كتب : أحمد السماحي
تمر الدراما المصرية هذه الأيام بفترة عصيبة لم تشهدها بلادنا منذ سنوات، إنها في حالة حمى، أو في حالة غليان، فدرجة الحرارة مرتفعة، ويبدو أنها أصيبت بفيروس كورونا اللعين، وقد أصيبت بهذا الفيروس من جراء العبث الحادث فيها، والأعمال المسلوقة التى لا تغني ولا تثمن من جوع، فضلا عن التفاهات، واختلاط الحابل بالنابل، واندحار القيم، والمط والتطويل، فأي بطل حلقات باستطاعته أن يؤلف قصصا ويضع نفسه على قدم المساواة مع (أسامة أنور عكاشة و محمد جلال عبدالقوي)، وأي فنانة مبتدئة لأنها متزوجة من منتج شهير، أو مخرج له كلمة، أو رجل أعمال واسع النفوذ، أو مطرب مشهور، أو ورائها (أونر) من حقها أن تصبح نجمة لمسلسل شتوي ومسلسل رمضاني، وأي مؤلف تافه ليس لديه كرامة ولا كبرياء، لكنه يسمع كلام بطل الحلقات أوجهة الإنتاج فمن حقه أن يكون مؤلفا لثلاث وأربع مسلسلات فى العام.
فأنصاف وأرباع الموهوبين هذه الأيام فى حالة (نحت) عظيمة، وأنا لا أعترض على هذا كله ولا أستطيع إيقافه، فمن حق أي إنسان أن يعتقد أنه يصلح لأي عمل، وأن يزاول هذا العمل بالطريقة التى تحلو له، كل هذا جائز فمن حق أي مواطن أن يعتقد أنه فنان، وأن يفن وأن يحاول أن يجد لفنه جمهورا.
أما الشيئ الذي أعترض عليه فى هذه الظاهرة التى جعلت من هذه الفوضى حمى ووصلت بوجداننا الفني إلى حد الهلوسة والتخريف، فهو غياب النقد الفني الحقيقي المتابع لكل هذا العبث والذي يقول كلمته بدون خوف ولا ارتعاش ولا مجاملة، فالحركة النقدية الفنية في كل العالم وكما يقول مبدعنا الكبير (يوسف أدريس): (تقف موقف الغرابيل والمناخل من الإنتاج والمنتجين، وهو موقف حيوي وخطير، فلولا الغرابيل والمناخل في المطاحن لأكل الناس الخبز مختلطا بالطوب والزلط، ولأصيب الناس بالتسمم، وعاش آخرون فى حالة عيبوبة)، فالنقد ظاهرة صحية وواجبة والجمهور والفنانيين فى حاجة ماسة له لينصلح الحال.
مي عمر مؤلفة !
هل يعقل يا سادة يا كرام أن تكون (مي عمر) – هذه الفنانة المبتدئة – كاتبة قصة وتأخذ أجركبير عن كتابتها لقصة مسلسل (لؤلؤ)، هذه القصة العظيمة التى لم نشاهدها من قبل!، والتى تحكي عن صعود مطربة من القاع إلى القمة، والمؤامرات التى تحاك حولها بالليل والنهار، ما الجديد بالله عليكم؟! فى هذه القصة التى شاهدناها من قبل في عشرات الأعمال الفنية غير أن (مي عمر) استيقظت فى أحد الليالي من نومها وهى مبتسمة، ووضعت النظارة على عينيها كأي مثقفة كبيرة وقالت على طريقة (أرشميدس): وجدتها .. وجدتها! فقال لها زوجها المخرج (محمد سامي): ايه يا حبيبتي لقيتي ايه؟!، فقالت قصة هتكسر الدنيا يا حمادة؟، فحكت له هذه القصة العظيمة!، فهرش في رأسه وقال لها وهويرفع بنطلون بيجامته وهو سعيد بزوجته المؤلفة النابغة: دي فعلا قصة جديدة لم نشاهدها من قبل، تعالي ننام وبكره نعملها!.. ومن ثم يكتب لها السيناريو محمد مهران.
إنجي علاء وكوفيد 25
الأمر لم يتوقف عند (مي عمر) فقد سبقتها المؤلفة اللوذعية (إنجي علاء)! فنظرا لأهمية النجم (يوسف الشريف)، ولأنه نجم محبوب وتنتظره الجماهير من رمضان لرمضان وهى تهتف باسمه في الشوارع والحارات، فلماذا لا تنتقل زوجته (إنجي علاء) من مرافقة لزوجها فى الاستديوهات خوفا عليه من السرقة أو اللطش من إحدى زميلاته، أو من المعجبات، إلى مصممة الأزياء الخاص به، على الأقل تجيب أجرة مكياجها وبنزين سيارتها، ثم يتطور الأمر بعض الشيئ وتصبح مصممة الأزياء في مسلسلات زوجها، ثم يتطور الأمر أكثر وتصبح مؤلفة ولمالا؟!، طالما تجد أن المشاهد تكتب أمام أعينها فى الاستديو من قبل المخرج وجهة الإنتاج، ومؤلف العمل لا حول له ولا قوة، يسمع ويطيع وهو يدعو الله أن تستمر (السبوبة) وتمر على خير ويرزقه بأخرى!، فلماذا لا تكتب ويوسف حبيبها هيساعدها ولن يتركها؟! وبالفعل تكتب ونرى عجائب وغرائب وأعمال ما أنزل الله بها من سلطان.
