فى ذكراه الـ 60 : نجمات الغناء يتحدثن عن أسطورة النغم (زكريا أحمد)
كتب : أحمد السماحي
نحيي هذه الأيام الذكرى الستين لأحد أساطين النغم الشرقي (زكريا أحمد) الذي رحل عن حياتنا يوم 14 فبراير عام 1961، والذي ولد في حي عريق من أحياء القاهرة هو حي الحسين في اليوم السادس من شهر يناير عام 1896 – كما جاء في كتاب زكريا أحمد اعداد الدكتورة إيزيس فتح الله – وكان أبوه بدوي يدعى الشيخ (أحمد حسن صقر مرزبان) من قبيلة مرزبان بصحراء الفيوم، وكانت معروفة بشدة البأس وقوة المراس، وأم تركية من مدينة الأناضول.
أحب زكريا الغناء عن والدته التى كان صوتها الجميل يترامى إلى أذنيه وهى تدندن الأنغام الحزينة، كلما أحست بحنين إلى أهلها، وكان هذا الصوت يتسلل كالسحر إلى أعماق قلبه فترسب فى وجدانه وكيانه، وكان الوالد يؤهل ابنه ليصبح من علماء الدين، فألحقه بكتاب الشيخ (نكلة) ثم نقل إلى الأزهر، حيث أتم حفظ القرآن الكريم، كما درس علوم الفقه والنحو والصرف، ثم التحق بمدرسة خليل أغا، وارتدى في صباه العمامة والجبة والقفطان.
وكان زكريا أحمد يميل إلى الإنشاد الديني ثم تعرف على أحد شيوخ الإنشاد فى زمانه وهو الشيخ (إسماعيل سكر) الذي كانت شهرته ملء الأسماع، ووجد فيه الشيخ (سكر) خامة طيبة، وراح يشجعه، حتى ضمه إلى أفراد بطانته وحفظ العديد من التواشيح والقصائد الدينية، ثم عمل في بطانة الشيخ (سيد موسى) واستقر مع الشيخ (على محمود)، وكان يصحبه في روحاته وغدواته، فتأثر به تأثرا شديدا.
كان أول ألحانه الموسيقية وكما ذكر هو عام 1917، عندما لحن أغنيته الشهيرة (إرخي الستارة اللي في ريحنا) الذي غنه العديد من المطربين مثل (منيرة المهدية، وعبداللطيف البنا، ورتيبة أحمد)، وتوالت ألحانه التى وصلت إلى حوالي 1100 لحن.
ولقد لقب بشيخ الملحنيين لأنه اتقن جميع الألوان المسرحية والعاطفية والحماسية والكوميدية، واستطاع أن يبرز معالم الموسيقى العربية الفنية في ألوانها وأوزانها.
عام 1970 وفي الذكرى التاسعة لرحيله صرحت عدد كبير من المطربات الذين تعاونوا معه لمجلة (الكواكب) ببعض ذكرياتهم معه، هذه الذكريات التى كشفت عن جوانب خفية في حياة هذا العملاق الكبير.
حرصه على كرامته
جمعت أعمال كثيرة بين الشيخ (زكريا أحمد) والمطربة (فتحية أحمد) التى قالت عنه: زكريا أحمد الفنان ظاهرة لن تتكرر بين الملحنيين، ولم تكن شخصيته الفنية تقوم على تفوقه كملحن للنغم الشرقي الأصيل فحسب بل كانت تتألف من عدة عناصر كثيرة منها شخصيته القوية وروحه المرحة، وذاكرته التى لا ينضب معينها من الروايات الحلوة، وحرصه الشديد على كرامته، ولو أن صحتي كانت تساعدني لرويت الكثير عن هذا الفنان العظيم الذي كان بالنسبة لي الأب والأخ والصديق والملحن الذي غنيت له أنجح أغنياتي منها (يا حلاوة الدنيا، أضحى التنائي بديلا من تدانينا، عيوني بين لحاظ حبي وقلبي، كل إنسان شاف حبيبي، حمامة صدحت شجوا على فنن) وغيرها.
