بقلم : محمد حبوشة
مهما مرت السنوات تلو الأخرى فإن ذلك يزيده بريقا آخاذا وشبابا ناضرا وحيوية متدفقة تشبه موج البحر في مد وجذره، وحضورا يشبه ندي الصباح في تجدده الذي يبعث على الحركة والنشاط ، ولا يختلف ذلك عن قلبها النابض بالحب لكل من حولها، والذي ينافس السماء في براحها، فهي فنانة لا تشبه غيرها، ولا أحد يشبهها أيضا، تمكنت برشاقة ورقي ورقة آسرة من التحصن بمملكة فنية لا تتسع لغيرها، من خلال رحلة فنية تقارب النصف قرن، لم تغيرها الشهرة خلالها، ولم تنل منها الأضواء، بل بالعكس من يقترب منها خلف الكاميرا يجد حضورها إنسانياً لا يقل روعة عن حضورها فنيا، فالغرور مصطلح لم يتطرق إلي قاموسها، والتواضع سمة أساسية في كل تعاملاتها، وابتسامتها بمثابة تأشيرة المرور السحرية التي تكسر كل الحواجز بينها وبين الآخرين وتجعلها تحتل القلوب بلا إستئذان.
إنها الفنانة والنجمة الكبيرة الساطعة في سماء الفن المصري (يسرا)، دانتيلا السينما والدراما المصرية التي تعادل ابتسامتها العذبة جريان الماء في الجداول والحقول في رحلة إنعاشها للأشجار والثمار في تطلعها عاليا نحو السماء الصافية في نهار مفعم بالحيوية، فضلا عن كونها تحمل بين ضلوعها قلبا طيبا مشرقا حقا، بينما تلمح في تفاصيل وجهها قسمات نهر يتدفق بالصدق والصراحة اللتين تلازمنها على جناح بساطتها وجمالها ورقتها ودلالها، ما جعلها تبدع في أدوار الرومانسية والتراجيدية وحتى الكوميدية، وعلى الرغم من تغير مراحل السينما العربية مع مرور السنوات، إلا أنها في كل مرحلة تلمع أكثر وأكثر تاركة بصمتها المميزة على الشاشة الفضية، وكذا الأمر على الشاشة الصغيرة التي قدمت من خلالها روائع الدراما التليفزيونية.
ولدت (سيفين محمد حافظ نسيم)، الشهيرة باسم (يسرا)، في القاهرة، وكانت الابنة الوحيدة لوالديها، لكنها لم تعش طفولة سعيدة – على حد قولها في لقاءتها التليفزيونية – وذلك على إثر انفصال والديها، حيث أبعدها والدها عن والدتها عنوة وعاملها بقسوة، الأمر الذي جعل علاقتها به سيئة للغاية، وهكذا أصبحت الطفلة التي أتت إلى العالم في (تاكسي) ببداية فنية غير متوقعة، وربما كان سر ارتباطها بالفن قادم من حب والدتها له، فبينما كانت والدتها تشاهد أول أفلام عبد الحليم حافظ على شاشة السينما (لحن الوفاء) شعرت بآلامم الوضع، وفي طريقها للمستشفى بدأت (يسرا) تطرق أبواب العالم وتطل من نافذة الدنيا في سيارة أجرة، وتلك كانت البداية الحقيقية نحو عالم يموج بالتقلبات الفنية لحظة ولادتها.
عانت (يسرا) من الحرمان من والدتها وهى في سن الثالثة عشر، فبعد انفصال والديها جاء الأب ليأخذها قسرا، كالمعتاد لتقضي معه الإجازة، وشعرت الطفلة ذات الـ 13 ربيعا في ذلك اليوم أنها لن تعود لوالدتها، وكان حدسها قويا، وبالفعل حرمت من حضن والدتها لمدة 7 سنوات، لكن هذا الحرمان جعلها أقوى وأكثر صلابة – كما ذكرت يسرا من قبل في لقاء تلفزيوني – لكن بقيت غصة في قلبها لأنها لم تكمل تعليمها بسبب والدها الذي أراد أن يقيد حريتها في الخروج، ولكن ذلك لم يؤثر على ثقتها بنفسها، بل على العكس فهي ترى أن ما تعلمته في حياتها لا يوازي التعليم الأكاديمي، فحولت نقطة الضعف هذه لنقطة قوة، وحرصت على القراءة بكثرة ومجالسة المثقفين مثل (صلاح جاهين) وغيره من مبدعي زمن الفتوة المصرية.
