عندما أحب الإيرانيون العلايلي بسبب الأرض !
بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
منذ سنوات كنت مع آخرين في مهمة سياسية ما في موسكو، وكان برفقتنا الفنان الكبير عزت العلايلي، وكانت المفاجأة أن للعلايلي شعبية كبيرة في روسيا، وحينما قابلنا مساعد وزير الخارجية الروسية ثم رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الدوما (البرلمان الروسي) وعددا آخرا من كبار الساسة الروس وجدناهم جميعا يعرفون عزت العلايلي ويقدرونه تقديرا كبيرا، لم يُثر هذا الأمر دهشة العلايلي وإن كان قد أدخل في قلبه السعادة، وعندما انتحيت بالعلايلي جانبا في الفندق أخبرني عن ذكريات كثيرة في تجربته الفنية ورأيه في كبار الفنانين الذين عمل معهم، وكان تقديره للفنان عبد المنعم إبراهيم كبيرا، حتى أنه قال لي لفظا: هذا الرجل عليه رحمة الله ذو موهبة طاغية، ثم جرنا الحديث عن شعبيته التي رأيتُها في روسيا، فقال لي إن السبب هو فيلم “الأرض” الذي تشارك في بطولته مع الفنان المبدع محمود المليجي وأخرجه مخرج غير عادي هو يوسف شاهين، ثم حكى لي العلايلي عن أنه فوجىء أثناء سفره في السبعينيات لطهران لحضور مهرجان سينمائي بالجماهير تستقبله وكأنه أحد أبطال العالم الكبار، وعندما أراد أن يستجلي الأمر عرف أن السبب هو أنه في مشهد إخراجه للبقرة التي وقعت في الساقية زعق قائلا: يا حُسين، وذلك كعادة الشعب المصري البسيط المحب لآل البيت، ولذلك نال مكانة كبيرة عند الشعب الإيراني.
ولأنني كنت صغيرا وقت عرض فيلم الأرض في السينما لذلك لم يسعدني الحظ بمشاهدته في السينما ولكنني شاهدته في التلفزيون في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وحينما شاهدت الفيلم مرة أخرى عرفت مدى وطأة الظلم على النفس الإنسانية، وداخلني حزنٌ على ذلك الفلاح الفقير الذي لم يستطع الدفاع عن نفسه حينما تم سحله وجره جرا ويده تتمسك بأرضه، ولا استطاع بالبداهة الدفاع عن أرضه وهى تُسلب منه، وقد كان هذا دافعا لي للدخول إلى كلية الحقوق وتفضيلي للعمل بالمحاماة عن أي وظيفة أخرى، صحيح أن الأحزان ظلت وستطل تنتابني وأنا أشاهد هذا الفيلم، ولكن الحزن ليس شرا، فثق أنه عندما تناوشك الأحزان ستصفو نفسك وترتقي.
كنت أنظر لشخصية (أبي سويلم)، إنه ذلك الفلاح المصري الذي كان يعيش في قريته آمنا مطمئنا في ثلاثينيات القرن الماضي، إذا نظرت إليه ستعرف أن الشمس قد لوَّحت وجهه وأكسبته سمرة نيلية محببة، وفي شيخوخته أصبح وجهه متغضنا مليئا بالتجاعيد، ولكنه ظل محتفظا بنظرة عينيه اللامعة البراقة التي تنكسر أمامها كل العيون، وكأنه جمع حياته كلها في عينيه، وحينما تراه ماشيا ستلحظ انحناءة خفيفة في أعلى ظهره، ولا يغرنك الشيطان فتظن أن هذه الانحناءة أصابته لأنه تعود على الخضوع للأكابر والإقطاعيين، فهو في الحقيقة لم يخضع إلا لله، ولم ينحن إلا أثناء ركوعه في الصلاة التي كان يؤديها في مصلاه الذي أنشأه على ضفاف الترعة، ولكنه اكتسب تلك الانحناءة عندما كان ينحني على أرضه عبر سنوات عمره لكي يهدهدها بفأسه ويبعث فيها الحياة، فتنفتح مسامها لكي تستقبل الماء، وما كانت أرضه هذه إلا بضعة قراريط ولكنها كانت شرفه، ففي تلك الفترة من حياتنا كانت أرض الفلاح هى شرفه، حتى أن الذي يبيع أرضه كان يُعيَّر، وكنت تسمع الأطفال وهم يقفون أمام داره الطيني وينشدون معا “عواد باع أرضه يا ولاد على طول وعرضه يا ولاد” نعم، هذه أغنية كنا نغنيها ونحن صغار، أما أبو سويلم الفلاح المصري الأصيل فلم يكن مثل عواد الذي باع أرضه ولن يكون، ولذلك لم يغن له أحد تلك الأغنية.
