بقلم : محمد حبوشة
لاشك أن الحياة قصيرة للغاية، لكن المصائب تجعلها طويلة، ويقولون:عش رجبا تر عجباً، فالحياة حلم يوقظنا منه الموت، وهى في الواقع لا يمكن أن يكون لها طعم بلا أمل، فإننا لا نستحم في مياه النهر مرتين، والحياة قطار سريع ما اجتازه حلم، وما هو مقبل عليه وهم، بورك من ملأ حياته بعمل الخير والإبداع والتفرد، لأنه أدرك أنها أقصر من أن يضيعها بعمل الشر والتردي، وليس للحياة قيمة إلا إذا وجدنا فيها شيئاً نناضل من أجله، وربما ما يدفعنا إلى ذلك أن الحياة في حد ذاتها شعلة إما أن نحترق بنارها أو نطفئها ونعيش في ظلام، فالحياة بلا فائدة موت مسبق، والحياة في النهاية عبارة عن رواية جميلة عليك قراءتها حتى النهاية، ولكن لا تتوقف أبدا عند سطر حزين قد تكون النهاية جميلة، بل أروع مما يصبو إليه خيالك الطامح نحو الحلم.
وتلك كانت ببساطة شديدة حياة الراحل الكبير (عزت العلايلي) الذي يعد واحدا من عقد العظماء في تاريخ الفن المصري الحديث، فقد غادرنا اليوم وترك غصة في القلب، مترجلا كعادته والابتسامة لا تفارق وجهه النحيل، وصوته المتواري خلف جدار الزمن بفعل السنوات العجاف التي قضى أغلبها في القراءة والبحث والتأمل، خاصة في الغوص المحبب لديه للتاريخ الإنساني، فقد كان – رحمه الله – يقول لي دائما أن في التاريخ عظة وحكمة وعلينا أن ندركها طوال الوقت حتى نستطيع أن نكمل مسيرة تلك الحياة التي تحظى بالتفاصيل المرعبة والحكايات المعقدة، ومن ثم فإن قراءة التاريخ هى ملاذنا الأخير للتعلم من تجارب الآخرين ممن سبقونا على دربها الصعب الطويل.
ولاشك أن قراءته وثقافته الموسوعية وحبه وعشق للغة العربية وعشق تراب هذا الوطن هو الذي انعكس بالضرورة على حياته التي تعد في حد ذاتها رواية مفعمة بالتفاصيل الكثيرة في مجال الإبداع الذي لايفنى (سينمائيا ومسرحيا وتليفزيونيا) لأكثر من 60 عاما قضاها في دهاليز الفن رافعا شعاره الأبدي الذي كثيرا ما ورد معناه على لسانه: (إننا نعيش لأنفسنا حياة مضاعفة، حينما نعيش للآخرين، وبقدر ما نضاعف إحساسنا بالآخرين نضاعف إحساسنا بحياتنا، ونضاعف هذه الحياة ذاتها في النهاية، ونحن مطالبون أن نحيا تلك الحياة كما هى، وليست الحياة بعدد السنين ولكنها بعدد المشاعر.. لأن الحياة ليست شيئاً آخر غير شعور الإنسان بالحياة، ولا يغرنك إرتقاء السهل، إذا كان المنحدر وعراً.
كان بشوشا دائما
كان الراحل العظيم في كل مرة ألتقيه عن قصد أو أراه مصادفه يبدو بشوشا متفائلا مليئ الثقة في مستقبل هذا البلد الذي يراه عظيما وصاحب حضارة علمت البشرية منذ فجر التاريخ وحتى اليوم، ومن ثم يرى أن التشاؤم هو تسوس الحياة، فلا حياة عنده مع اليأس، ولا يأس مع الحياة لديه، فالمتشائم من وجهة نظره لا يرى من الحياة سوى ظلها، كل شئ يتغير في الحياة إلا قانون التغير نفسه، وكان لديه إيمان عميق بأن العقل هو جوهر الإنسان وهو الإنسان الحقيقي المفكرالشاعر المتأمل الباحث في ألغاز الحياة، ولذا كانت كل لحظة في الحياة لديه هى طلقة لا مرئية تقترح الموت بقدر ما تهب الحياة، إنطلاقا من إدراك عميق بدا لي كثيرا من نظرات عينيه المسكوة بالرحمة والحنين والتفاؤل غير الحذر بأن الحياة قصيرة ولا تستحق أن نهدرها في مكان أو مع أشخاص لا يمنحونا المناخ الذي يحفزنا للإبداع، فهى تمنحك سرها متأخرا حين لا تكون قادرا على العودة للخلف.
