رسائل جمال سليمان المبكية لصديقه المبدع الراحل حاتم علي
كتب : أحمدالسماحي
كتب النجم العربي الكبير (جمال سليمان) على صفحته على موقع التواصل الإجتماعي كلمات صادقة فى رثاء صديقه المخرج السوري المبدع الراحل (حاتم علي) الذي رحل عنا منذ أيام قليلة، مصحوبة بصور قام (جمال سليمان) بتصويرهم أثناء عملهما معا في رائعتهما الخالدة التى لا تنسى، والتى يزيدها الزمن بريقا ولمعانا (التغريبة الفلسطينية)، جاءت كلمات (جمال) أو رسائلة مبللة بالدموع، مطرزة بالذكريات، مملؤة بالشجن، مشحونة بالوفاء، تعاطف معها كثير من الناس وبكوا وأنا واحد منهم من دفء وصدق وعذوبة الكلمات، ونظرا لأهمية ما كتبه النجم السوري الكبير الذي كون مع المبدع الراحل (حاتم علي) ثنائيا فنيا أمتعنا بالعديد من الروائع التى لا تنسى نعيد نشر هذه الرسائل.
أخي و صديقي المخرج المبدع حاتم علي
أكتب إليك و أنت في الطائرة التي تقلك إلى وطننا سوريا في عودة أبدية، وأنا هنا في القاهرة، اليوم كان وداعنا الأخير، لاأعرف متى سنلتقي ثانية، ولكن لا شك أننا سنلتقي.
كنا قد تحدثنا أنا وأنت مطولا يوم الاثنين حول العمل وأخبرتني انك ستبدأ التصوير مع بداية العام، واتفقنا أننا سنكون معا بعد يومين كي نودع العام الحالي، ونستقبل العام القادم، وتمنينا أن لا يكون بسوء هذا العام، لكن الأقدار غيرت المواعيد والخطط فلا الكاميرا ستجدك وراءها، ولا العام الجديد سيجدك في استقباله، فقد أصبحت في ملكوت آخر حيث لا أسماء ولا أرقام فيه للأيام و الشهور، ولا حدود فيه بين السنين.
رحيلك المفاجئ هذا أحدث صدمة كبيرة، وخلف حزنا ليس فقط بين أهلك وأصدقائك وكل الذين أسعدهم العمل معك وأضاف لمسيرتهم الكثير، بل في كل أرجاء الوطن العربي، الناس تنعيك بأسى شديد وتقول إنك كنت مخرجا كبيرا وإنسانا مثقفا تركت لهم تراثا فنيا استثنائيا سيعيش دائما في وجدانهم، هم محقون في قولهم هذا.
لطالما عاتبتك عن عدم رضاك عما تقدمه .. بعد كل نجاح كبير كنت تصنعه بتفانيك ودأبك وإخلاصك واهتمامك بأدق التفاصيل كنت أحزن لأنك لا تعيش فرحة النجاح كما يحق لك أن تعيشها، وكنت تقول لي: (كان من الممكن أن نفعلها بشكل أفضل)، كنت تتحدث عن عيوب لم ينتبه لها أحد، و كنت أستاء و أقول لك يا رجل الكمال لله، دعك من تلك التفاصيل واحتفل بالنجاح فأنت تستحق ذلك، و لكنك كنت ناقدا قاسيا على نفسك، كنت تحب الناس و تؤمن بوعيهم وذكائهم و كنت تؤمن بأهم يستحقون أن يعرفوا الحقيقة، وبأنك لم تفعل ما يكفي من أجل ذلك.
واليوم هؤلاء الذين سعيت لأن تمتع قلوبهم وعقولهم يقولون فيك كلمتهم التي لاشك أنها ستسعد روحك وتجعلك أخيرا تصدق يا أخي وصديقي أنك نجحت في أن تصل إليهم، وهم يقدرون ذلك، إن ما قيل فيك يثبت أن الناس هم كما كنت دائما تراهم يعرفون الفرق بين الغث والثمين، وبين الحقيقة و التلفيق، ما يقولونه بك هو تعبير عن رفضهم للتفاهة انحيازهم للقيمة.
