محمد الأحمد .. نموذج فريد لإتقان اللعبة الدرامية
كتب : مروان محمد
التشخيص أو تقمص الشخصيات من طرف الممثل يتلون بأدائه وقدراته التعبيرية ويكتسب مشروعيته الاجتماعية من أدائه، فلا يكفي أن يكون السيناريو قويا لكي يخترق المشاهد ويتأثر به، إن قوة أداء وتشخيص الأدوار هو أساس تفاعل الجمهور، فهو يتفاعل قبل أي شيء من الأداء، وعبقريته في الأداء هى التي خلقت الفارق في كل تشخيص لأي دور قام به، فقد ابتكر منذ بداية مشواره نموذجا جديدا للعبة الدرامية ومن هنا رفع سقف الأداء الدرامي وأصبح متميزا في كل دور جديد يقوم به، بفضل امتلاكه قدرة عالية لإدماج الشخصيات وتملكها وكأنه يقوم بعملية تماهي مع الشخصية التي يجسدها، هذا التماهي يطفوا على شكله وملامحه وصوته ونفسيته بشكل مهوس، فيتحول إلى الشخصية التي يقوم بأدائها كليا، إن كان هذا الدور هادئا أو عنيفا.
إنه الفنان السوري الشاب (محمد الأحمد) الذي اختار منطقة خاصة به بعيد عن الابتذال أو الاستهلاك في أداء أدوار معينة أو دور خاص، وهو أيضا بعيد أيضا عن الاستهلاك لوسامته والتي كانت من الممكن أن تكون من جهة عنصرا مسهلا للحصول على أدوار متشابهة ومن جهة أخري عائقا في تنوع أدواره وقوتها، لكن عبقرية (الأحمد) تتجلى في مجموعة من المشاهد الخالدة التي يعيدها المشاهد عدة مرات فتزداد جمالا وقوة، ولديه شعار دائم يرفعه يقول: كل مايأتي بهدوء وتروى يغدو أكثر ثباتا ورسوخا، وتكتب له الحياة المديدة .
أول مقياس مؤسس للفعل الدرامي عند (محمد الأحمد) هو تجاوزه لذاته، بما معناه كيانه الجسدي والنفسي فهي أداته التي يطورها ويطوعها لخلق البديل المبدع، في هذا التجاوز يتخطى صورة الذات والآخر، فهو في إبداعه الفني يتجاوز كل الحدود الممكنة التي تقيد الشخص عن البوح، ربما لأنه دائما في عملية بوح مفتوح، فذاته تتكلم بكل جوارحها النفسية والجسدية ونبرات صوته تتلون في تعابيرها لتلبس إحساس النفس والروح، في كل أداء يتخطى حاجز الصورة الاجتماعية ويخاطر من جديد بعمل جديد وبجهد جديد وبأداء يبهر المشاهد أو المتتبع للعمل الدرامي الذي يجسده على الشاشة.
أما ثاني مقياس فهو شخصيته أو كيانه الفكري والمجتمعي، فعندما نحاول التعرف على شخص محمد الأحمد ندرك بسرعة أن يملك شخصيته خاصة تبعد تماما عن البهرجة الإعلامية ولا يتحدث عن نفسه إلا باقتضاب شديد، في حين ورغم قلة مقابلاته الصحافية، فهو متجدر بفكره في الحياة الاجتماعية اليومية والإشكاليات الإنسانية الكبرى، ففي كل حديث عن أحد أدواره يتجاوز الفعل الدرامي ليطرح النص الدرامي كواقع اجتماعي وثقافي يحاول الفعل فيه من خلال فنه الذي يعشقه ويحبه.
لايعتبر (محمد الأحمد) فقط ممثل مؤدي لدور معين بل له كذلك تواجد فكري في بناء الدور واستيعابه على نطاق مجتمعي وثقافي وانساني، إنه باختصار يجعل المشاهد يسافر بسرعة في مجموعة أحاسيس مختلفة متناقضة ومتداخلة، بل يقوم بتحليل الشخصية وأبعادها الإنسانية وفعل صيرورة الإنسان وتداخلها مع المجتمعي لتعطي الفرد في توازنه أو في اضطراباته، ولعل من أقوى الأدوار التي قام بتجسيدها هي شخصية (الأمير أبو طلحة)، بطل مسلسل (غرابيب سود)، والتي صنعت الوجه الجديد للمتطرف الديني القاتل والتي تشكل من الآن فصاعدا النموذج أو سقف قياس الإبداع الدرامي لهاته الشخصية، وكذا وضع مقياس لكيفية عمل المحقق في شخصية المقدم (ورد) في مسلسل (مقابلة مع السيد آدم)، وهو دور كان يتطلب قدرة عقلية وذهنية فائقة للضبط النفسي والجسدي والحركي وفي نفس الوقت حماية الممثل لكيانه الشخصي والنفسي من الانهيار.