كانت حياة النجمة الكبيرة (يسرا) مليئة بالمفاجئات لحبها للفن وإصرارها على أن تكون نجمة متألقة في الوسط الفني من خلال اختيارها مواضيع تساعد على وجودها في الساحة الفنية، وتم ظهورها على الشاشة الفضية عام 1973م وكانت تشير بأن الأعمال التى قامت بها لا ترقى إلى مستوى فني جيد، وكان مجرد تفريغها على الانتشار شيئا فشيئا، وبعد ذلك أدركت بان الفرق بين الاختيار والانتشار شيء مهم لصنع الفنان، ولكن حبها للفن هو سبب تسرعها لهذا الاختيار، وبالفعل بدأت الفنانة يسرا حياتها الفنية في فيلم (ألف بوسة وبوسة عام 1977) وكان مكتشفها مدير التصوير عبد الحليم نصر ولكن تأخر عرضه في مجال السينما .
نشأت (يسرا) وسط عمالقة الفن والسينما، ويبقى حضورها على الشاشة هو سر نجوميتها، حيث تترك بصمة فى أى شخصية فنية تجسدها وهى في هذا تنافس نجوم الصف الأول على قدم وثاق، وتنافس بقوة أيضا فى إيرادات شباك التذاكر، ومن هنا قدمت عبرمسيرتها الزاخرة بالفن العديد من الأفلام والمسلسلات التى تحتاج لشرح طويل وتحليل أكثر عمقا لتناولها قضايا المرأة المصرية والعربية عبر رحلة طويلة من العطاء والاجتهاد والنجومية خاضتها النجمة النجمة المتألقة طوال مشوارها، حتى أصبحت أعمالهاهى التي تتحدث عن نفسها ويكفي مشاركاتها مع أكبر مخرجي مصر والعالم العربي، وأشهر وأبرز النجوم، ولهذا لم تكن أبدا ممثلة عادية، بل هي دائما حالة استثنائية في السينما والدراما التليفزيونية المصرية خلال الخمسين سنة الماضية.
بدأت (يسرا) حياتها السينمائية في أواخر السبعينيات، وقدمت عدد من الأفلام في تلك الفترة لكن هناك مخرج واحد استطاع أن يعيد اكتشاف يسرا سينمائيا هو الأستاذ أو المخرج يوسف شاهين، وبدأت قصة جو مع يسرا، في الأفلام التي تناولت سيرة جو الذاتية مثل (حدوتة مصرية، وإسكندرية كمان وكمان)، ويعد تعاون يسرا مع شاهين هو الذي كشف النقاب عن موهبتها الحقيقية في فن التجسيد الاحترافي، وجعلها تفهم عالم الفن السابع وتراه بطريقة مغايرة، ومن ثم نقلها إلى مصاف نجمات السينما العربية مع الثمانينات والتسعينات، وهى تؤكد دائما أن تأثير المخرج يوسف شاهين عليها كان سببا رئيسيا في نجاحها.
ربما أظهر جو موهبة يسرا، لكن من المؤكد أن شعبيتها الجارفة في التسعينات كان ورائها تعاونها المثمر والبناء مع الزعيم، كما أن عادل إمام والكاتب الكبير وحيد حامد والمخرج المبدع شريف عرفة وجدوا فيها الخلطة السحرية لنجمة التسعينات، فهي الأنثى الجميلة المتمردة والمرأة اللعوب تارة، والمستكينة المغلوبة على أمرها تارة أخرى، وهى نفسها التي تتحالف مع سلطة المال المتوحشة فتكسب أحيانا وتخسر في أحيان أخرى، كما شاهدنا ورأينا بأعيننا ذلك في أفلام (طيور الظلام، الإرهاب والكباب، المنسي) ومما لا شك فيه أن تلك الأفلام مثلت علامات فارقة في تاريخ السينما المصرية، حيث حاولت الغوص في العالم الخفي لصناعة القرار في مصر في تلك الحقبة.
وإذا كانت أفلام عادل إمام ويسرا، ببصمة وحيد حامد وشريف عرفة، اقتربت من السياسة وأرض الواقع، فعلى العكس كانت لقاءات يسرا مع العبقري أحمد زكي تحاول أن تلمس مشاعر البشر وتناقضاتها، وتقدم فلسفة الحياة وظلت علاقة يسرا، مع أحمد ذكي قوية على الشاشة وفي الحياة حيث استمرت صداقتهما حتى رحيله المر، كانت يسرا بطلة لايشق لها غبار مع أحمد زكي عبر عدد من الأفلام بحيث جسدت دور المرأة التي تكشف حقيقة الحياة والرجل، فرأينا في (امرأة واحدة لا تكفي، الراعي والنساء (مع السندريلا سعاد حسني)، وأول أفلامهما (البداية) مع مخرج الواقعية صلاح أبو سيف.