صوته يطربني
أما الفنانة الشاملة (عقيلة راتب) فحكت ذكرياتها معه قائلة: عرفت زكريا أحمد أيام كان يقوم بتلحين روايات فرقة (علي الكسار) وكنت يومها بطلة الفرقة، وكانت أسعد لحظات حياتي أن التقي بـ (زكريا أحمد) وأجلس معه ساعات طوالا أستمع إلى أحاديثه العذبة وذكرياته، وفكاهاته، وعندما كان يجلس معي ليقوم بتحفيظي اللحان التى سأغنيها، كان صوته يطربني جدا، رغم أنه لم يكن من الأصوات الجميلة، ومع ذلك كنت أصيح إعجابا بين كل مقاطع اللحن الذي يغنيه، وقد كان (زكريا أحمد) إلى جانب خصاله الحميدة شديد الاعتزاز بفنه، يكره المساومة المادية، ولهذا لم يكن ينظر أبدا إلى الأجر الذي يقدمه إليه مطرب أو مطربة دون ثمن الألحان، بل كان يأخذ النقود ويدسها في جيبه دون أن ينظر اليها، لقد كان رجلا عظيما وفنانا خالدا.
يوم قبلته!
تحت هذا العنوان تحدثت المطربة (رجاء عبده) فقالت : كان الشيخ (زكريا أحمد) من أقرب الزملاء إلى نفسي، وكنت أحترم فيه حرصه على كرامته، ووفاءه الشديد لأصدقائه واحترامه للقيم الأخلاقية في تعامله مع الجميع، غنيت كثيرا من الأغاني التى لحنها لي الشيخ (زكريا أحمد) منها (بين اتنين أنا قلبي احتار، أقيموا الزينات واهتفوا للبشرى، أو الوحدة العربية، ايه لذة الدنيا واحنا بعاد فيها) وغيرها، وأثناء تعاوني معه في فيلم (الأبرياء) لحن لي أغنية اسمها (كربك كي كي) وحين قرأت كلمات الأغنية قبل تلحينها اعترضت عليها لأن من الصعب إخضاعها لقواعد التلحين، غير أن الشيخ (زكريا) أمسك بالأغنية وقرأها عدة مرات ثم انتحى ركنا في الاستديو، وبعد نصف ساعة عاد يسمعني اللحن الذي أثار أعجابي إلى حد أني قبلته في جبينه، فقد كان العمل الذي قام به يعتبر معجزة فنية لا يقدم عليها إلا الفنان الراسخ القدم، وقد جاءت النغمة التى لحن منها الأغنية خفيفة وسهلة حتى لقد انتشرت بسرعة على ألسنة الناس وقتئذ في منتصف الأربعينات.
وكنت ألتقي به باستمرار في السهرات التى تضم الفنانيين وبعض الأطباء خاصة عند الدكتور (محمود رفاعي) الذي كان يقيم في بيته سهرات كثيرة يحضرها بعض الفنانيين ومن بينهم السيدة أم كلثوم.
مجمع القلوب
عن ذكرياتها مع الشيخ (زكريا أحمد) قالت المطربة الكبيرة سعاد مكاوي: اعتقد أن الحياة الفنية عندنا لم تشهد فنانا استطاع أن يجمع حوله هذا العدد الكبير من القلوب التى تحبه كما حدث بالنسبة للفنان العظيم (زكريا أحمد)، وقد لحن لي أنجح الألحان التى كانت تجري على السنة الجماهير بمجرد اذاعتها لأول مرة، وقد بدأت صلتي الفنية به عام 1948 عندما غنيت له أنا وزميلي الفنان (محمود شكوكو) أغنية (البحر بيضحك ليه)، ثم غنيت له أكثر من ثلاثين أغنية لاقت من النجاح ما يعجز القلم عن وصفه، وقد حدث فى بعض رحلاتي إلى البلدان العربية الشقيقة أن الجماهير كانت تصر على أن أغني من ألحان الشيخ زكريا.
