عن النجم المبدع العلايلي
بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
سلامٌ ورحمة على عزت العلايلي، كان وقع خبر وفاة الفنان الكبير عزت العلايلي على نفسي أليما، عليه رحمة الله، لذلك تجدني أسترجع اللحظات التي جمعتنا، أنقشها نقشا في ذاكرتي خوفا من أن تضيع تفاصيلها، أستعيد الحوارات الإنسانية التي دارت بيننا وأكررها كثيرا بين نفسي ثم أضعها بالبنط العريض في مكان بارز من ذاكرتي. كنت من المعجبين سلفا بالفنان عزت العلايلي، رأيته صاحب رسالة وهو يقوم بأدواره المختلفة، إلى أن جمعتنا الأقدار في أحد أندية القوات المسلحة بعد فض اعتصام رابعة المسلح، وكان معنا آنذاك مجموعة صغيرة من الوطنيين المصريين يتقدمنا اللواء أحمد عبد الله محافظ البحر الأحمر السابق، وكانت المهمة أن تذهب تلك المجموعة الصغيرة إلى موسكو لتلتقي ببعض القادة السياسيين هناك من وزارة الخارجية، ومن البرلمان الروسي، بالإضافة إلى اتحاد الكتاب الروسي وجمعية استشراق، وكنا أول فريق للدبلوماسية الشعبية الذي أُلقي على عاتقه أن يشرح للعالم: ماذا حدث في مصر؟ ويؤكد للروس أن مصر آمنة وتستطيع أن تستقبل السياح وتوفر لهم كل وسائل الأمان، ويبدو أن اختيار أعضاء الوفد كان مقصودا، ولكن الذي لفت نظري هو اختيار الفنان عزت العلايلي ليكون مع الفريق المصري في هذه المهمة، وإذا بي أكتشف أن وجود العلايلي في الوفد كانت له أهميته القصوى سأرويها لكم في حينه.
كان أول من قابلنا في مطار موسكو هو الفنان التشكيلي المصري الكبير دكتور (أسامة السروي)، وهو أحد كبار المثالين المصريين كما أنه المستشار الثقافي لمصر في سفارتنا هناك، كنا ثلاثة ركبنا معه سيارته الخاصة ليصطحبنا إلى الفندق، وإذا بي أجدني أجلس مع موسوعة بشرية، رجل له ذاكرة حديدية، يعرف كل شيئ عن تاريخ روسيا، وفوق هذا وذاك أضاف لمصر الكثير هناك، يكفي أنه قام بعمل عدة تماثيل لشخصيات مصرية نابغة قامت الحكومة الروسية بوضعها في ميادين عامة، وكان من التماثيل التي شاهدناها هناك من صُنع يديه تمثالا لعميد الأدب العربي طه حسين، وتمثالا للمثال المصري العبقري مختار، ونظرا لأن المطار يبعد عن موسكو ساعتين تقريبا فقد أخذنا الحديث إلى مناحي مختلفة، سواء عن روسيا القيصرية وقياصرتها، أو روسيا الشيوعية، وحين دخلنا إلى موسكو المدينة وجدت شوارعها وكأنها تنطق باسم العظماء من أدبائها، تشيكوف، وتولستوي، وجوجول.
ولفت عزت العلايلي رحمه الله نظري إلى شيء مهم، إذ قال لي: أنظر يا صديقي إلى الشباب الذين يجلسون في محطات الأوتوبيس، فإذا بي أجد أن معظم من رأيتهم كان كل واحد منهم يمسك كتابا يتصفحه بتركيز، لم أجد أحدا يمسك هاتفا محمولا يبحث فيه أو يستخدمه فيما نستخدمه في بلادنا، بل الكل مشغول بالكتاب، ومن الدكتور أسامة السروي عرفت أنه لا توجد أمية في روسيا، وأن الأمية التي يسعون للقضاء عليها ـ واقتربوا من النجاح فيها ـ هي أمية الكومبيوتر.
