يوسف وهبي وكفى ولكن بالعلايلي نكتفي
بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
كنت قد كتبت لكم من قبل عن (الأم في الدراما المصرية)، ويبدو أنني ظلمت الأب لأنني لم أكتب عنه، رغم أنني أب يمارس أبوته بكل ما تعني الكلمة، وأظنكم جميعا هذا الرجل، ولكن من هو الأب الذي قلما تجود السينما المصرية، بل الفنون المصرية قاطبة بمثله؟، تعالوا معي في هذه الرحلة لننصف أستاذ الآباء في الدراما المصري.
نعم أيها السادة الأفاضل، نعم أيها الأبناء، الأب هو الذي ينافس الأم في مسابقة الحب، هو الذي يحمل أثقالا فوق أثقاله من أجل أبنائه، هو الذي ينظر إليه الابن في طفولته فيراه طويلا قويا واسع الحيلة حكيما، رغم أنه قد يكون غير ذلك، وفي حياتي رأيت أبناء عاشوا في جلباب أبيهم، وأبناء تمردوا على هذا الجلباب، وأبناء جعلوا من أبائهم أقانيما مقدسة، أما في الدراما فكان الأب في الغالب هو الموظف البسيط المطحون من أجل أسرته، نعم معظم الأفلام والمسلسلات لابد وأن يكون فيها مكانا للأب، ولكن الأب في هذه الأفلام هو مجرد دور من ضمن أدوار كثيرة تتداخل وتتشابك مع تطور الأحداث، وليس هو صاحب الخط الدرامي الرئيسي في العمل الفني.
وكلمة (أب) في اللغة العربية تتكون من حرفين، الألف، والباء، الألف هو أول حروف الأبجدية، هو المبتدأ، والباء هو الحرف الثاني في ترتيب الأبجدية، هو من حروف الجر، ثم هو من حروف الالتصاق، كأن تقول: أمسكت بـ (كتاب)، وكذلك هو من حروف السببية كأن تقول: ارتفعت باجتهادي، أي بسبب اجتهادي، فكأن كلمة أب نفسها تفيد كل معاني الأبوة بحرفيها الألف والباء، حرف الابتداء الألف، والأب منه الابتداء، وحرف الالتصاق والسببية وهما وظيفة الأب مع أبنائه في الحياة.
فإذا تركنا اللغة وحروفها وذهبنا إلى الفن وأبوابه سنرى عمالقة قاموا بدور الأب، مثل حسين رياض وزكى رستم ويوسف وهبى وسراج منير ومحمود المليجى وعماد حمدى، وصولًا إلى فريد شوقى وعزت العلايلى، وعشرات الأفلام كانت شخصية الأب فيها هى الشخصية المحورية، وسأغض الطرف هنا عن الأب الذى ظهر بصورة شريرة لأحكي لكم عن الأب الطيب، وقد كان يوسف وهبي هو أكثر الآباء طيبة ونبلًا وشهامة ومروءة فى السينما برائعته (بيومى أفندى)، وكان هذا العمل فى بدايته مسرحية من المسرحيات الشهيرة لفرقة يوسف وهبي، وقد أعطاها اهتماما خاصا، حيث رسم يوسف وهبي بذات نفسه شخصية الأب ببراعة الكاتب الأديب والفنان المُلهم، إذ كان هو مؤلفها ومخرجها، ثم قام بعد ذلك بتحويلها إلى فيلم سينمائى، ومن حسن طالع جمهور المسرح قام يوسف وهبى بتقديمها فى الستينيات مرة أخرى على مسرح التليفزيون، فحصلنا على نسخة مصورة شاهدناها كثيرًا، ولكن يبدو أن فنون المسرح فقدت حظوظها على شاشة التليفزيون، فأصبح عرض هذه المسرحية نادرًا.
الأب فى مسرحية (بيومى أفندى) هو الرجل الطيب البسيط، يعمل فى أحد محال تصليح وبيع الساعات، ثم يتزوج من خادمة، وينجب منها ابنًا وابنة، ولكنه يعرف أن الولد الذى أنجبته زوجته لم يكن ابنه، ولكن ابن لسائق الرجل الذى كانت تعمل زوجته عنده خادمة، وهو الذى أوقعها واعتدى عليها فحملته سفاحًا، وبيومى أفندى الطيب يقع فى حيرة، هذا الطفل لا يزال رضيعًا، فهل يتركه يكبر فى كنفه أم يلقيه فى البحر؟! ويعيش الأب المكلوم فى شرفه لحظات مؤلمة تتناوب عليه الأفكار، يحرّضه شيطانه مرة، ثم يعود ملاكه الطيب ليطرد من ذهنه كل الأفكار الشريرة، فما ذنب هذا الرضيع، ما الجرم الذى ارتكبه؟ ثم إن الأب المجرم الذى استولد خادمته من سفاح قد مات، فليحتفظ بهذا السر فى نفسه، ولا يبوح به لأحد، حتى لزوجته، فقد قر قراره على أن يمضى معها رحلة الحياة، وقد كان، ثم أنجب منها ابنة جميلة طاهرة بريئة كانت هى فاكهة حياته، وكأن الله أهداه الابنة ليربت على قلبه، ويشفى جراح نفسه.