الحياة عند راحلنا القدير في فنه والعظيم في تأثيره هى أيضا وفضلا عما سبق من تعريفات وضعها نصب عينيه، هى أردية مختلفة الألوان و في كل مناسبة ترتدي فستانا وتواريه لتعيد موضته في زمن آخر، هكذا كان يراها بحس الإنساني وشغفه الفني بأنها تغدو في أوقات مملة كئيبة، ومع ذلك نضعها على ظهورنا وندور، وكان دائما ما يقول لي أنا أطفو على هذه الحياة ولا أعيش فيها، متسائلا : كيف يمكن أن يكثف وجود إنسان ما الزمن والحياة لهذه الدرجة، أنا لا أبني مواقفي في الحياة على عدد المؤيدين والمعارضين لفني، إن الحياة النفسية كدفتر التاجر ليست العبرة بضخامة أرقامه، ولكن بالباقي بعد الجمع والطرح، أن حياة الإنسان لا تقاس بطول السنين بل بعرض الأحداث والمعنى النهائي للفن أن يكتشف الخصوصية الإنسانية في الناس الذين أسأت إليهم الحياة، إن الحياة معجزة أكثر منها ظاهرة، توجد أوضاع في الحياة الإنسانية قد يوقظ فيها التفكير بالموت نوعاً من الرغبة، يخلص الروح من الشلل.
أذكر ذات مرة ونحن نتحدث عن أوضاع مصر الحالية قوله لي: إني لأعجب من الذي يظن الحياة شيئاً والحرية شيئاً آخر، ولا يريد أن يقتنع بأن الحرية هى المقوم الأول للحياة وأن لا حياة إلا بالحرية، الحرية هى الحياة، ولكن لا حرية بلا فضيلة، وضرب مثلا في ذلك قائلا: في حياة المرأة ثلاث رجال: الأب وهو الرجل الذي تحترمه، والأخ وهو الرجل الذي تخافه، والزوج وهو الرجل الذي يحبها وتحبه، الحياة في نظر الطفلة الصغيرة صياح وبكاء وفي نظر الفتاة اعتناء بالمظهر وفي نظر المرأة زواج وفي نظر الزوجة تجربة قاسية، أريد من الطالب أن يظهر اهتماما ورغبة في البحث عن الجواب، أنتم كجيل شاب تريدون أجوبة جاهزة والحياة ليست هكذا، وإنما سر الحياة هو أن تبذل في سبيل غاية، الحياة أمانة يعهد لك بها لايحق لك يوم تسترد منك أن تحتج لأنها في الحقيقة ليست ملكك.
ثقافة وحرفية فطرية
نعم أيها الراحل العظيم صدقت في كل ما قلت على لسانك، فأنت واحد من هؤلاء الفنانين الذين لم يكتفون بالموهبة والثقافة الفطرية والدراسة الأكاديمية، وإنما أضافوا إلى جانب إبداعات حرفيتهم، الجانب الأخلاقي والإنساني، ولهذا استحقوا النجومية وتميزهم بإبداعات وتألق حرفيتهم الفنية، وأنت أيضا واحد من النجوم الذين اختاروا (الصدق والالتزام واحترام الذات) رفقاء مشواره في عالم الفن الذي قدمت خلاله مجموعة من الأعمال المتميزة التي مست قضايا وطنك وأمتك العربية بجانب مشاركته في بطولة أهم ما قدم من دراما عسكرية واجتماعية ودينية، سواء على شاشة السينما التي قدم الراحل الكبير لها أفلاما مثل (الأرض – السقا مات – أهل القمة – القادسية – المواطن مصري – الطريق إلى إيلات)، أو على شاشة التلفزيون في مسلسلات مثل (الطبري – عبدالله النديم – أبو عبيدة الجراح – حرس سلاح – خان القناديل).
عزت العلايلي – رحمه الله – كان صاحب الأداء الاحترافي الذي تشعر من خلاله أنه كالسهل الممتنع، مما أهله للاستحواذ على حب وتقدير الجماهير الفنان القدير، وهو الذي عاش لأكثر من 60 عاما على خشبة المسرح والسينما والتليفزيون، قابضا على جمر عشقه لتراب هذا الوطن، لإنه ممثل حقيقي – بحسب رؤية المخرج الروسي قسطنطين ستانسلافسكي – ذلك الممثل الذي يندمج في دوره، فيعيشه بكل جوارحه الشعورية واللاشعورية، ويؤدي دوره عن طريق المعايشة الحقيقية القائمة على الصدق الفني، والإيمان بالدور الذي يؤديه.
