الست
بقلم: محمود حسونة
الفن الحقيقي والصادق لا يموت، والشخصيات العظيمة لا تفارق عقولنا ومشاعرنا حتى لو مرت عقود وعقود على رحيلها، والكلمة الهادفة لا يسقط تأثيرها بفعل الزمن ولا يلغي سحرها التقادم، والأفعال النبيلة يظل الناس يتذكرونها ويتحدثون عنها حتى ولو بشكل موسمي.. هذا هو باختصار ما يقفز إلى العقل والوجدان في ذكرى رحيل سيدة كانت أهم من الرجال في حياتنا، وفنانة أعطت للفن سمواً فارتقت إلى مرتبة الزعماء والقادة؛ إنها السيدة أم كلثوم التي يمر الأربعاء المقبل ٤٦ عاماً على رحيلها.
٤٦ عاماً بمقياس الزمن فترة طويلة وبمثابة عمر، ورغم ذلك لم يطفئ الغياب بريق سيرة أم كلثوم ولا سحر أغنياتها التي لا تزال تصدح في الإذاعات العربية من المحيط إلى الخليج، وما زال يحلو لقطاع عريض من الناس السهر معها، وتستحوذ على المساحة الأكبر في برامج المواهب والمسابقات الغنائية، كما تبث أغنياتها إذاعات أجنبية باعتبارها (معجزة الغناء العربي) منذ الأربعينات من القرن الماضي، وقد وصلت الوقاحة الإسرائيلية إلى حد تخصيص إذاعة لأغنياتها، وإطلاق اسمها على شوارع رئيسية في أهم مدن الكيان الاسرائيلي، وهي لعبة وراءها أهداف سياسية خبيثة.
أم كلثوم، الفلاحة البسيطة التي جابت مدن مصر وقراها إنشاداً وغناءً، وكانت وسيلتها الرئيسية للتنقل من قريتها طماي الزهايرة إلى القرى الأخرى هي الحمار، ثم القطار في مرحلة تالية للغناء في المدن البعيدة، جاءت إلى القاهرة بناء على نصيحة الشيخ أبو العلا محمد لتقلب موازين الغناء، وليطفئ وهجها بريق نجوم غناء مصر وقتئذ، ولتفشل مؤامرات منيرة المهدية وغيرها بفضل قوة صوت هذه الريفية وسحر موهبتها وفرادة شخصيتها؛ ومع قيام ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ تحولت إلى صوت الثورة المجسد للحلم العربي.
شخصيتان حظيتا بشبه إجماع عربي عبر التاريخ هما جمال عبد الناصر وأم كلثوم، فعندما كان عبد الناصر يلقي خطاباً، كان الناس في مختلف الأقطار العربية ينتظرونه ويلتفون حول المذياع للاستماع إليه، والأمر نفسه حصل مع أم كلثوم التي كانت تجمع العرب حول إذاعة صوت العرب مساء الخميس الأول من كل شهر، للاستماع إلى جديدها والاستمتاع بصوتها، وكانت هي السهرة التي تنتظرها العائلة العربية بكل أفرادها وتعد لها العدة باعتبارها المساحة الأهم للترفيه والتحليق مع الصوت واللحن والكلمة والمعنى والقيمة التي ترتقي بالمشاعر وتسمو بالأحاسيس.
كانت أم كلثوم هي صوت مصر ووجدان العرب ولَم تكن مطربة تغني، بل زعيماً يقود، ويؤثر، ويعبر عن هموم الوطن وأحلامه، وعندما تعرضت مصر للعدوان الثلاثي عام ١٩٥٦، غنت (والله زمان يا سلاحي) فغناها كل المصريين والعرب لتتحول إلى نشيد مصر الوطني وقتئذ؛ لعبت دوراً مهماً في شحذ همم الناس لمواجهة أعداء الوطن والمتربصين بالثورة، وبعد نكسة ١٩٦٧ لم تقبل بالهزيمة بل قررت أن تجوب العالم العربي وفرنسا لإحياء الأمل ودحر اليأس من نفوس الناس وجمع التبرعات عبر إحياء الحفلات للمجهود الحربي، لتكون الإنسان أو الفرد الذي يقوم بمجهود لا تقوم به سوى دول؛ كانت أم كلثوم شخص بحجم وطن يسكن في مشاعر المصريين والعرب، وتلك الحفلات خير دليل، حيث استقبلها الناس والقادة في كل عاصمة عربية ذهبت إليها استقبال الزعماء، ولَم تقتصر رحلاتها على الغناء فقط بل تم إعداد برنامج لكل زيارة تتضمن لقاءات وزيارات لمؤسسات وهيئات وحفلات عشاء وتكريمات كما الزعماء والمسؤولين الكبار.
قيمة أم كلثوم تجاوزت الحدود العربية، وامتدت شهرتها إلى العالم الخارجي، وعندما سافرت إلى فرنسا وغنت في باريس ضمن حفلات المجهود الحربي قال لها الرئيس شارل ديجول (لقد لمست بصوتك أحاسيس قلبي وقلوب الفرنسيين جميعاً). وفِي عام ٢٠١٧ أصدر الصحفي الفرنسي روبرت سوليه كتاباً مهماً بعنوان (هؤلاء بنوا مصر) عن دار بيرن للنشر، تحدث فيه عمن اعتبرهم بناة مصر من القادة مثل محمد علي ونابليون بونابرت وجمال عبدالناصر وأنور السادات وحسني مبارك، ومن بين مشاهير الفن والأدب اختار سيدة الغناء العربي وحدها، معتبراً أن دورها في مصر لم يكن أقل من دور أي من هؤلاء القادة. ومما قاله روبرت سوليه عنها في الكتاب: (إن الإرث العظيم الذي تركته أم كلثوم للموسيقى العربية كان ثمرة ذكاء فني كبير، ذلك أن كوكب الشرق استبقت عصرها وكانت تعرف الأنماط الفنية الطربية التي تلقى الإعجاب. فقد كانت أيقونة يتسابق إليها أفضل شعراء الأغاني والملحنين الذين عاصروها، ومكنتها شخصيتها القوية من فرض نفسها في خضم مجتمع فني ذكوري، كما أن نوعية الملابس التي ارتدتها كانت تنم عن روح حداثية كبيرة، مثلما أنها ظلت تغني الحب وتعلي هذه العاطفة السامية في مجتمع مصري وعربي يظل في جوهره محافظاً).
الست، كوكب الشرق، سيدة الغناء العربي، كلها ألقاب أطلقت على أم كلثوم، وكلها تعبر بصدق عنها كإمرأة قوية تدرك جيداً مكانتها وتعرف ما تريده وما يريده منها الناس، فهي (الست) في المعنى المطلق، وهي كوكب بحجم الكوكب في الشرق، وهي في الغناء العربي سيدته التي لم ينافسها أحد فيه رغم مرور ٤٦ عاماً على وفاتها.
mahmoudhassouna2020@gmail.com