كتب : أحمد السماحي
كتب المبدع الراحل (وحيد حامد) فى كل مجالات الفن سواء للإذاعة أو التليفزيون أو المسرح، وهذا مقال نادر له نشر منذ حوالي 40 عاما بعنوان (كيف أصبحت كاتبا سينمائيا) يشرح فيه كيف أصبح كاتبا سينمائيا يقول فيه:
كثيرا ما سألت نفسي كيف أصبحت كاتبا؟ وسينمائيا على وجه التحديد؟ وأنا الذي ولد وعاش فترة الطفولة والصبا في قرية صغيرة نعيش العزلة وربما لم يسمع أحد من أهلها عن السينما، كانت الحياة اليومية فى القرية رتيبة وثابتة أذكر أن عدد أجهزة الراديو فى القرية كلها كان لا يزيد على عدد أصابع اليد الواحدة، وكنا نتكوم بالعشرات من الصبية والشبان تحت أي نافذة بها راديو يعمل، وكثيرا ما كانت المعارك تقوم بيننا من أجل المكان.
ليلى مراد وسماد أبوطاقية
أما السينما فنحن نسمع عنها ونبحث عن أي شخص أسعده الحظ بالفرجة عليها ليحكي لنا عنها وذات يوم وفى ساعة العصاري انطلقت سيارة في شوارع القرية وعليها ميكرفون ورجل ينادي (سينما مجانا) وفى المساء وفى الجرن الكبير بدأت علاقتي بالسينما حيث جلست على الأرض وأسفل الشاشة مباشرة ظنا أن هذا هو المكان الأفضل، وبمجرد أن حل الظلام بدأ أول عرض سينمائي أشاهده في حياتي، وكان عبارة عن إعلان لأحد أنواع الأسمدة (سماد أبو طاقية) ثم جزء من أحد أفلام السيدة (ليلى مراد) ولم يخطر ببالي ساعتها إنني سأكون أحد المشتغلين بهذا الفن الجميل.
وكانت هذه هى المحطة الأولى في حياتي الفنية والأدبية جاءت بعدها محطات كثيرة يؤسفني ألا أتوقف عندها فالمطلوب مني التوقف في المحطة الأخيرة وهى كتابة السيناريو.
قاهرة الستينات
القاهرة في الستينات كانت مدينة كلها حياة وحيوية وكانت منارة ثقافية وفنية، كتب رفيعة المستوى وبأسعار زهيدة فى كل المجالات، مجلات وإصدارات رائعة ترصد الحركة التى لا تهدأ ولا تتوقف، ندوات، مسارح عديدة تتألق بالأضواء فيها ليلا، إنتاج سينمائي وفير وأغلبه جيد فى هذه المدينة كنت أبحث عن مكان لي بين كتاب القصة القصيرة الشبان، وقد وجدت هذا المكان فعلا ولكنه لم يكن في المقدمة، كانت القصص القصيرة التى أكتبها تجد بعض الإستحسان، ولكنها لم تصل أبدا إلى مرحلة التميز.
عبدالرحيم الزرقاني
كتبت مسرحية أو هكذا تصورت وذهبت بها إلى الأستاذ الفنان (عبدالرحيم الزرقاني) فى المسرح القومي ودفعت بها إليه ولاقت إعجابه، وكانت علاقتي بالمسرح قوية جدا كمشاهد صعلوك أي أتفرج على العروض المسرحية مجانا، إذ كان يتم تهريبي إلى داخل الصالة بطرق عديدة، وقد كسبت كثيرا من المسرح خاصة الأصدقاء من الفنانيين الشبان الذين تحمسوا لي كثيرا على اعتبار أني كاتب مسرحي ناشيئ ومبشر.
الرجل الذي يريد أن يضحك
وفعلا كتبت مسرحية من فصل واحد اسمها (الرجل الذي يريد أن يضحك) وجدت قبولا بإذاعة البرنامج الثاني لتكون أول عمل درامي لي يبث على الهواء ويطرح اسمي كمؤلف لأول مرة فى الإذاعة المصرية، ومن يدخل الإذاعة لا يخرج منها أبدا، وبدأت أكتب بعض التمثيليات الصغيرة والبرامج إلى أن حدثت القفزة وأصبحت أكتب المسلسلات وتحديدا مسلسل الساعة (الخامسة وربع) وحققت شهرة إذاعية لا بأس بها حتى جاء مسلسل (الفتى الذي عاد) الذي قفز بي قفزة أخرى، ثم مسلسل (طائر الليل الحزين) الذي جعل مني كاتبا سينمائيا.
شعبية المسلسلات الإذاعية
كانت السينما تسعى وراء المسلسلات الإذاعية التى تحقق نجاحا قويا وتحولها إلى أفلام سينمائية، وعند إذاعة الحلقة السابعة من مسلسل (طائر الليل الحزين) وجدت أكثر من منتج سينمائي يبحث عني لشراء القصة، والحقيقة لم تكن هناك قصة فأنا أكتب الحلقات أثناء إذاعة المسلسل، وطبعا فرحت فرحا شديدا وكانت أول تهنئة من الأستاذ المخرج (مصطفى أبو حطب) مخرج المسلسل والذي أدين له بكثير من الفضل.