ومن ثم، يعتمد هذا النوع من الممثلين على قدراته الداخلية التي تتمثل في العقل، والإرادة، والشعور، والتخيل، والتخييل، وكلها صفات تؤهله للبحث عن الهدف الأعلى للعمل الدرامي، ومن ثم فهو يستخدم العقل الواعي والعقل الباطن معا من أجل الوصول إلى الفكرة الرئيسة للموضوع، مع خلق فلسفة العمل اعتمادا على قواه الداخلية الإبداعية، والتكيف مع الظروف بغية تحقيق التواصل مع الآخرين، والاشتباك معهم ذهنيا، ووجدانيا، واجتماعيا ،وحركيا.
اختار الصدق والالتزام
وإذا كان التمثيل يقترن – عند ستانسلافسكي – بمجموعة من المبادئ النظرية والتقنيات التطبيقية التي تسعف الممثل في أداء دوره أداء جيدا، وتساعده على استيعاب دوره، وفهمه فهما دقيقا من أجل ترجمته مسرحيا وسينمائيا وتليفزيونيا، وتشخيصه بشكل احترافي ودقيق بحيث يرضي الجمهور ويقنعه إقناعا جيدا، فإننا يمكننا اعتبار (عزت العلايلي) واحدا من النجوم الذين اختاروا الصدق والالتزام واحترام الذات منذ مولده في حي باب الشعرية بالقاهرة، فقد ولد (عزت حسن العلايلي) والذي عرف بعد دخوله مجال التمثيل باسم (عزت العلايلي) لأب يعمل محاسبا، بينما كانت والدته ربة منزل ولديه خمس شقيقات إناث هن (عصمت وعفت وعنايات ونجوات وفاطمة)، وفي طفولته كان يقوم ببناء مسرح بداخل الشقة التي يسكنها، بعد خروج والديه ويسمح للجيران بمشاهدة ما يقوم به من عروض ومونولوجات مقابل (قرش)، وكان وقتها حريصاً على الفن والسينما والمسرح، وكان يشاهد أعمال يوسف وهبي ونجيب الريحاني
لعبت الصدفة دورها في أن تدفع به للانخراط في أول عمل الوطني، ففي عام 1950 قرأ عزت العلايلي إعلانا أمام مكتب أحد المحامين في حي السيدة زينب، يطلب من الراغبين بالتطوع مع الفدائيين بالإسماعيلية تسجيل أسمائهم للمشاركة، ووقتها قرر المشاركة وذهب إلى الإسماعيلية، وساهم بالفعل في نقل السلاح إلى الفدائيين هناك، ولكن بعد محاولة اغتيال جمال عبد الناصر في منطقة المنشية بالإسكندرية في عام 1954، تم إلقاء القبض عليه وإيداعه السجن لمدة 3 أشهر، وذلك بعدما تبين أن المحامي الذي سجل اسمه عنده ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين، لكن تم الإفراج عنه لاحقاً واعتبر فترة السجن مهمة في حياته حيث تعرف على كبار المفكرين والمثقفين في هذا الوقت.
عمل معدا للبرامج
وبعد تجربة السجن القاسية ركز (العلايلي) على دراسته حتى تخرج من المعهد العالي للفنون المسرحية في عام 1960 إلى أن بدأ حياته من ماسبيرو بعمله معداً للبرامج، وذلك كي يتمكن من رعاية شقيقاته بعد وفاة والده، وكان أول برنامج يشارك في إعداده هو (رحلة اليوم)، والذي قام من خلاله بجولات في محافظات مختلفة في مصر، لكن ظل حلم التمثيل يراوده حتى حصل على فرصة بالظهور في مشاهد قليلة ضمن فيلم (رسالة من امرأة مجهولة)، والذي قدمه (فريد الأطرش ولبني عبد العزيز، ولأنه لفت الأنظار إليه عبر تلك المشاهد القصيرة فبعدها بعام شارك في فيلم (القاهرة) وهو إنتاج مصري – بريطاني مشترك، وقدم بعدها أفلام: (الجاسوس – الرجل المجهول – السيد البلطي – معسكر البنات – قنديل أم هاشم – 3 وجوه للحب) ومسلسل (أبداً لن أموت)، حتى وصل إلى حقبة النجومية بفيلمه (الأرض) مع الرحل الكبير يوسف شاهين
كانت هذه هى الإنطلاقة الحقيقية لعزت العلايلي نحو النجومية والتفرد تحديدا في عام 1970 ، بعد أن شارك بشخصية الفلاح المقهور (عبد الهادي) في فيلم (الأرض) أمام محمود المليجي ويحيى شاهين، وذلك باعتبار أن هذا الفيلم يعتبر علامة من علامات السينما المصرية وفي هذه المرحلة، أيضا قدم (العلايلي) العديد من البطولات سواء على مستوى السينما أو المسرح وحتى التليفزيون، فشارك في أفلام مثل: (شلة الأنس – خائفة من شيء ما – عيب يا لولو عيب – سأكتب اسمك على الرمال – زائر الفجر- الناس والنيل – الأبرياء – لا تتركني وحدي – على من نطلق الرصاص – السقا مات)، والفيلم الجزائري (طاحونة السيد فابر)، ومسلسلي (وآه يا زمن، واللص والكلاب) ومسرحية (أولادنا في لندن ).