في عام 1981 كانت أول بطولة تجمع يسرا بالزعيم عادل إمام في فيلم (الإنسان يعيش مرة واحدة) ليشكلا معاً واحداً من أنجح الدويتوهات الفنية في تاريخ مصر والوطن العربي، حيث قدما معاً في العام الذي يليه فيلم (علي باب الوزير) وبعده بعام (الأفوكاتو)، ثم (الإنس والجن) 1985، و(كراكون في الشارع) 1986، وتوالت أعمالهما معاً في (جزيرة الشيطان، الإرهاب والكباب، المنسي، طيور الظلام، رسالة إلي الوالي، عمارة يعقوبيان، وصولاً إلي “بوبوس” في عام 2009)، وهو آخر عمل جمع بينهما، والغريب أن دويتو يسرا وعادل إمام اقتصر على السينما وحدها ولم يمتد إلي الدراما التليفزيونية ولا خشبة المسرح الذي طرقته قليلا.
ومع العالمي يوسف شاهين كان أول لقاء جمعها به عام 82 في فيلم (حدوتة مصرية) ليتكرر في (إسكندرية كمان وكمان، المهاجر، وحتي إسكندرية نيويورك)، آخر سيرة ذاتيه قدمها يوسف شاهين عن نفسه، أما لقائها بالإمبراطور أحمد زكي فكان عام 1983 في فيلم (درب الهوي) قبل أن يقدما معاً فيلم (البداية) للمخرج صلاح أبو سيف عام 1986، ثم (إمراة واحدة لا تكفي) قصة عماد الدين أديب وإخراج إيناس الدغيدي، ونهاية بآخر عمل جمعهما معاً في 2002 وهو (معالي الوزير)، والذي شاركت فيه يسرا كضيفة شرف من خلال مشهد واحد جمعها بالراحل العظيم أحمد زكي.
ومن أبرز أعمالها أيضا في السينما : (البنات كبرت – الماضي لم يعد ملكي – البداية – مايوه لبنت الأسطى حسن – فتاة تبحث عن الحب – قبل الوداع – الجوع – قصر في الهوا – مرسيدس – المهاجر جلسة سرية – حرب الفراولة – سري للغاية – ابتسامة واحدة لا تكفي – وصمة عار – طيور الظلام – منزل العائلة المسمومة – نزوة – عيش الغراب – دانتيلا – حسن وعزيزة – قضية أمن دولة – لعدم كفاية الأدلة – التعويذة – الجنة تحت قدميها – عشاق تحت العشرين – موعد مع القدر- أذكياء لكن أغبياء – دائرة الشك – ليلة شتاء دافئة – الإنسان يعيش مرة واحدة – كلام الليل – العاصفة – دم الغزال – كلام في الحب – جيم أوفر – بياضة – حكمت المحكمة – الشرس – جزيرة الشيطان – سكة الندامة – صرخة ندم – المولد – – الغضب – سيدة القاهرة – كابوس – الافوكاتو – درب الهوى – السفاحين – إن ربك لبرمصاد – لا تسألني من أنا ).
وعلى مستوى الدراما التليفزيونية أبدعت يسرا في عديد من المسلسلات ومنها على سبيل المثال وليس الحصر: (الشمع الأحمر – شربات لوز – الحساب يجمع – فوق مستوى الشبهات – خينة عهد – سرايا عابدين – لو قلنا ما بنحبش – لدينا أقوال أخرى – أغنية على جسر الأمل – أوان الورد – أين قلبي – ملك روحي – لقاء على الهواء – أحلام عادية – لحظات حرجة – قضية راي عام – في أيد أمينة – خاص جدا – موعد لم يتم – عريس وعروسة – جحا وبنات الشهبندر – الشاهد الوحيد – سيدة الفندق – رأفت الهجان – حياة الجوهري )، وقدمت للكسرح عدة أعمال منها (بداية ونهاية – كعب عالى – لما بابا ينام)، وقد خاضت (يسرا) بجرأة يفتقدها الكثيرون تجربة الإنتاج، وذلك عام 1994 عندما أنتجت فيلم (ضحك ولعب وجد وحب) وشاركت في بطولته مع العالمي عمر الشريف والمطرب عمرو دياب.
