علي الحجار يعود بصوته القوي العذب إلى زمن الأجداد والأصالة الغنائية
* المجمع الثقافي بأبوظبي يحقق أخيرا حلم علي الحجار في مشروع (100 سنة غناء)
* هشام جبر أثبت عبقريته فى قيادة 50 عازفا، وفى التوزيع الموسيقي لمجموعة من أصعب الموشحات والأدوار.
كتب : أحمد السماحي
أحداث فنية عاصفة مرت علينا خلال الأسبوعين الماضيين، ودعنا فيها مجموعة من المبدعين الحقيقيين الذين ساهموا بتقديم علامات مضيئة للفن المصري والعربي يصعب نسيانها، وستظل طوال الزمن محفورة في وجدان أجيال وأجيال قادمة، وهم المبدعون فنا وخلقا (حاتم علي، وحيد حامد، إلياس الرحباني، هادي الجيار)، هذه الأحداث جعلتنا نؤجل الكتابة عن واحدة من أهم حفلات الموسيقى والغناء التى شاهدناها واستمعنا لها في السنوات الأخيرة، وهى الليلة التى حقق فيها مطربنا الكبير (علي الحجار) أحد أيقونات الغناء المصري العذب الجميل، وأحد أعمدة الفن الأصيل الذي كان ولا يزال يغني التراث العربي الأصيل، ويحقق حلمه الغنائي.
هذا الحلم الذي عشته معه منذ سنوات طويلة ومنذ ارتبطت معه بصداقة وطيدة، وفكرنا ومازالنا في تقديمه من خلال برنامج غنائي تحت عنوان (100 سنة غنا)، هذا الحلم المرصع بألماس التراث الغنائي العربي الذي تحمست له بعض الفضائيات، وحبسته بعض الفضائيات سنوات فى أدراج الإهمال والنسيان، خرج إلى النور مؤخرا من خلال (المجمع الثقافي بأبوظبي) هذا الصرح الكبير، ضمن احتفالية مبهجة تحت عنوان (أصداء أندلسية)، تضمنت مجموعة منتقاة من أغاني التراث الراسخة في وجدان الجمهور المصري والعربي.
قدم (الحجار) في تلك الأمسية المشرقة والمشبعة بالشجن الموسيقي واحدة من ليالي (ألف ليلة وليلة)، بمرافقة المايسترو الموهوب (هشام جبر) الذي جعلته الموسيقى يرى ويسير ويفرح، إذ أضاءت قلبه فعشقها، وعزفها، واكتشف آفاقا جديدة فيها ليصبح واحدا من أهم المؤلفين الموسيقين، وقادة الأوركسترا فى مصر والعالم العربي.
أهمية هذا الحفل التراثي الذي أقامه (المجمع الثقافي بأبوظبي) ضمن برنامجه لإعادة إحياء الاغاني التراثية، تأتي من أنه تكريم للحناجر الذهبية الأصيلة في الغناء العربي، خاصة إذا كانت هذه الحناجر مثل (علي الحجار)، لهذا يجب أن نحافظ علي مثل هذا النوع من الغناء والحفلات لأنه الموروث الباقي لنا من أجدادنا، ومن خلاله نعود لجذورنا التى بدأنا ننساه فى صخب التلوث السمعي الذى نحياه حاليا.
إرجعي يا ألف ليلة
بدأ المايسترو المبدع (هشام جبر) الحفل بصوت المجموعة وهى تغني لحن الأخوين رحباني:
إرجعي يا ألف ليلة.. غيمة العطر
فالهوى يروي غليله.. من ندى الفجر
إن أشواقي الطويلة.. أقفرت عمري
وحكاياكِ خميلة.. في مدى الدهر
يا ليل الصب
بعد (إرجعي يا ألف ليلة) دخل (الحجار) المسرح وغنى بصوت يذهب العقل وتنتشي له الروح التواقة للأصالة الموشح الشهير :
ياليل الصب متى غده، أقيام الساعة موعدهُ؟
رقد السُّمَّارُ وأرّقهُ، أسفٌ للبين يردِّدُّهُ
كلفٌ بغزالٍ ذي هيفٍ، خوف الواشين يشرِّدهُ
نصبت عيناي له شركاً، في النوم فعزّ تصيدهُ.
أبدع (الحجار) فى غناء هذا الموشح الذي كتبه التونسي (أبو حسن علي الحصري) فى مدح الأمير (عبدالرحمن بن طاهر)، لكنه يحمل كلمات غزل تقليدي في التغزل بجمال المحبوبة، والحديث عن الشوق والبعد، والفراق بين الأحبة، وقد عارض هذه القصيدة أكثر من 90 شاعرا منهم (أحمد شوقي، أبوالقاسم الشابي، بشارة الخوري).
