حقيقة الفيلم المصري آلام السيد المسيح “شهيد الجلجثة”
بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
منذ زمن بعيد وفي الثلاثينيات من القرن العشرين، أي منذ ما يقرب من تسعين عاما، انتابت الحياة الفنية المصرية جرأة غير معهودة وسط واقع رتيب يحمل عقلية سلفية بامتياز، وقد تمثلت هذه الجرأة في فيلم سينمائي إيطالي عنوانه (آلام السيد المسيح)، يتم عرضه في دور السينما، وكان هذا الفيلم يجسد شخصية المسيح عليه السلام، وقد يظن القارىء أن هذا الأمر لا يمثل شيئا ما، فالفيلم إيطالي، ولكن المثير للدهشة هو أنه لم يتم عرض الفيلم إلا بعد دبلجته باللغة العربية، ولأول مرة نسمع صوتا يؤدي دور المسيح وكان هذا الصوت هو للفنان الكبير أحمد علام صاحب الصوت الرخيم المعبر المميز، وقد قام بالأداء الصوتي لباقي أبطال الفيلم عددٌ كبير من الفنانين المصريين مثل عزيزة حلمي وسميحة أيوب وسعد أردش وتوفيق الدقن وعبد السلام محمد وعبد العليم خطاب واستفان روستي وغيرهم، وقام بكتابة المادة الحوارية الأب أنطون عبيد، وراجع المادة العلمية عميد الأدب العربي طه حسين، ووافق الأزهر الشريف على عرض الفيلم.
هذه هى المعلومات التي يعرضها معظم من قام بالتأريخ لهذا الفيلم، والغريب أن من أرخوا لهذا الفيلم لم يهتموا بالحقائق ولكنهم ساروا خلف الأكاذيب المشهورة دون أن يتحققوا من صحتها، مع أن إثبات عدم صحة هذا الأمر من الأمور الميسورة جدا، وقد آلمني أن من أرخوا لذلك الفيلم كان جل همهم أن الأزهر وافق وأن من قام بالأداء الصوتي ممثلون مسلمون، وكأننا نتحدث عن حقبة كان الفكر الديني فيها متقدما ومستنيرا مع أن العكس هو الصحيح، فلا الأزهر في أي وقت من الأوقات وافق على تجسيد الأنبياء في الدراما، وحربهم ضد يوسف وهبي عندما أراد إخراج فيلم يجسد فيه هو شخصيا سيدنا محمد – عليه صلوات الله – معروفة ومشهورة، كما أن حركة الإخوان وباقي الجمعيات السلفية قد بلغت في هذا الوقت قدرا من الهيمنة الدينية على المجتمع المصري، وما قصة كتاب الشعر الجاهلي لطه حسين وما حدث له بسببه، وقصة كتاب الإسلام وأصول الحكم للشيخ علي عبد الرازق وطرده من زمرة العلماء بخافية على أحد، ما الموضوع إذن؟!.
أول شيء واجهني وأنا أبحث في هذا الفيلم بعد أن شاهدت نسخته العربية أكثر من مرة هو أن الفنانين أصحاب الأصوات المصرية بعضهم لم يكن قد بلغ التاسعة من عمره في زمن الفيلم المزعوم، خذ عندك يا عزيزي، عبد السلام محمد الذي قام بدور رجل مشلول كان في الرابعة من عمره عام 1938، وسميحة أيوب كانت في السابعة من عمرها، وعزيزة حلمي كانت في التاسعة، وتوفيق الدقن كان في الخامسة عشر، وعفاف شاكر شقيقة شادية كانت في التاسعة من عمرها، أما مخرج الفيلم محمد عبد الجواد فوقت الفيلم كان قد بدأ في ستديو مصر كمساعد مخرج شاب، أما الانتاج فكان للشركة العربية للسينما لصاحبها رمسيس نجيب وهذه الشركة لم يتم تأسيسها إلا في الخمسينات، وكان رمسيس نجيب عام 1938 في السابعة عشر من عمره ولم تكن شركته قد ظهرت للوجود بعد!!. والمونتاج في تلك النسخة العربية التي قيل أن أصلها إيطالي كان لمحمد عباس الذي لم يدخل عالم السينما إلا عام 1949.