والأب الطيب تمضى به الحياة، وتتبدل أحواله، ويسعى إليه الخير سعيًا ويتسع رزقه، ويصبح صاحب أكبر محل ساعاتى ومجوهرات فى البلد، وكان هذا الأب هو (الطيوب الحبوب) ترك أمر إدارة البيت لزوجته التى تسرف فى تدليل ابنها، فينشأ الفتى مدللًا ناعمًا، والحياة لا تسير دائمًا على منوال واحد، فحينما تكبر الابنة حبيبة أبيها تقع فى حب طبيب شاب، ويتقدم الطبيب ليتزوجها، ولكن يتضح أن هذا الطبيب ابن مجهول النسب، وإخوته أقاموا عليه قضية لإنكار إخوتهم له، وتصبح فضيحة يتحدث عنها المجتمع.
براعة يوسف وهبي فى التأليف ظهرت هنا وهو يضع عقدة العمل الدرامي بشكل مكثف، والجمهور بطبيعة الحال سيستظهر المقابلة بين الابن المدلل الذى ولد من سفاح، والطبيب الجاد الذى يقف فى نفس الموقف، ولكن كلتا الشخصيتين مختلفتان، فيرفض الابن المدلل أن تتزوج أخته من شاب مجهول النسب، وتظهر قسوته تجاه هذا الخاطب، والأب يحاول أن يسترضي الجميع، ويسعى إلى إقناع ابنه بهذا الزواج وأن الطبيب لا ذنب له، ويبرع يوسف وهبي في نصه فى نقل الأحداث من حالة شعورية إلى حالة شعورية أعلى، إلى أن يضطر الأب الساعاتي أن يخبر ابنه بالحقيقة، حقيقة أنه ليس ابنه، وأنه ابن سفاح، وينهار الابن ويحاول الانتحار، ولكن مشاعر الأب تتجمع فى الساعاتي بيومي أفندي، ولا يمكن لأحد أن ينسى يوسف وهبي وهو يؤدي مشهدًا هو الأعلى له فى تاريخه كله، أعلى من أى عمل أداه، أعلى من دوره فى مسرحية “كرسي الاعتراف” الذي قام فيه بدور الكاردينال “جيوفاني” الذى ينتمي لأسرة عريقة هى (آل ميدتشى).
ورغم أن هذا الدور يعتبر علامة بارزة فى تاريخ يوسف وهبي إلا أنه بلغ العُلا كله فى المشهد الأخير فى “بيومي أفندي” وهو يستعيد ابنه نبيل إلى الحياة مرة أخرى، ولا يزال صوته مشحونا بعاطفة فريدة وهو يقول: (لا يا نبيل، لا يا بني” يرن فى آذاننا كأننا نسمعه الآن، وستبكي وهو يحكي لنبيل عن أيام طفولته: (مين كان بيزغطك الشوكولاتة فى بقك النونو، مين كان بيعمل لك شوال الملح ويشيلك على ظهره)، ويستمر يوسف وهبي يثير مشاعرنا ويبكينا، ثم يقول له: (كلمة بابا هى أغلى كلمة فى الدنيا، هى الكلمة التى يتحمل من أجلها الأب كل شىء فى سبيل سعادة ابنه)، ولا يمكن أن تنسى خفة ظل بيومي أفندي، فيبكينا ويضحكنا، ثم يبكينا ويضحكنا، وقد كان هذا هو الأب المصري الطيب مع أسرته، يخفي بكاءه ليضحك أسرته.
هذا هو يوسف وهبي الذي تفوق على كل آباء السينما المصرية بلا جدال، ولكنني مع ذلك أجد أمامي عبقريا آخرا أنجبته السينما المصرية وقدم دور الأب ولخص مأساته في مشهد فريد لا يتكرر، لا أظن أن أحدا يستطيع محاكاته فيه، لذلك أيها السادة الكرام لا يمكن أن أترككم دون أن أتكلم عن فيلم (المواطن مصرى) وذلك المشهد العبقري الذي أداه الفنان عزت العلايلى، وهو ينظر لابنه فى النعش، ولكنه مضطر أن ينكر أن هذا هو جثمان ابنه البطل، فقد أدى عزت العلايلى فى هذا المشهد أعلى ما قدمه من حالة إنسانية عبر تاريخه، ولكى تعلم عظمة العلايلى، فيجب أن تشاهد هذا المشهد بنفسك، وستعلم وأنت تشاهده أن أثقل شىء فى الوجود هو نعش الابن عندما يحمله الأب، وأن أكبر مصيبة يمكن أن تمر بأب هى أن يشاهد جثمان ابنه، ويحاول أن يسيطر على نفسه حتى لا يعرف (الضابط) أن هذا هو ابنه، فيرتعش جسد الأب، وتنسال دموعه رغم أنه كان يحبسها، ولكن ليس فى طوق أب إذا حبس دموعه أن يحبس مشاعره، ولكنك فى ذات الوقت ستغضب من ذلك الأب الذى اضطر تحت ضغط الحاجة أن ينكر أن هذا ابنه، وستقول ملعونة هى تلك الحاجة، وإذا كانت الدموع قد انسالت رغمًا عن صاحبها، أم كان من الأجدى للكاتب الكبير يوسف القعيد أن يجعل الحقيقة تنسال هى الأخرى رغمًا عن صاحبها، فأنا أقطع بأن أى أب فى مصر، يحمل مشاعر هذا الأب، كان من الحتمي أن يكشف الحقيقة وليكن ما يكون.