وهج فني في الثمانينيات
كان (العلايلي) ينافس في فترة الثمانينيات مجموعة من نجوم السينما الشباب وعلى رأسهم محمود ياسين، فضلا عن العمل مع كبار النجمات آنذاك، فقد شارك في فيلم (الاختيار) أمام سعاد حسني، و(ذات الوجهين) أمام شادية، وحصل على البطولة أمام العظيمة فاتن حمامة في فيلم (لا عزاء للسيدات)، وبالرغم من أدواره الرومانسية والشخصية الرصينة التي كان يقدمها طوال الوقت، لكنه قدم خلال مشواره فيلما عرف بجرأته بعنوان (ذئاب لاتأكل اللحم) في فترة الثمانينات أيضا استمر وهج (عزت العلايلي) وظل القاسم المشترك للعديد من الأعمال الناجحة منها : (الأقوياء – اللعبة القذرة – أهل القمة – وقيدت ضد مجهول – القادسية – المجهول – الإنس والجن – الطاغية – البنديرة – دقة زار – التوت والنبوت – المطاردة الأخيرة – الورثة – لا تدمرني معك – قفص الحريم – عذراء وثلاثة رجال – قفص الحريم – الصبر في الملاحات – بئر الخيانة – غابة الرجال)، ومن المسلسلات التي قدمها خلال نفس الفترة: (الباقي من الزمن ساعة – اللقاء الأخير – وقال البحر – بوابة المتولي – شذى الأندلس – الإمام الطبري).
أما في فترة التسعينيات فقد ظل (العلايلي) على درب النجومية والإبداع والتألق كما ظهر لنا في أعمال منها فيلم (انفجار – الحب أيضاً يموت – بلاغ للرأي العام – إعدام قاضي – ليلة عسل)، لكن تألقه بدا أكثر وأكثر بتجسيده التراجيدي الرائع في شخصيته التي قدمها في فيلم (المواطن مصري)، والذي تقاسم بطولته أمام عمر الشريف، وشارك أيضاً في أفلام مهمة تعكس قضايا اجتماعية شائكة وتجسد بطولات من زمن الهزيمة ( فترة حرب الاستنزاف( مثل: (البريء والجلاد – دسوقي أفندي في المصيف – الطريق إلى إيلات – كلاب المدينة)، فضلا عن تجارب درامية على نفس النهج من معالجة قضايا الوطن التي تحتك بالشارع ومنها مسلسل (رياح الخوف – أيام الغضب – شيء في صدري – الشارع الجديد – أحلام مؤجلة)، وقد توج هذه الفترة المهمة من حياته الإبداعية بمسرحية (وداعاً يا بكوات).
ورغم مرور السينما المصرية بعدة كبوات خلال حقبتي الثمانينات والتسعينات، وظهور عدد كبير مما يطلق عليه (أفلام المقاولات)، إلا أن عزت العلايلي رفض أن يرضخ لمتطلبات (سوق الإنتاج) أو أن يقدم تنازلات حتى لو كان من أجل معشوقته السينما، فحرص على أن يبقي على التزامه تجاه فنه، حتى لو كان الثمن البقاء من دون عمل لفترات طويلة.