وهناك أدوار أخرى في مسيرة (الأحمد) تؤكد قدرته الفكرية والإنسانية ناهيك عن قوة مخيلته في صنع شخصياته التي هى في الأصل شخصيات ورقية ضاربة في العدم، فنفس قوة الخلق الفني نجدها في مسلسل (آخر الليل) في دور (صلاح) الذي يحمل صفة (مكتوم القيد)، أو في مسلسل (فرصة أخيرة) في دور (حازم،) الذي يجسد الشخصية الضائعة بين التزاماته تجاه الآخر وتجاه نفسه، في معاناته الشديدة في محاورة الموت والحياة، في بعده الإنساني والقيمي الذي يدفع به في كثير من الأحيان لمواجهة أقرب الناس إليه، وهو قريب الشبه بدور (آدم) في مسلسل (عروس بيروت) حيث يجسد شخصية رجل أعمال يعاني من نفسية معقدة للغاية.
إن السرعة في الحركة هى أيضا حاضرة وبقوة في أداء الأحمد، فالمفاجئة لاتأتي دائما عن طريق الخطاب بل كثيرا عن طريق الفعل أو الحركة، فمن الحركات التي تلفت النظر في أدائه هي حركة وقوفه في حالة استعجال أو تشنج فهو يقوم بشبه حركة قفز، وتلك الحركة في حد ذاتها تخلق المفاجئة مع إحداث صوت بكعبي الرجلين، ويعتمد في الوقت على المباغتة والتنفيذ السريع للفعل بسرعة كبيرة ويبدو لي أنه يدرك تماما إن فعل المفاجئة والمباغثة بسرعة كبيرة تأتي من الانضباط بقوة عقلية للحركة، تلك الدقة في الحركة لها تأثير كبير في شد انتباه المشاهد، وربما هذا يصنع قوة الأداء التي تخلق عند الجمهور تفاعلا قويا، فقدرة هذه تجعل المشاهد يتفاعل معه بل قد يحاكيه في الفعل كنموذج للتغيير وتغيير المواقف والرؤيا للأشياء والأفعال.
ولد الفنان السوري محمد الأحمد في 27 فبراير عام 1979، ودرس الأدب العربي بجامعة البعث في حمص، وكان قد قدم مع شقيقه (أحمد الأحمد) في المعهد معا، لكن تعرض لحادث وتأخر قليلا عنه في الدراسة بالمعهد العالي للفنون المسرحية، حيث درس الأدب العربي بجامعة البعث السورية، لكن بقي هاجس الفن بداخله فتقدم إلى المعهد، وعلى الرغم من كونه عمل حلاقا نسائيا وعمل في التجارة، وعزف الموسيقى، وأحب الشعر، فلم تكن هذه الأعمال مصدراً للعيش، صحيح أنه كان شغوفاً بالموسيقى، ومهووساً بكل الآلات الموسيقية، كما كان يحب الصيد كثيراً، لكنه حاول بعد كل ذلك شق طريقه في عالم الفن، حيث كانت أول أدواره عام 2002 من خلال مسلسل (هولاكو) ليلتحق بعدها بالمعهد العالي للفنون المسرحية (دمشق) وتخرج عام 2005.
يعتبر من أهم الممثلين السوريين الشباب، وأكثرهم نشاطاً وشعبية في الدراما السورية، فعلى مدار 17 عاماً، شارك محمد الأحمد في ما يقارب الـ 50 عملاً بين السينما والمسرح والدراما التليفزيونية، بدأها بمسلسل (هولاكو) عام 2002، أما أبرز أعماله الدرامية فهى: (الظاهر بيبرس – 2005، أشياء تشبه الحب – 2007، قمر بني هاشم، ويوم ممطر آخر، والحوت – 2008، رجال الحسم، وقلبي معكم، وقلوب صغيرة – 2009، أنا القدس، ووادي السايح – 2010، السراب – 2011، المصابيح الزرق – 2012 – حدث في دمشق، ونساء من هذا الزمن – 2013، عناية مشددة، وإمرأة من رماد – 2015، دومينو، وأحمر، وبلا غمد، وصدر الباز 2016، غرابيب سود – 2017، فرصة أخيرة، ووهم – 2018، آخر الليل – 2019، مقابلة مع السيد آدم – 2020، عروس بيروت ج2 – 2021).