السينما تدق الباب
كانت التهنئة الثانية من المنتج (مخلص شافعي) الذي طلب منى تسليم الحلقات وكتابة عقد لفيلم سينمائي نظير ستمائة جنية، وقال : (أنت أخذت فلوسك ونحن سنقوم بالبحث عن كاتب سيناريو يكتب الفيلم)، ولم تكن لي أي فكرة عن كتابة السيناريو ولم يحدث قط أن قرأت سيناريو فيلم من باب العلم بالشئ، ولكن لا أعرف ما الذي جعلني أقول له: ولكني أنا أريد أن أكتب السيناريو، ونظر لي المنتج الشهير نظرة فيها شيئ من التعالي وقال لي: وإنت مالك ومال كتابة السيناريو، كتابة السيناريو دي ليها ناسها؟ أنت كفاية عليك كده، وإحنا علينا الباقي).
يا أنا يا بلاش
فكان ردي حاسما وقاطعا فى نفس الوقت: (يا أنا إللي أكتب السيناريو يا بلاش)، بحكم طبيعتي البسيطة كنت لا أحب أن يتعالى على أحد، وبفضل التجربة الصغيرة والقصيرة أدركت أن الخاسر هو الأسرع فى تقديم التنازلات، ومرت عدة أيام حقق فيها المسلسل جماهيرية أوسع وأصبح حديث الناس، وإذا بالأستاذ المنتج مرة أخرى أمامي وهو أكثر رقة وأكثر عذوبة، وهمس قائلا: (بقولك إيه تعالى نتفاهم) وانتهى التفاهم على أن أقوم بكتابة السيناريو بشرط أن يكون جيدا وممتازا، وإن لم يكن كذلك يتم إسناد هذه المهمة من جديد إلى كاتب محترف، وشرط آخر أن انتهى من كتابة السيناريو فى خلال شهر من تاريخه وتم توقيع العقد.
ورطة كبيرة
فى الأسبوع الأول من الشهر كنت حائرا ألوم نفسي بسبب هذه الورطة التى جلبتها لنفسي، ولكني قررت عدم التراجع، وسألت كل الأصدقاء عن أي سيناريو لأي فيلم حتى أعرف الطريقة، وبالفعل عثرت على نسخة سيناريو لأحد الأفلام وجدت صعوبة شديدة في قرأتها، وصعوبة أشد فى استيعابها، وأصابتني حالة من التشاؤم عندما علمت أن الفيلم الذي تم تنفيذه من السيناريو الذي أحضرته لأتعلم منه حرفية السيناريو قد فشل فشلا ذريعا!.
نزلة برد حادة
أصبت بنزلة برد ومع الإهمال تحولت إلى نزلة شعبية حادة ووجدت نفسي طريح الفراش وأيام المهلة تتبدد حتى انتهى الموعد تماما، فى المساء كان لابد أن أذهب إلى شركة الإنتاج وأسلم السيناريو، وإلا فسيتم تكليف كاتب محترف بإنجاز العمل، وإتخذت قراري كانت العاشرة صباحا، حملت أوراقي وغادرت مسكني بميدان روكسي حيث كنت أشارك الأستاذ الصديق (كرم النجار) المؤلف المرموق شقة صغيرة، ذهبت إلى أقرب كافتيتريا، وأمسكت بالقلم ونسيت نفسي، وفى حوالي الساعة الثامنة مساءا كان عدد الأوراق التى كتبتها مائة وعشرون ورقة، أي ثلاثة أرباع الفيلم السينمائي.
أتوبيس 500
حملتها وركبت أتوبيس رقم (500) المتجه إلى وسط المدينة حيث وجدت السيد المنتج والأستاذ (يحيي العلمي) الذي كنت أراه لأول مرة، والذي تم اختياره لإخراج الفيلم، وهو الذى تولى تسلم الأوراق مني على أن أسلمه الجزء المتبقى غدا، ويقول رأيه فى الجزء الذي قمت بتسليمه له غدا أيضا.
مفاجأة سعيدة
وفى مساء الغد التالي كانت مفاجأة سعيدة جدا بالنسبة لي، المنتج يستقبلني بترحاب مبالغ فيه، و(يحيي العلمي) تتدلى من فمه سيجارة ويقول: شيئ مدهش، شيئ عبقري، وعندما قرأ بطل الفيلم الأستاذ (محمود مرسي) أستاذ الإخراج بالمعهد العالي للسينما أشاد بالسيناريو، وأيضا الفنان (عادل أدهم)، وهنا تسللت الثقة إلى نفسي، وقلت ربما تكون السينما هي المجال الذي أجد نفسي فيه وتحول إهتمامي كله إلى السينما.