استراحة في الألفية الثالثة
وفي ظل استراحة محارب صلب واجه كثير من العواصف ، قرر أن يقلل من الأعمال مع بداية الألفية الثالثة، وظهور موجة جديدة من السينما والأعمال الدرامية، حيث شارك في أعمال قليلة في أفلام مثل (لا تقتلوا الحب – جرانيتا)، ومسلسلات (حرس سلاح – المهنة طبيب – لقاء السحاب -عيب يا دكتور – أمانة يا ليل – شاطئ الخريف – الحسن البصري – المنصورية)، وفي عام 2010 شارك في مسلسل (الجماعة) والذي حقق نجاحاً كبيراً وقت عرضه، وبعدها في عام 2017 قدم مسلسل (قصر الشوق) وفي عام 2018 شارك في فيلم (تراب الماس) في عودة له بعد غياب ليكمل ما يربو على الـ 60 عاماً في مشوار فني ممتد بدأه من عام 1962 وحتى الآن، وفي عام 2019 شارك بمسلسل (قيد عائلي).
المتأمل لمسيرة عزت العلايلي الفنية سيكتشف كثير من المفارقات التي قادته إلى عالم الفن، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر، أنه قال مؤخراً بأن كوكب الشرق (أم كلثوم) ساندته حين تعرض لحالة حزن شديدة، بسبب الهجوم عليه بعد عرض أحد أفلامه، فقالت له (تفتكر ربنا اللي حط فيك الموهبة ح يتخلى عنك)، ليتبدد الحزن بداخله على الفور ويقرر استكمال مشواره، ومن المفارقات العجيبة في حياته أنه على الرغم من قوله عن (يوسف شاهين) بأنه مجنون كبير بروح طفل، فقد اعتبره أحد الشعراء المهمين في السينما، ونجح بشاعريته في رسم صورة للإنسان المصري والعربي بكل إيجابياته وسلبياته، وذلك من خلال مشاركته له في العديد من أفلامه مثل: (الأرض) و(الاختيار) أمام سعاد حسني، وفيلم (إسكندرية ليه).
واسمحوا لي بالتوقف قليلا أمام محطات مهمة في حياة فنان عبقرى جسد شخصيات تعبر عن أصالة المواطن المصرى فى الكثير من الأعمال الخالدة، فمن ينسى دوره فى فيلم (الأرض) بشخصية الفلاح عبدالهادى الذى يعانى من القهر والظلم 1969، وهناك شخصية نادرة قدمها العلايلى، وربما نسيها الكثيرون فى رمضان 1973حين قدم مسلسل (أبدًا لن أموت)، والتي جسد من خلالها شخصية رجل مريض بالجديرى، وهو مرض نادر يصيب الجلد وعانى كثيرًا من هذا المرض، كما لايمكن أن ننسى دور المجرم الانسان الذى جسده عزت العلايلى فى مسلسل (خائفة من شىء ما – 1979)، حيث جسد شخصية لص ينقذ فتاة جامعية من الاغتصاب، بل ويقتل المعتدى ويحكم عليه بالسجن المخفف.
أدوار مهمة في حياته
ومن الأدوار المهمة في حياة (العلايلي) تجسيده ببراعة شخصية ضابط الشرطة الشريف (محمد) الذى يحاول التصدى للفساد، ولكنه يصطدم بالواقع المؤلم كما جاء فى فيلم (أهل القمة – 1981)، مع سعاد حسنى ونور الشريف، وعلى جانب آخر نجح أيضا ببراعة فى تجسيد شخصية ضابط المخابرات فى فيلم (بئر الخيانة – 1985)، ولا ننسى أيضًا دوره الكوميدى فى فيلم (ليلة عسل) مع سهير البابلى.
ويذكر له فى حقبة الثمانينيات تفوقه على نفسه على خشبة المسرح القومى، حينما شارك الفنان حسين فهمى بطولة مسرحية (أهلاً يا بكوات)، والتي كشفت عن إمكانات تمثيلية هائلة لعزت العلايلي، وأثبت إنه ممثل على خشبة المسرح يستطيع أن يعيش داخل نفسه أو خارجها، وإنه يعيش حياة واقعية أو حياة متخيلة، وهذه الحياة المعنوية تقدم موردا لا ينضب من مادة التركيز الداخلي لانتباهنا، والصعوبة في استخدام هذه المادة إنما تنحصر في أنها مادة هشة غير متماسكة، إن الأشياء المادية التي تحيط بنا على خشبة المسرح تحتاج إلى انتباه مدرب، أما الأشياء المتخيلة فهى تتطلب قوة من التركيز أكثر تنظيما مما تتطلبه الأشياء المادية، تماما كما فعل العلايلي في هذه المسرحية التي نجحت في استقطاب الجمهور من مختلف الفئات العمرية.