كان (محمد أبو سويلم) مثل شجرة الصفصافة التي زرعها في شبابه على حدود أرضه، ثم نمت وأينعت وأخذت فروعها تطاول السماء، وحينما مرت عليها العقود امتد جذرها في باطن الأرض، حياتها بين السماء الذي استقبلت فروعها، وباطن الأرض التي احتضنت جذورها، إذا خلعتها من جذرها ماتت، هذه الشجرة هي توأم حياة محمد أبو سويلم، يجلس تحتها فتأتي إليه ابنته (وصيفة) وهى تحمل منديل الطعام، فيأكل بضع لقيمات من ذلك الخبز الفلاحي المرحرح بعد أن يغمسهن في المش، أو الجبن القديم، مع فحل البصل، وبعض الجرجير والجعضيض، ثم يشرب من القُلة التي انكسر جزءٌ من حافتها، وبعد أن ينتهي من شرابه يمسح فمه بكمه ويحمد الله على نعمه الوفيرة، ومع أصحابه في هدأة الليل يجلس (أبو سويلم) يمسح معهم تعب النهار، يشربون الشاي الثقيل الذي ذابت فيه أقماع السكر، ويستعيدون ذكريات زمنهم الذي ولَّى.
ورغم ظهور شخصيات أخرى بجوار (محمد أبو سويلم) في فيلم الأرض وكلها تمثل الأنماط التي تعيش في القرية، إلا أن شخصية (أبي سويلم) حجبت عني كل الشخصيات، فقد كانت شخصية آسرة، ولكنني كرهت شخصيات أخرى وقعت في بئر الخيانة، أولئك الذين باعوا صديق عمرهم ورفيق كفاحهم من أجل أن يحافظوا على مصالحهم، إنهم في الحقيقة لم يروا إلا أنفسهم، وآهٍ من هؤلاء الذين لا يرون إلا أنفسهم فلا يشعرون بآلام الآخرين، وكما تألمت من أجل أبي سويلم، وتألمت من أصحابه، ثم أشفقت على الفلاح الشاب عبد الهادي (عزت العلايلي) الذي لم يستطع حماية الفلاح العجوز والد حبيبته وصيفة، فأخذ ينظر إليه نظرات الأسى والعجز والمأمور الظالم يسحله سحلا، وأظنني في المرة الرابعة التي شاهدت هذا الفيلم قد أحببت عبد الهادي، ورأيت نفسي في مواقف ضعفي مثل عبد الهادي وأنا عاجز عن إنقاذ مظلوم من السجن، ثم كنت مثل عبد الهادي وهو يهرع لينقذ البقرة التي وقعت في الساقية، ويصيح وهو يحملها (يااااحُسين) ليترجم حب آل البيت الذي تملك قلوب المصريين، كلَّف عبد الهادي نفسه ما لا يطيق، وكذلك فعلت، كلَّفت نفسي ما لا تطيق، ولو كان بيدي لما حملت تلك الجبال على كتفي، ولكن الإنسان لا يستطيع أن يكون إلا نفسه.
ولأن الدنيا لا تسير على وتيرة واحدة، والفقير لا يستطيع أن يهنأ بفقره إلى الأبد، فكان لا بد للظلم أن يقع على رأس الفلاح العجوز، فدنيا بلا ظلم ليست دنيا ولكن جنة، والجنة التي وَعَدَنا الله بها ليست في دنيانا، فذات مرة لعبت الأفكار برأس (محمود بك) صاحب الأراضي الشاسعة والقصر المنيف، الإقطاعي الأكبر في تلك القرية الهادئة ونواحيها، فسوَّلت له نفسه أن يشق طريقا وسط الأراضي الزراعية يصل إلى قصره، والفلاحون البسطاء لا يملكون من الحياة إلا تلك الأفدنة التي سيقضي الطريق عليها، فيقود محمد أبو سويلم أهل القرية اعتراضا على الاستيلاء على أراضيهم، والبك يملك المال ومعه السلطة، فيتم القبض على محمد أبو سويلم، ويُهان ويُضرب، ويا لوقع هذه الإهانات على قلبه وهو الذي لا يملك إلا أرضه وكرامته.
وحينما كنت أشاهد أبا سويلم وهو يتعرض للضرب كانت وجيعتي تزداد، وتعاطفي معه يشتد، ويخرج ذلك الفلاح المغلوب على أمره من محبسه وهو مثخن بالجراح التي أصابت كرامته، وتظهر علامات الإنكسار على وجهه، وتنعكس على صوته، فيأتي إلى القرية رفيق شبابه وكفاحه القديم الشيخ حسونة أحد أعيان القرية والذي أصبح يشغل موقعا دينيا في القاهرة، ويتجه إليه في أرضه ليخفف عنه، ويحاول أن يسترضي كرامته بأن الذي ضربه لم يضربه عن شجاعة، وهو لم يتلق الضربات عن ضعف، ولكن الحزن يظل يُخيم على أبي سويلم، فيحكي الشيخ حسونة لشابين من شباب البلد كانا برفقته عن شجاعة عمهم محمد أبو سويلم أثناء ثورة 1919، وكيف كانوا في السجن برفقة الشيخ يوسف “بقال القرية” لأنهم أتلفوا خط السكة الحديد الذي كان ينقل جنود الإنجليز، ويروي لهما طرفة حدثت أثناء وجودهم في السجن متعلقة بالشيخ يوسف، فيضحكون، وتعود الضحكة لوجه أبي سويلم.