يا من حوى ورد الرياض
بعدها مباشرة قدم بتمكن شديد بغناء موشح (محمد بن الحسن الطوسي، المعروف بالخواجة) الذي يقول فيه:
يا من حوى ورد الرياض بخده
وحكى قضيب الخيزران بقده
دع عنك ذا السيف الذي جردته
عيناك أمضي من مضارب حده
كل السيوف قواطع إن جردت
وحسام لحظك قاطع في غمده
إن شئت تقتلني فأنت محكم
من ذا يطالب سيدا في عبده
تنوع وثراء المقامات الموسيقية
توالت الموشحات والأدوار التى تنوعت مقامتها ما بين الرست (يا شادي الألحان، أسمعنا رنة العيدان) لسيد درويش، ومن دولاب راست غنى موشح (ياغصن نقا مكلا بالذهب) لأبوخليل القباني، ومن مقام البيات غنى موشح (بالذي أسكر من عذب اللمى، كل كأس تحتسيه وحبب) ومن مقام حجاز كاركرد غنى (يا بهجة الروح)، ومن مقام العجم عشيران ومن ألحان (محمود صبح) شدا برائعته :
غنت لطلعته البلابل
وبكى السحاب لأجله حتى انفطر
والفل فتح بهجة لوروده
واحمر وجه الورد وانشق القمر
أنا هويت وانتهيت
لم ينس (الحجار) فى هذه الليلة الأندلسية الرائعة رائعة سيد درويش الخالدة دور (أنا هويت وانتهيت) الذى لحنه المجدد الراحل من مقام الكرد، فأمتعنا به، وجعلنا نترحم على الزمن الجميل، الذي كان الغناء يشجي ويمتع سامعيه، قبل أن يتحول الغناء لشغلة من لا شغل له، ويدب في حياتنا التلوث الغنائي، وقدم (الحجار) الدور بشكل أسعدنا، ونافس من خلاله بقوة والده (إبراهيم الحجار، وسعاد محمد) أفضل من تغنيا بهذا الدور، وجعلنا المطرب المخضرم نستعيده مرات ومرات على موقع (اليوتيوب) والذي يقول فيه :
أنا هويت وانتهيت، وليه بقى لوم العزول
يحب إنى أقول ياريت، الحب ده عنى يزول
ما دمت انا بهجره ارتضيت، خللى بقى اللى يقول يقول
أنا وحبيبى فى الغـرام، مافيش كده ولا فى المنام
أحبه حتى فى الخصام، وبعـده عنى يا ناس حرام
ما دمت انا بهجره ارتضيت، منى على الدنيا السلام.
يا غصين البان
لم يقتصر صاحب الحنجرة الذهبية (على الحجار) على هذه الموشحات والأدوار فقدم أيضا (لَحظ رنا، قوس رمى، سهما أصاب مهجتي، عين المها)، و( يا غصين البان حِرت في أمري، إنني ولهان آه لو تدري)، و(صحت وجدا يا ندامى، واصلوني وارحموني إني صب في هواكم)، و(كللي يا سحب تيجان الربى بـالـحـــلـي، واجـعــلي ســوارك، منعطـف الـجـدول).
كما قدم فى تلك الليلة الساحرة رائعته المعاصرة (على قد ما حبينا) التى كانت أولى أغنياته التى أبدعها الموسيقار العبقري بليغ حمدي، كلمات الشاعر (عبدالرحيم منصور).
لما بدا يتثنى
نظرا لصعوبة الموشحات والأدوار التى يتم غنائها، فكان (الحجار) يأخذ استراحة قصيرة ما بين موشح وآخر، وأثناء ذلك قدمت المجموعة بقيادة المايسترو (هشام جبر) عدة موشحات بشكل رائع فقدمت لسوريا المدينة التي تعاني اليوم من شدة الآلام موشح (بلاد الشام)، وموشح (يا من نشا حبه فى الحشا، فاق الظباء خطوه اذ مشا) كموسيقى فقط، وقدمت المجموعة موشح (سل فينا اللَحظ هنديا، وأَرانا القد خطيا)، كما قدمت (لما بدا يتثني) هذا الموشح التراثي الشهير الذي ينتمي إلى مقام (نهاوند بضرب سماعي ثقيل 10/8)، ويعتبره بعض النقاد أشهر موشح عربي، حيث شكل الموشح ثورة على الشكل التقليدي للقصيدة العربية من حيث البناء النظمي والفني، ويجمع الموشح بين الفصحى وتحرير الوزن والقافية.
اختلف المؤرخون في تحديد اسم صاحبه الأصلي، فمنهم من نسب النص إلى الوشاح الأندلسي لسان الدين بن الخطيب، و منهم من نسبه إلى المغني المصري محمد عبد الرحيم المسلوب، ونسب اللحن له أيضا، وتغنى به الكثير من المغنين المشهورين والفرق الموسيقية، ولكن كانت أولى التسجيلات عام 1910م مع المغني المصري (سيد الصفتي).
عبقرية هشام جبر
نجح المايسترو (هشام جبر) بجدارة في قيادة نحو 50 شخصا على المسرح، ومثل هذا العدد من العازفين والمؤدين يعني أن المسؤولية كبيرة على خشبة المسرح، وتمثلت عبقريته في التوزيع الموسيقي وإدارة ذكية لقدرات عازفيه الذين برزوا في أدائهم الجماعي المتآلف وخبرتهم الطويلة في تكوين مستويات من الميلودي الإيقاعي الموسيقي خالصين إلى مستويات لحنية مزجت بعذوبة شديدة ومهارة بين عدة قوالب موسيقية شرقية مختلفة.
كان للفرقة الموسيقية أثرا رائعا من حيث المساندة من عازفي الفرقة ليكون عشاق صوت المطرب (على الحجار) مع ذروة من ذروات التماهي مع كلمات وألحان أعادت مجد الأغنية المصرية والعربية من جديد.
الكوبليه الأخير
عندما تغني بلسان حال الناس تكون أغانيك حاضرة وباقية بوجدانهم، حفل (المجمع الثقافي) أكد أن تراث أجدادنا الخالدين نظرا لصدقه الشديد، وأصالته الرزينة باق إلى الأبد، طالما توجد جهة تحرص على تقديمه، وأصوات قادرة على غنائه، وموسيقيين قادرين على إبراز التوهج الموجود فيه، وهذا ما تحقق فى الحفل الأخير (أصداء أندلسية) عبر مسرح المجمع الثقافي بأبو ظبي للمبدع علي الحجار، والمتميز هشام جبر الذي يعمل في صمت دون ضجيج.