استمر مشوار تألق (يسرا) مع السينما المصرية بداية من (فيلم الآخر) ليوسف شاهين حتى استطاعت أن تكسب شعبية كبيرة من الجمهور والفنانين بالذات بعد العمل مع الفنان عادل أمام وعمل مجموعة من الأفلام وأيضا تعاملها مع المخرجة إيناس الدغيدي في أكثر من فيلم مما أدي بارتفاع شهرة الفنانة وأيضا عملها مع شاهين أيضا من خلال فيلم (حدوته مصرية)، ولقد أظهرت في هذه الأفلام مميزات كثيرة من خلال قدرة فائقة على التلوين في أدوارها وتقديم أدوار متنوعة وغير أن لديها قدرة على الإقناع التى تتغير فيها صورتها عند الجمهور مع كل عمل تقوم بعمله وغير ذلك كانت لقاءتها مع الفنان أحمد زكي وعلاقاتها الفنية معه قوية على الشاشة وفى الحياة حيث استمرت صداقتهما حتي رحيل أحمد زكي.
في سجل (يسرا) إنجازات كثيرة استحقت التقدير عليلها ومن تلك الجوائز التي حصلت عليها: جائزة أفضل ممثلة عن دورها في فيلم ( ليلة شتاء دافئة)عام 1981، جائزة أفضل ممثلة عربية التي حصلت عليها من التلفزيون الأمريكي سنة 1991، حضورها كضيفة شرف في مهرجان فينيسيا السينمائي في إيطاليا وتكريمها فيه سنة 1992، تكريم من مهرجان كان الفرنسي سنة 1995، تكريم من مهرجان السينما والثقافة الرابع عشر لدول البحر الأبيض المتوسط في فرنسا سنة 1998، تكريم في لبنان من مهرجان بيروت السينمائي سنة 1999، تكريم من مهرجان الإسكندرية السينمائي الدولي سنة 2000، تكريم من جمعية الأطباء الملكية في لندن سنة 2005.، تكريم في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي سنة 2006، جائزة (تورمينا أرت) للتفوق السينمائي من مهرجان تورمينا السينمائي، وأيضاً تكريم من مهرجان (فالينسيا) السينمائي سنة 2007.
ورغم الأفلام والمسرحيات والمسلسلات والجوائز الكثيرة التي حصلت عليها، قدمت (يسرا) عدد من الأغاني أشهرها أغنية 3 دقات مع المطرب (أبو) وحققت نجاحا كبيرا، وبعد مسيرتها الفنية الطويلة بما في ذلك 85 فيلماً وأكثر من 20 مسلسلا تلفزيونيا، اختيرت فى عام 2006 كسفيرة للنوايا الحسنة من قبل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وذلك فى احتفال أقيم قى حديقة الأزهر بالقاهرة وكان اختيارها جاء لشهرتها الواسعة وحب الجماهير لها ولفنها واحترام الشعب لشخصها، وذلك ما أكدته مديرة المكتب الإقليمي للدول العربية بأن شهرتها فى الوطن العربي واهتمامها الواسع بالمهمشين واهتمامه بالمرأة ورحلتها الفنية الطويلة لأكثر من 25عاما، حيث قدمت من خلالها أدوار متنوعة عن القضايا السياسية والاجتماعية والإنسانية وذلك من خلال أفلامها السينمائية والمسلسلات التليفزيونية ومشاركتها للعديد من الجمعيات الأهلية في نشاطاتهم مما ضاعف اختيارها لهذا المنصب.
ومن هنا بدأت يسرا في تكريس بعض جهودها للقضايا الاجتماعية، وخاصة الاتجار بالبشر ، حيث عملت في مجال
العمل الإنساني والدعوة للنساء والأطفال، وذلك بمشاركتها في جلسات للنوايا الحسنة في العديد من مؤسسات الأمم المتحدة، بما في ذلك برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وبرنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بفيروس نقص المناعة البشرية الإيدز، وكانت الرئيس الفخري لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في عام 2017 تكريماً لمسيرتها الفنية الغنية، وتم تسمية أحد شوارع مدينة الجونة على اسمها.
ومن أشهر أقوال يسرا:
** لا أحب أن أتذكر اللحظات الحزينة.
** سر النجاح يكمن في الاجتهاد والسعي الدؤوب في العمل.
** إن جزءا من النجاح الباهر الذي حققته سببه الوقوف أمام الزعيم عادل إمام.
** في بداية مشواري الفني كنت أتمنى أن يكتب النقاد عني سواء بشكل إيجابي أو سلبي.
وفي النهاية نبعث بباقة ورد بلدي للنجمة المتألقة (دانتيلا السينما والدراما المصرية) في عزلها المنزلي، متمنين لها الشفاء العاجل ودوام الصحة والعافية، كي تعود إلى جمهورها المحب، وتبدع أكثر وأكثرفي مجال الدراما والسينما اللتين خطت فيهما خطوات مهمة جعلتها في مصاف نجمات الفن المصري الحقيقي على جناح إبداع لايفنى مهما طال الزمن.