وتزداد الضحكة اتساعا وهم يرون الشيخ يوسف البقال آتيا إليهم، والشيخ يوسف لا يدري ما الذي يضحكهم!!. وإذ يتحد الفلاحون يجتمع شيوخ القرية ومعهم محمد أبو سويلم ببعض الشباب ليفكروا في حل لمشكلة أرضهم التي سيستولي عليها الطريق، ويغضب أبو سويلم لأن الأمر بينهم أصبح مجرد كلام بلا فعل، فيتحسر على تلك الأيام التي ضحوا فيها وهم يُشعلون مع الثوار أحداث ثورة 1919، وكيف كانوا وقتها رجالا ووقفوا مواقف الرجولة، ويتفق بعدها الجميع على إلقاء حديد الزراعية في الترعة، ومحمود بك يبحث عن حل لتفريق جمعهم، فيعد الشيخ يوسف والشيخ حسونة والعمدة والشاب المثقف النخبوي وغيرهم بأنه سيجعل الطريق لا يمر بأراضيهم، فيخنعوا، ويحاول الجميع مساعدة البك في التأثير على أبي سويلم وشراء سكوته، ولكنه يرفض والأسى يكلل عينيه، فما هكذا كانوا وهم في فورة شبابهم، أعندما تُقبل الدنيا عليهم ينسون مبادئهم التي درجوا عليها؟ في شبابهم هانت الدنيا في عيونهم وكان من السهل عليهم التضحية بأرواحهم، وفي شيخوختهم ضحوا بمبادئهم!.
ولا أخفيكم سرا أنني مع حبي لأبي سويلم إلا أنني تمنيت أن يتنازل عن أرضه ويقبل الرشوة المقنعة لينجو من بأس هذا الإقطاعي، أتُرى كان الشيخ حسونة محقا وهو يتنازل عن مبادئه ويساوم الفلاح العجوز لكي يتنازل هو الآخر؟ أتراه كان مشفقا عليه، أم أنه كان لا يريد أن يُكلَل بالخزي والعار فيبحث عن مسوغ لتنازله بأن أقوى أهل البلد شكيمة وأكثرهم صلابة تنازل هو الآخر؟ وكلنا في الهم سواء، ولكنكم تعلمون أن أبا سويلم لم يتنازل، ومع غضبي من الشيخ حسونة كان احتقاري للشيخ يوسف بقال القرية ورفيق الكفاح، أما الشيخ حسونة فكأنه كان عندي يرمز لتيار إسلامي لا يبحث إلا عن مصالحه، قمة النفعية، بحث عن واسطة في المساحة ليتم شق الطريق بعيدا عن أرضه، ولتذهب القرية كلها بأصحابه إلى الجحيم، وكذلك الشيخ يوسف البقال التاجر الذي أراد الانتفاع من تلك الأزمة لمصلحته، فباع أهل قريته وبرر ذلك بأنه أصبح عجوزا يبحث عن مال يستر به ابنته، كرهتهما معا، وكرهت ذلك الشاب المثقف النخبوي الذي انفصل تماما عن أهل قريته، وأحببت الفلاح الفطري دياب، ولم أستعد حبي للشيخ يوسف إلا عندما فصلته عن شخصيته، ورأيته على حقيقته الشاعر الفنان الثائر (عبد الرحمن الخميسي) وكم كان ديوانه الشعري من أمتع ما قرأت من شعر في حياتي .
ويأتي يوم الوعيد، وعساكر الهجانة تطوِّق البلد ليتم شق الطريق، ويظل أبو سويلم متمسكا بأرضه، لم تهن عليه ولو لطرفة عين، فيربط عسكر المأمور أبا سويلم بفرس ويجري الفرس الذي يمتطيه المأمور رمز السلطة المستبدة، ليسحل الفلاح العجوز وأصابعه تتشبث بأرضه، وتمسك عيدان القطن الأبيض، ودماؤه تسيل عليها، وتكتب على طينها قصة فلاح مصري أصيل يعرف أن الانتماء لبلده وأرضه هو الشرف، يعرف أنه هو صاحب الاتجاه الصحيح، وأن أرضه لو كانت عطشى سيرويها بدمه.