وذات مرة كانت الفرقة التى ترافقني لا تحفظ غير لحن واحد من ألحانه غنيته، فطلب الجمهور أن أغني لحنا أخر غيره، ولكن الفرقة لم تكن تحفظ غير ما قدمناه، فثار الجمهور، وكاد يحطم المسرح، لولا تدخل البوليس!.
وفى تلك الليلة سهرت مع الفرقة إلى الصباح، حتى أجادت حفظ ألحان (زكريا أحمد)، وأعلن صاحب المسرح في اليوم التالي أنني سأغني من الأغنيات التى لحنها لي (الشيخ زكريا)، فكان الإقبال على الحفلات التى قمت بإحيائها لا مثيل له، ولعلى أذيع هذا السر لأول مرة، لقد كان المرحوم (زكريا أحمد) يدرس معي في أخريات أيامه مشروعات موسيقية كبيرة لو امتد به العمر لكانت هذه المشروعات قد أدت للموسيقى العربية أجل الخدمات الفنية.
يوم هجمت عليه وعانقته
لحن الشيخ زكريا أحمد العديد من الأغنيات للمطربة الشعبية الكبيرة (حورية حسن) أشهرها ما غنته في أوبريت (يوم القيامة) وعن قصتها معه قالت: أحببت الشيخ (زكريا أحمد) وأعجبت به كفنان قبل أن نلتقي ونرتبط بصداقة قوية، ففي مستهل نشأتي الفنية بمدينة طنطا بدأت بأغاني (أم كلثوم)، وكان أغلبها من ألحان الفقيد العظيم، وشعرت أن هذا الملحن الذي لا أعرف شكله هو الوحيد الذي سيفهم صوتي، ولهذا عندما جئت إلى القاهرة فى الأربعينات كان همي الأول أن اسعى لمقابلته والتعرف عليه.
وذات يوم كنت في معهد الموسيقى العربية أجري بروفات على بعض أغنياتي، فوجدت رجلا يدخل ويقف ليستمع لي باهتمام بالغ، فتوقفت عن الغناء وسألته حضرتك مين؟! فاجاب بابتسامة كلها تواضع: (أنا زكريا أحمد)، وبلا إرادة هجمت عليه وعانقته وأنا أردد كلمات سريعة، أنت فين أنا نفسي أشوفك من زمان؟!.
وبعد نصف ساعة كنا أصدقاء وتحدثنا طويلا في شئون الفن، ودراساتي الفنية ولما عرف اني درست علم النغم ارتاحت نفسه وقال لي: أريد أن ألحن لك أغنية، وفعلا غنيت له عدة أغنيات قبل أن يرشحني لبطولة أوبريت (يوم القيامة)، وكان طوال حياته راعيا فنيا لي، وكان يرشحني لأعمال غنائية يشترك فيها.
مين يا نور العين
المطربة والملحنة (لوردكاش) تتذكر الشيخ (زكريا أحمد) فتقول عنه: غنيت للمرحوم (زكريا أحمد) فى بداية ظهوري فى الحياة الفنية وقبل أن استقل بتلحين أغنياتي بنفسي أغنية بعنوان (مين يا نور العين)، كلمات (أحمد الألفي عطية) عام 1937، وعرفته بعد ذلك كصديق وفي مخلص تتمثل فيه أكرم سمات النبل والصدق والوفاء، وكفنان عظيم صاحب مدرسة مستقلة وذات شخصية في التلحين، وكان الراحل يتصل لي إثر سماعه لأي لحن جديد من ألحاني، ليهنئني أو ليبدي بعض الملاحظات الصادقة والصريحة.
وكنت أحس دائما أن ملاحظاته نابعة من قلبه وتتميز بالإخلاص والصدق، وكنت أرتاح لهذه الملاحظات رغم أنها كانت تنطوي على نقد لعملي الفني.