وهكذا سنظل نسير على هذا النحو لنكتشف أن الفيلم لم يتم عرضه في مصر عام 1938 وبالتالي لم يراجع مادته العلمية طه حسين خاصة وأن اسمه لم يذكر في المقدمة المدبلجة للفيلم، وإذا بحثنا في التاريخ الحقيقي لعرض الفيلم في مصر قد نجد مقال إشادة به من طه حسين وغيره من الأدباء والنقاد ولكن هذا لا يعني أن نأخذ هذه الكذبة على علاتها، ولك أن تلاحظ أحد كبار الكتاب العلمانيين منذ سنوات قليلة أشاد في مقال شهير نشره على صفحته في الفيس بوك بسماحة فترة الثلاثينيات الدينية وبعظمة مراجعة طه حسين للمادة العلمية للفيلم، لتكتشف من خلاله ومن خلال كثير من الكتاب والنقاد أن العقلة المصرية، أو قل العربية هي عقلية نقلية بامتياز، تنقل عن القديم دون أن تسعى إلى تحقيقه وبيان وجه الصواب والخطأ فيه، حتى من صاغوا عقولهم بطريقة علمانية يقعون في نفس أخطاء أصحاب العقلية السلفية النقلية، كلنا هذا الرجل يا عزيزي لا أُبرىء أحدا منا، ولكن والحق يقال يُحسب للناقد الكبير طارق الشناوي أنه حاول أن يحقق زمن الفيلم فسأل الفنانة سميحة أيوب فأخبرته أن ذلك كان في فترة ما من الخمسينيات.
الأمر الآخر هو أن النسخة الأجنبية للفيلم جنسيتها إيطالية، ولا أعرف لماذا خرجت تلك الكذبة، فلا الفيلم إيطالي ولا أمريكي ولا فرنسي، نعم هناك وجه للشبه بينه وبين فيلم أمريكي صامت تم انتاجه عام 1927، هو فيلم (ملك الملوك) إذ يكاد الفيلم الأجنبي (آلام المسيح) الذي تم تمصيره يتشابه في كثير من مشاهده مع فيلم ملك الملوك، وكأنه إعادة إنتاج للفيلم الصامت ولكن من خلال جعله ناطقا، وأصدقك القول أن البحث أضناني عن أصل هذا الفيلم الذي قيل إنه إيطالي، وقد أخذت حقيقة إيطاليته بشيء من الجدية، لذلك تركز بحثي عن فترة الثلاثينيات في السينما الإيطالية في بادىء الأمر، خاصة وأن المؤرخين المصريين ذكروا أن الفيلم الإيطالي كان قد تم عرضه في إيطاليا في الثلاثينيات ولقي إقبالا كبيرا، بل إن بعض المواقع الكنسية المصرية سارت على ذات الأمر، فقلت في نفسي ربما كان الخطأ قد ورد بحسن نية من خلال أن الفيلم الإيطالي تم انتاجه عام 1938 أو قبل ذلك، ولكنني لم أجد شيئا في السينما الإيطالية.
ومن ملامح الممثلين وضح أن وجوههم تشبه الوجوه العربية إلى حد كبير، فوضعت صورة الممثل الذي قام بدور السيد المسيح في الباحث الإلكتروني من خلال برنامج متخصص في هذا الأمر فاتضح أنه ممثل مكسيكي شهير جدا اسمه (أنريكو رمبال) من مواليد عام 1924 وتوفي عام 1971 وأنه مثل العديد من الأفلام والمسلسلات بالمكسيكية والأسبانية، ونال العديد من الجوائز، ومن خلال هذا الممثل وصلت للنسخة الأصلية للفيلم، اسم الفيلم الأصلي هو (شهيد الجلجثة) وبالأسبانية: El mártir del calvario وإذا تصادف أن قرأتَ في أحد الأيام أحد الأناجيل ستجد أن (الجلجثة) هي المكان الذي تقول الأناجيل إن السيد المسيح تم صلبه فيه، وفي هذا الموضوع تم بناء كنيسة القيامة، والجلجثة باللغة الأرامية تعني الجمجمة.