وفي السينما له عدة أفلام منها (دمشق يا بسمة الحزن – 2008، بوابة الجنة – 2009، مريم – 2012 ، رجل وثلاثة أيام، ومطر حمص – 2017، درب السما، ونجمة الصبح- 2019.
من أهم أقوال محمد الأحمد في الفن والحياة:
** الفنان مطالب دائماً بالتواصل مع جمهوره، وأن يكون قريباً منهم، وألا يُشعر الناس بالتعالي عليه، وأن يُفرحهم بالصور العفوية، وأتذكر عندما كنا صغاراً ونرى فناناً في الشارع فنعتقد أنه ليس من البشر، ولكن مواقع التواصل اليوم تخلق نوعاً من الطرافة مع الجمهور، وهذا مهم للفنان.
** الأعمال المشتركة ظريفة وسهلة، الكل يشاهدها ويسعد بها ومواضيعها ليست معقّدة، وهي وجبة دسمة للمشاهد، فالتلفاز فن بسيط وليس مركباً يحتاج الى تحليل، على عكس السينما التي تحتّم علينا توضيح الأمور التي لا يمكن توضيحها من خلال الدراما فنذهب في اتجاهات أعمق فيها إشارات استفهام ومواضيع شائكة للناس.
** أنا مع الجرأة في العمل، لكن معظم ما نراه اليوم يظهر بشكل مبتذل، ويمكن أن تكون بعض الأعمال قد تجاوزت الخطوط الحمر في أماكن معينة، فهناك أعمال لبنانية ومصرية تناولت الجرأة وتقبّلها الناس، لكن الجرأة سيف ذو حدّين، فهي موجودة ونريد معالجتها درامياً، لكن في المقابل هناك عائلة يتابع أفرادها بمختلف أعمارهم الدراما، ولذلك فهي مشكلة، و بالنسبة إليّ إذا قبلت المشاركة في أعمال الجرأة، أشترط ألا يخدش دوري الحياء، أي أن أُجسد شخصية جريئة موجودة في الواقع لكن بعيداً عن الابتذال، ففي مسلسل (دومينو) مثلاً كان هناك عدد من المشاهد الجريئة، ولم يعلّق الجمهور عليها لأنها ضرورية في العمل وليست مجانية.
** أتعامل بود واحترام مع الجميع معجبين ومعجبات وأري أن الجمهور وتشجيعه هو المحفز الأول والوقود للفنان كي يستطيع الابداع والاستمرار في حالة العطاء الفني.
** سيد رجب من الفنانين الذين أحب أعمالهم للغاية، وسعدتُ بالتعاون معه في (غرابيب سود)، أيضاً أحب أفلام السقا، ومن المخرجين أعشق أعمال خالد يوسف، وأعتبره كنزاً من كنوز مصر بعد يوسف شاهين، وأتمنى أن أعمل في أحد أفلامه.
** العالمي عمر الشريف تربينا على فنه وأفلامه السينمائية الخالدة، واستطاع حفر اسمه بين أهم نجوم العالم، وإحساس رائع أن مهرجاناً كبيراً بحجم مهرجان الإسكندرية يقدم لي مكافأة على جهدي، وأحصل على جائزة أحسن ممثل، وهناك نقطة مهمة: أن تكريمي هو تكريم للسينما السورية الصامدة برغم مأساة الحرب، ونقول من خلالها إننا موجودون ونشارك في مهرجانات ونحصل على جوائز وفي مصر بالتحديد لأن الأثر فيها يبقى طويلاً.
** لا يوجد دور أعتبره رئيسي بمسيرتي، لأن مسيرة الفنان هي مجموعة من الخطوات مثل صعود السّلم، ويجب على الفنان تقديم الأفضل والمختلف دائماً، لكن في بعض الأحيان يأتينا عدّة أدوار مشابهة لبعضها ولا نستطيع اختيار الدور الذي نريده، وعلى رغم ذلك نعطي أفضل ما لدينا محبةً بمهنتنا.
** شخصية آدم بمسلسل (عروس بيروت)، هى من بين أصعب الشخصيات التي قدمتها لأنها شخصية مركبة، مزيج من الغضب والانتقام، والحب الذي سنشاهده في الحلقات بشكل مختلف تماماً، فشخصية آدم ليست شريرة بل هى غاضبة بسبب العوامل التي دفعتها إلى ذلك.
تحية تقدير واحترام للنجم السوري الشاب محمد الأحمد، وأجمل الأمنيات بدوام الصحة وطول العمر ليمتعنا أكثر وأكثر بفنه الراقي الذي جعله في مصاف النجوم الكبار في الدراما السورية الحالية.