ولا يتوقف الأمر عند هذاالعبث والتفاهه والسطحية، ولكننا نجد مسلسلات لا تصلح تكون سباعية إذا بنا نجدها بقدرة القادرأعمال تترواح من 45 و60 حلقة، وطبعا بطل الحلقات وكما حدث في مسلسل (ضربة معلم) على سبيل المثال يلف ويدور على مدى حلقة كاملة يسأل أهل الحارة قوليلي يا خالتي أمي ما أستلفتش منك فلوس قبل ما تموت؟!.
هذه الإفرازات الكتابية التافه التى تخرج متنكرة على هيئة (فن) يعود المجتمع ويبتلعها بحكم حاجته إلى استهلاك الفن، مثل المريض الذي يعود لابتلاع طفحه المرضي!.
الكارثة الكبرى
الكارثة الكبرى أن كل هذا يحدث فى الدراما المصرية التى أنجبت (عبدالمنعم الصاوي) صاحب خماسية الساقية (الضحية، والرحيل، والنصيب والتوبة) و(أسامة أنور عكاشة) الذي أمتعنا بـ (على أبواب المدينة، المشربية، الحب وأشياء أخرى، وأدرك شهريار الصباح، أنا وأنت وبابا في المشمش، الراية البيضا، وقال البحر،عصفور النار، رحلة أبو العلا البشري، وما زال النيل يجري، ضمير أبلة حكمت، الشهد والدموع ، ليالي الحلمية ، أرابيسك، زيزينيا، امرأة من زمن الحب) وغيرها، و(محمد جلال عبدالقوي) الذي علمنا الإنتماء لبلادنا أكثر من خلال روائعه (الرجل والحصان، أولاد آدم، المال والبنون، سوق العصر، والليل وآخره، حضرة المتهم أبي، علي باب مصر، شرف فتح الباب، هالة والدراويش، نصف ربيع الأخر) وغيرها.
ويسري الجندي صاحب صاحب الروائع الخالدة (السيرة الهلالية، الطارق، جحا المصري، رابعة تعود، حروف النصب، جمهورية زفتى، سامحوني ماكانش قصدي) وغيرها، ووحيد حامد صاحب (أحلام الفتى الطائر، أوراق الورد، سفر الأحلام، الجوارح، البشاير،العائلة، الجماعة) وغيرها.
ولن نذكر كل مؤلفي الدراما الكبار بالطبع الذين هذبوا أخلاقنا وعلمونا الحب والأنتماء، وزرعوا في وجداننا حب الثقافة حتى لا نطيل، لكن ما نريد أن نقوله أن ما يحدث من (هلس) هذه الأيام يأتي على حساب فننا ورياداتنا الفنية، رغم أنه يوجد قائمة رائعة من المؤلفين الرائعين جالسين فى منازلهم وأعمالهم لا ترى النور فى مقدمتهم (يسري الجندي، كرم النجار، بشير الديك، محمد جلال عبدالقوي، محمد حلمي هلال، محمد السيد عيد) وغيرهم هؤلاء الكتاب الذين أمتعونا بروائع الأعمال الفنية، ولديهم أعمال جديدة مكتوبة حبيسة الأدراج!.
الكلمة
وفى النهاية لا نملك غير أن نختم موضوعنا بمونولوج (الكلمة) للكاتب العظيم (عبدالرحمن الشرقاوي) الذي كتبه في مسرحية (الحسين شهيدا) والذي يقول فيه:
أتعرف ما معنى الكلمة..؟
مفتاح الجنة فى كلمة
دخول النار على كلمة
وقضاء الله هو الكلمة
الكلمة لو تعرف حرمة
زاد مذخور
الكلمة نور
وبعض الكلمات قبور
بعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النُّبل البشرى
الكلمة فُرقان ما بين نبى وبغي
بالكلمة تنكشف الغمة
الكلمة نور
ودليل تتبعه الأمة
عيسى ما كان سوى كلمة
أضاء الدنيا بالكلمات وعلمها للصيادين
فساروا يهدون العالم!
الكلمة زلزلت الظالم
الكلمة حصن الحرية
إن الكلمة مسئولية
إن الرجل هو الكلمة
شرف الرجل هو الكلمة
شرف الله هو الكلمة.
الله عليك يا مبدع أحسنت القول فعلا رحمة الله على هؤلاء المبدعين كتاب الدراما العظماء