلك المحطات تأتي أحاديثه ذات الشجون عن أول حالة حب عاشها، خلال عمله في مهنة صعبة وشاقة، وهو يسرد تلك السير والقصص ذلك بطريقة سهلة، حيث يستخدم لغة بسيطة، ويقدم المعلومة والفكرة بشكل واضح، بعيد عن التعقيد، من هنا يمكن لأي مشاهد أن يقضي وقتا ممتعا أمام الشاشة التي يغرد فيها محمود سعد خارج السرب.
الحقيقية أن برنامج (باب الخلق) لمحمود سعد يأتي كـ (نقش على جدار الزمن)، حيث يقدم المشهد برمزيته الدرامية، ويكشف إلى أي مدى يخشى الإنسان الاندثار، وإلى أي حد يرى أن المحافظة على ذاكرته هى الضمان الأساسي للبقاء ومقاومة الفناء، وعلى غرار الحضارات القديمة التي تخلد أعمالها عبر الرسومات والنقوش، نجد أن (محمود سعد) أمام الكاميرا بمثابة فنان تشكيلي حاضر الذهن متوقد الخيال، ليسجل بدقة معالم تلك الحضارة التي كانت هنا يوما ما، ويضعها بكل أمانة بين أيدي بشر سيأتون بعد قرون لينظروا إليها، وأعينهم تصطحب الدهشة والانبهار من فرطة براعة الصور وجلال المشهد وروعة الطبيعة الساحرة التي تأسر القلوب والعقول.
وفي الواقع نحن في (باب الخلق) لمحمود سعد أمام نمطين تشكيليين حفظا الذاكرة الإنسانية بكل معانيها، فقدما تاريخ النخبة تماماً كما قدما تاريخ وحاضر مواقف الناس، وآراءهم، ومشاعرهم من البكاء إلى الفرح إلى الخوف إلى الأمل، وقد تطور كل منهما تبعا لتطور الفن التشكيلي نفسه، وحتما سوف تلمس ألوانا مختلفة من الفسيفساء والزجاج الملون والنقش على جدران المعابد والأماكن الرمزية الخاصة، والأشغال المعدنية، الفن القوطي، المسيحي، الإسلامي، كل تلك كانت عناوين بارزة رافقت كاميرا (باب الخلق) عبر السنوات القليلة الماضية.
ومن هنا فإن (باب الخلق) كان ومازال خلال السنوات الماضية بمثابة ذاكرة تسجيلية تجزيئية، من خلال ماقدمه عبر الكثير من الأعمال التي يمكن من خلالها التعرف مثلا إلى أنماط العيش والتفكير في تلك فترة غابرة، وهو في كل مرة، يقدم لنا نموذجا مختلفا ومتطورا باستمرار في تعامله مع الذاكرة الإنسانية، وفي تحديدهم أصلا لما تعنيه تلك الذاكرة، ولما ينبغي أن تحتويه، وفي كلمات معبرة جدا يشرح لنا أناسا يتنفسون ويحسون ويحبون ويتألمون، والذاكرة الإنسانية لمحمود سعد هنا تبدو لي ذات مفهوم شامل، واسع، في سعة الحياة نفسها، في تفاصيلها البشرية التي ينبغي أن تظل حية تتنفس بحرية طوال الوقت.
ولا يزال محمود سعد – بحسب ظني – مخلصا أمينا على تسجيله لمختلف تطورات مفهوم الذاكرة الإنسانية، إنه هنا هو الصديق الآمن والأمين على المستقبل، وربما لن يقلق الأبناء والأحفاد القادمون من الآتي، حين يحاولون فتح صندوق التاريخ الذي يستعرضه (سعد) للتعرف إلينا، فمن خلال لوحة أو تمثال أو عمل استعراضي، أو قطعة خزف، أوعمل تركيبي أو حروف مرصوصة على شكل خطوط، أوغير ذلك من تجليات الفنون التشكيلية المعاصرة، يمكنهم أن يعرفوا كيف كنا، وكيف تطورنا، وكيف تألمنا، وحلمنا، وآمنا بفرصتنا في أن نصوغ الحياة بشكل أفضل مما نحن فيه.
في دروب الزمان والمكان، والغوص في دهاليز الخوف من المجهول، وفي دروب الوحدة والسقوط، وغيرها من تفاصيل تأتي حلقات البرنامج كـ (نقش غائر في الذاكرة الحية) يغوص بها محمود سعد في كثير من مناطق حياتنا على جناح الابتسامة العذبة والمشرقة التي تلازمه وكأن لسان حاله يقول: قد تكون الابتسامه تائهة، ولكن مخرجها واحد وهدفها واحد، تنطلق تلك الابتسامة لتعانق القلوب ببراءتها وعذوبتها، لا شيئ يتوارى خلفها سوى القلب الطيب الذي يعد ضريبة في هذا الزمن، وما أجملها من ابتسامة تزرع الأمل في دروبنا وتنسينا عناء الأيام ونعيش في ذكراه، ونستعين باستراجعها من ذاكرتنا عندما يجور وقتنا علينا .. هذا باختصار شكل وملامح برنامج (باب الخلق) الذي يقدمه بعذوبة وصدق (محمود سعد) ويتمعنا أسبوعيا بأسلوبه السهل الممتنع .. فتحية تقدير واحترام لجهده الذي يخاطب العقل والروح ويزيح الستار عن همومنا التي تصدرها لنا برامج (التوك شو) الغارقة في التفاهة والسوداوية وغيرها من طاقات سلبية تزحف على مجمل حياتنا.