أما من شارك في بطولة الفيلم المكسيكي الذي تم دبلجته للعربية فهم (مانويل فابريجاس)، وهو ممثل مكسيكي شهير توفي عام 1996 والفنانة المكسيكية الشهيرة (كارمين مولينا) أما المادة القصصية والسيناريو والحوار فهو للكاتب المكسيكي (ميجل مورايتا) والغريب أن هذا الفيلم نال شهرة كبيرة وتم عرضه في مهرجان (كان السينمائي) عام 1954 ، ولك أن تلاحظ أنه في نفس العام ـ 1954 ـ حضر عددٌ كبيرٌ من الفنانين المصريين والمنتجين مهرجان كان حيث كان يعرض فيلما مصريا هو (الوحش) لرائد الواقعية المصرية صلاح أبو سيف، وفيلم صراع في الوادي لعمر الشريف وفاتن حمامة، ولكن الذي يجب أن يكون نصب أعيننا أن المنتج الكبير رمسيس نجيب كان دائما من ضمن أفراد الوفد المصري في مهرجان كان.
ويبدو أن فيلم (شهيد الجلجثة) لفت نظره وتحمس له لذلك تعاقد مع المنتج المكسيكي على دبلجته إلى اللغة العربية. ولذلك لا يمكن أن يكون قد تم عرض هذا الفيلم تحت إسم (آلام السيد المسيح) إلا في أحد عامي 1955، أو 1956، ورغم أن النسخة المدبلجة الناطقة بالعربية لهذا الفيلم قيل إنه تم حرقها لذلك فإن المعروض منها على شبكة اليوتيوب نسخة باهتة جدا، ولكنك تستطيع أن تشاهد النسخة الأصلية الناطقة بالأسبانية على اليوتيوب، حيث ستجد صورتها شديدة الوضوح والنقاء من خلال هذا الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=EmftlvRyQZA.
ولكي أعطي الحق لأصحابه، فقد وجدت كاتبا مصريا له مدونة تحمل اسمه (محي الدين إبراهيم) كان له السبق في كشف هذا الأمر من قبل، إذ عندما كنت أبحث بعد وصولي لاسم الفيلم الأصلي من خلال شبكات البحث وجدته قد كتب عام 2018 عن اسم الفيلم الأصلي، كما أنه كان سابقا في كشف اللثام عن تاريخ عرض الفيلم في مصر، ووصل إلى نفس استنتاجي عن زيف تاريخ الفيلم، ولكن ستظل بعض الأسئلة حيرى لا تجد إجابة، إذ كيف رضخ الأزهر وقتها عام 1955 على عرض الفيلم؟!، وكيف واجه عبد الناصر القوى الدينية المتشددة ووافق على عرض الفيلم في دور السينما؟! .. هذه أسئلة أطرحها هنا وأتمنى أن يسعى النقاد والمؤرخون إلى البحث عن باقي الإجابات، إذ أننا لم نكن نعيش في قارة مفقودة حتى يضيع منا التاريخ القريب جدا؟! .
وفي النهاية ثق يا عزيزي المؤمن بالله مهما كان دينك، أنك من خلال مشاهدتك للنسخة المكسيكية لفيلم (آلام المسيح) أو (شهيد الجلجثة) ستستمع جدا، وستحب المسيح، وستعشق الخير والسلام، ولكي يكتمل لك الاستمتاع لا تتوقف كثيرا عند فتاوى حُرمة تجسيد الأنبياء والرسل في السينما، فالفيلم الذي يرتفع بأخلاقياتك وإنسانيتك ويحرك مشاعرك لجدير بالمشاهدة، عليك السلام يا سيدي وحبيبي أيها المسيح عيسى يا ابن أطهر امرأة خلقها الله سبحانه، يا ابن مريم العذراء، يا حبيب كل ارتقى بإنسانيته مهما كان دينه، فقد كنت أنت إنجيلا خلقه الله في صورة بشر.