أما عن اختيار عزت العلايلي ليكون في الوفد فقد رأيت السبب عندما رأيت شعبيته في موسكو، فقبل أن ندخل مبنى وزارة الخارجية استوقفه مواطن عجوز وزوجته وطلبوا أخذ صورة معه، والذي أدهشني هو أن العلايلي أصابته الدهشة، وكأنه نسي أنه فنان مشهور، ولكن أن تصل شهرته إلى روسيا، فقد كان هذا هو العجيب، ثم كان الأمر الآخر في مبنى الخارجية الروسية العريق، حيث كان اللقاء الأول مع السيد (ميخائيل بوجدانوف) الممثل الشخصي للرئيس بوتين في الشرق الأوسط، وكنت قد عرفت من السفير رؤف سعد ـ سفير مصر السابق في روسيا ـ أن بوجدانوف هذا هو من أكثر الشخصيات الروسية تأثيرا على القرار الروسي فيما يتعلق بالشرق الأوسط، وقد كان في يوم من الأيام سفيرا لروسيا في مصر، وكان مع (بوجدانوف) في اللقاء السيد (إلكسندر دزا سوخوف)، وهو من أقدم الشخصيات الدبلوماسية في روسيا كما أنه المختص الأول والأكبر بملف (سوريا) في الحكومة الروسية، تلك الشخصيات الكبيرة جدا في روسيا إذا بي أجدها تنظر للعلايلي بانبهار، ورغم جمود الشخصية الروسية إلا أنهما كانا حريصين على أخذ عدة صور مع فناننا الكبير.
وحينما جلسنا على المائدة المستطيلة إذا بميخائيل بوجدانوف يقول بعربية “مكسَّرة”: سعيدٌ أنا بعبد الهادي الفلاح الأصيل، فضحكنا وتذكرنا فيلم الأرض الذي قام العلايلي ببطولته مع محمود المليجي، وسأله بوجدانوف: هل حملت البقرة التي وقعت في الساقية فعلا؟! فرد العلايلي بأن المياه التي كانت في الساقية كانت باردة جدا لأن التصوير كان في الشتاء، وأن هذا المشهد أجهده جدا، ولكنه حمل البقرة بمساعدة آخرين ولكن العبء الأكبر كان عليه، ثم قال: شعرت أن ظهري سينكسر ولكن الله سلَّم .
كنت حريصا على أن أجلس مع العلايلي أطول فترة ممكنة ، وكان حريصا هو الآخر أن يسألني عن تفصيلات كثيرة عن الإخوان بحسب أنه قام بدور رئيسي في مسلسل الجماعة، وكان مما قاله لي : أنا مش بتاع سياسة رغم أن كثيرا من أفلامي قمت فيها بأدوار سياسية، ولكن السياسة التي أؤمن بها هي السياسة الوطنية، ما هذه السياسة الوطنية؟!، قال: هي أن تمارس السياسة من أجل الوطن لا من أجل حزبك، أو فكرك، أو توجهاتك. كنا وقتئذ نجلس في الفندق، وكان يجلس معنا ، الكاتب الكبير محمد سلماوي الذي بادره بالقول: وقت الخطر الذي يتعرض له الوطن يجب أن ينصهر الجميع في (واحد) وبمناسبة الحديث عن الكاتب الكبير محمد سلماوي فإنني أحدثكم عن بعض حكمته، وبساطته، وثقته في نفسه، وثقافته الموسوعية، وتميزه وهو يشرح لكبار المسئولين الروس عن خارطة الطريق المصرية، وكان نافذا وهو يقول لهم: ما جئنا لندافع عن ثورتنا، ولكن جئنا لنتكلم عن القادم، وعن وجوب أن تكون روسيا طرفا أصيلا في المنطقة، لا بديلا، فنحن لا نبحث عن البدلاء ولكن نبحث عن الشركاء الأصليين الذين ساعدونا في السابق ولم يذهبوا بنا من قبل إلى صندوق النقد الدولي أو يفرضوا علينا شروطا تعجيزية.