أما نحن زملاءك في هذه المهنة فنحن ندين لك بالكثير، نيابة عنا جميعا قاتلت كي تأخذ العمل الفني إلى مستويات غير مسبوقة، وتفتح أفاقا جديدة، وتضع مقياسا جديدا لما يجب أن تكون العملية الإنتاجية والفنية عليه، لك ندين بالكثير من نجاحاتنا لأنك وضعتنا أمام تحد كبير بعد أن هيأت لنا كل الظروف، معك كنا نطمأن و نعرف أن كل تفصيل مهما صغر، كان ضروريا لا لأنه كان جميلا ومبهرا فقط، بل لأنه كان ذا معنى.
أما رحلتي الشخصية والمهنية معك فهي حكاية طويلة مليئة بالتفاصيل الفنية و الإنسانية والفكرية يطول الحديث عنها، ولكن كي لا أطيل عليك سأكتفي هنا بالقول شكرا لك، لقد تشرفت بالعمل معك، و بالرغم من كل الصعوبات و التحديات كنت سعيدا و فخورا، شكرا يا صديقي أنك وثقت بي ومنحتني صداقتك، شكرا على كل مرة طلبت مني أن أعيد اللقطة بطريقة مختلفة، شكرا على كل مرة قلت لي: (يمكن لنا أن نفعلها بشكل أفضل).
لا شيئ سيعوض فقدانك عند زوجتك ورفيقتك (دلع الرحبي) وأبناءكما (عمر، غزل وغالية) ولكن تأكد أنهم سيبقون دائما في قلوبنا و سنبقى و إياهم أسرة واحدة، فمحبتهم من محبتك.
ملاحظة أخيرة: عندما التقطت لك هذه الصورة أثناء تصوير (التغريبة الفلسطينية) لم أتخيل أبدا أن أعود وأبحث عنها كي استخدمها في وداعك.
وكتب له رسالة أخرى قال فيها:
صديقي الغالي
اليوم ودعك أهلك و أصدقاؤك ودمشق كلها، دمشق التي كنت تحبها وتحب أن نستذكرها أنا وأنت ونحن في غربتنا، دمشق التي صورتها كاميرتك في (الفصول الأربعة) وفي (عصي الدمع) بحب وحنان، كانت جنازة مهيبة تليق بك وبما أنت وما كنت.
كانت محطتك الأخيرة في واحدة من أقدم بقع دمشق في مقبرة (الباب الصغير) بين (باب الجابية والسويقة)، وهى منطقة قضيت فيها طفولتي، و في نفس المقبرة يرقد (والدي ووالدتي) رحمهما الله، مما رأيت في الصور فأنت بجوارهما تماما، سيستأنسان بجيرتك، فهما يحبانك جدا، وشاهدوا كل أعمالك بشغف، (والدي) كان مغرما بأعمالك التاريخية، أما (والدتي) فقد كانت متعلقة بأعمالك المعاصرة بدءا من (الفصول الأربعة) إلى (عصي الدمع) ولم يمهلها الزمن لترى (العراب)، ولكن أكثر ما تعلقت به كان (التغريبة الفلسطينية) و شاهدته مرات و مرات دون كلل ولا ملل وأظن أن لذلك أسبابا كثيرة منها علاقة (أبي صالح بوالدته)، فقد كنت أنا أيضا بكرها، وعندما عصف الزهايمر بها في آواخر أيامها ومن شدة تعلقها بالمسلسل نسيت اسمي و أصبحت تناديني (أبو صالح).
طبعا كما تعرف لم أكن معها في تلك الأيام حيث أُغلق باب وطني في وجهي، و كانت تنتظر عودتي و تسأل دائما متى سيأتي أبو صالح؟! .. هل اتصل أبو صالح؟!، وعندما كنت اتصل بها كانت تقول لي: (كيفك يا أبو صالح… أنا اشتقت لك يا أبو صالح)، في آخر يوم لها في دنيانا استيقظت أختي فجرا على صوتها تنادي : (أبو صالح… يا أبو صالح) ثم طلبت كأسا من الماء، لكنها لم تنتظر، فقد رحلت قبل أن تشربه و قبل أن تلتقي بي ثانية.
يا أمي يا حبيبتي ها هو مخرج (التغريبة) بجوارك.
للأقدار معانٍ أحياناً.