دروع وتكريات مهمة
خلال مشواره الفني نال عزت العلايلي العديد من التكريمات، حيث عرض في حفل تكريمه من المسرح القومي فيلم عن سيرته الذاتية من إنتاج المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية، وقام المعهد الدولي العالي للإعلام بإطلاق كتاب (عزت العلايلي فنان الأرض المصرية) في دورته الثالثة، وحصل على درع تكريمية من مهرجان ART وحصل أيضا على تكريم من مهرجان وهران للفيلم العربي، وكُرّم أيضاً من مهرجان أوسكار السينما العربية، وجائزة مهرجان دبي السينمائي، وأخيرا جائزة وتكريم مهرجان الأسكندرية السينمائي في دورته عام 2020 قبل شهور قليلة.
وكان من المنطقي أن يتم تتويج تلك المسيرة العطرة والمشوار الفني الثري لهذا الفنان القدير بحصوله على بعض التكريمات الأخرى، وعلى عدد كبير من الجوائز والأوسمة وشهادات التقدير المحلية والدولية، ولعل من أهمهها: مشاركة أفلامه في عدد كبير من المهرجانات السينمائية الكبرى (المحلية والعالمية)، ومن بينها مهرجانات: (كان، مونتريال، موسكو، فينسيا، برلين، لندن، نيودلهي، مانيلا، القاهرة الدولي، الإسكندرية السينمائي)، وغير ذلك من مظاهر التكريم في مهرجانات المسرح والسينما المحلية والعربية.
يجب ألا ننسى
تزوج عزت العلايلي من (سناء الحديدي) ، وأنجب منها ابنه الطبيب (محمود العلايلي)، والذي شارك من قبل في أعمال تمثيلية وإعلامية أيضا، وقد توفيت زوجته قبل أربع سنوات تقريبا، فجر السبت يوم 22 يوليو 2017 ، بعد صراع مع المرض، وبمجرد أن ماتت شريكة حياته ورفيقة مشواره في الحياه حتى طاردته الأحزان مرة أخرى بعد شهور على موت محمود عبد العزيز محبوب الجماهير، لأنه كان مدرسة كما قال، وأضاف: بأنه ترك تراثا عظيما تتعلم منه الأجيال الحالية والقادمة، وبكى أثناء إحدى المداخلات الهاتفية ولم يستطيع استكمال الحديث، وقال : لقد لقد كنت أتألم يوميا وأنا أعلم أنه يعاني من المرض في الفترة الأخيرة، واختم حديثه قائلا الله يرحمه.
ولأننا الآن أمام فنان حقيقى أبدع ورحل عن عالمنا بما كان لديه من قدرة هائلة على الابداع والتميز، فعزت العلايلى، فنان بحق كان يمتلك كنزا هائلا من الموهبة، لذا ينبغي ألا ننسى برحيله هذا الرمز الفنى الكبير فى زمن نفتقد فيه الفن الحقيقى، وإضافة إلى ذلك كله لاننسى أنه كان خير مثال للفنان المثقف الذي يعي دوره الطليعي والتنويري في المجتمع، وهو بتقاطيعه المصرية الأصيلة ومهاراته الفنية يعد واحدا من أفضل الممثلين الذين نجحوا في التعبير عن المواطن المصري المنتمي للطبقة المتوسطة أو المواطن المطحون بالطبقات الكادحة، خاصة وأنه بصدق تعبيره عن معاناته وآلامه وتعرضه للظلم والقهر يشعر المشاهد – ومنذ الوهلة الأولى – بأصالته وطيبته وقدرته على العطاء والتسامح وأيضا بكبريائه وشموخه وقدرته على التحدي، وذلك بخلاف تميزه بصوته المعبر الذي يشعر المستمع على الفور بصدق مشاعره وحجم معاناته.
وأخيرا، لا يسعني في نهاية كلامي عن سرد جانب من سيرة الفنان القدير الراحل (عزت العلايلي) إلا الدعاء لهذا الفنان المثقف والأصيل بأن يتغمده المولى عز وجل برحمته وغفرانه بقدر مسيرته العظيمة في العطاء، وإسعادنا بمشاركته في أعمال جديدة تجسد عشقه لتراب هذا الوطن الذي عاش على ترابه سنوات من عمره الطويل، وذلك عبر رحلة شاقة وطويلة من الإبداع الفني الذي سيبقى أثره خالدا في عمق التاريخ المصري.