وكان من أغرب الأشياء التي قابلتها ونحن في الفندق حينما رأيت وزير الثقافة الفرنسي الأسبق وهو يهرع للكاتب محمد سلماوي ليسلم عليه، وعرفت أن سلماوي له شعبية كبيرة بين كبار المثقفين في أوروبا وموسكو حيث اتحاد الكتاب الروس، وأيضا في فرنسا أما الفنان عزت العلايلي فقد صال وجال بتمكن واقتدار وهو يتحدث في الدوما (البرلمان الروسي)، وأعرب عن أسفه من ذلك الموقف الروسي غير المفهوم عندما استبعدت مصر من مهرجانات موسكو السينمائية رغم أن مصر تعتبر واحدة من أقدم دول العالم في صناعة السينما، وكان حديث العلايلي في هذا الشأن مؤثرا وأظنه ترك أثرا كبيرا في نفس الوفد الروسي، فقد كانت ذاكرة العلايلي السينمائية حاضرة وهو يكلمهم عن أن السينما هى أهم جسور التواصل بين الشعوب، وأن الشعب المصري عرف طبيعة الشعب الروسي من خلال الأفلام السينمائية الروسية التي تم دبلجتها في فترة الستينيات وعرضها في مصر، حتى أن التلفزيون المصري كان يعرض تلك الأفلام أسبوعيا.
وأثناء العودة بالطائرة كنت أجلس بجوار العلايلي فأخذ يروي لي الكثير من ذكرياته الفنية والسينمائية، قال لي: عبد المنعم إبراهيم عليه رحمة الله فنان لن تنجب مصر مثله أبدا، كان خلوقا ومتدينا ومحترما كأعلى ما يكون الاحترام، وكانت لديه قدرة على البتكار حتى ألأنه كان كثيرا ما يغير من الحوار أثناء الأداء. وحينما سألته عن مثال، قال: في فيلم قصر الشوق كان عبد المنعم إبراهيم يؤدي دور ياسين الإبن الأكبر للسيد أحمد عبد الجواد أما نور الشريف فقد كان يؤدي دور كمال الإبن الأصغر، وحينما اصطحب ياسين أخاه كمال إلى بيت إحدى الراقصات إذا بهما يريان والدهما وهو يرقص، كان ذلك مفاجأة لكمال الصغير الذي كانت صورة والده عنده مثالية، كان يراه الأب الشديد الحريص على الأخلاق، فقال لأخيه ياسين (عبد المنعم إبراهيم) وهو مذهول: هو أبوك كده.
في الحوار كان يجب أن يقول عبد المنعم إبراهيم وهو يسايره في الذهول: “آآآآه” ولكن عبد المنعم غيَّرَ وقال: (دااا كده وكده)، وكان هذا التغيير أكثر انسجاما مع المشهد نفسه فكان أن صفق له المخرج (حسن الإمام) بعد أن استغرق كل من في الاستديو في الضحك، وحدثني العلايلي أيضا عن محمود المليجي، قال: كان فنانا مرعبا، وكنت أخاف من النظر في عينيه، وكانت له سطوة غريبة، وحضور غير عادي، ثم استطرد قائلا: ربنا أنزل لنا المليجي من السماء يا عم ثروت علشان نعرف يعني إيه فن ويعني إيه تمثيل.
وكان آخر حوار دار بيننا منذ أيام، حيث بادرني العلايلي بالاتصال ليناقشني في مقال من مقالاتي، وتطرق بنا الحديث عن فيلم (المواطن مصري) فقال لي بعد أن رأيت المشهد الأخير لي في الفيلم وأنا أقترب من نعش إبني لأشهد تحت وطأة القهر والخوف أنه ليس ابني، أدركت أنه لم يكن أنا ذلك الذي مثَّل هذا المشهد، لابد أنه كان شخصا آخرا، فقد انخلعت تماما تماما من شخصيتي، وعشت في شخصية ذلك الفلاح المقهور، ونسيت عزت العلايلي، وبكيت بحرقة، يقينا لم أكن أنا ولكنني أدركت أن الله ألهمني لأنه إن لم يكن الفنان مُلهما فكيف يستطيع أن يؤدي مثل هذا الدور بتلك الكيفية، ثم قال لي: عزمني عمر الشريف بعد هذا المشهد على العشاء وأخبرني أن أحد المخرجين الأمريكان سيكون حاضرا ويريد أن يتعرف عليَّ، ولكنني اعتذرت لأنني كنت قد وصلت يومها إلى درجة من الإجهاد لم أصل إلى مثلها من قبل، قال لي ذلك العلايلي – رحمه الله – ثم بكا بالفعل، وكانت تلك آخر كلماته لي.