بقلم : محمد حبوشة
في المحطة الأخيرة لوداعه، وبعد أن أغلق موقع (ويكيبيديا) القوس على تاريخ غياب المخرج السوري العظيم (حاتم على: 1962- 2020)، وصل جثمانه، صباح اليوم الجمعة، لمطار دمشق الدولي، وتزينت عربات الإسعاف، بصورته التي اعتراها الصمت الموحش، رغم ما تحمله ابتسامة خجول كانت لاتفارق وجهه الطيب الواع، وهى في طريقها إلى أن تنقله من المطار إلى مستشفى الشامي بسوريا، لحفطه في الثلاجة حتى دفنه، وقد توافدت الجماهير في صورة مراسم وداع لائقة بعظمة ما قدمه من إبداع حقيقي، وقد كان عناق المحبين في المشهد الرهيب يبدد شيئا بسيطا من هول المصيبة!، ومن المقرر أن يقام عزاء الراحل على ٣ أيام (السبت والأحد والاثنين) وذلك بصالة الحسن بأبو رمانة بسوريا.
لقد كانت صدمة الثلاثاء السوري المر لا تشبه سواها لجهة الشجن والفجيعة والطعنة المباغتة، هكذا استدعى الخبر مرثية جماعية من جانب الكل في شكل: حرقة، رحيل موجع، خسارة فادحة، فقد كان (حاتم علي) هو الجدار الأخير للدراما السورية التي تعيش حالة احتضار منذ سنوات، وكان بمثابة شعلة في آخر النفق المظلم تقودنا إلى الضوء في عتمة الليل الموحش بأعمال نوعية لا تنسى أنجزها هذا المخرج المتفرد، كي تكون جزءا من الذاكرة البصرية العربية المحمولة على ثراء درامي ينطوي على بصمة فكرية وطموح تنويري ينأى عن الخفة التي ابتلعت الشاشة بغث أعمال درامية أقل ما توصف بالخفة والخزلان في زمننا الحالي.
وفي وقت أصبحت فيه الدراما تكتب التاريخ الاجتماعي والثقافي والفني بشكل واضح في ظل تنامي دورها، ومدى تأثيرها في الأجيال الحالية، والذي ينبع من أهميتها كمنتج إعلامي يعنى برصد الأحداث وتطوراتها وانعاكساتها على مجمل الحياة العربية العصرية، ومن ثم أصبحت الدراما كمعادل بصري وثيقة تاريخية ومستندا بصريا للتاريخ بتقلباته، ومن هنا أقترح على منصات المشاهدة الجديدة(Watch iT!، شاهد، نيتفلكس، VIU، شوف) وغيرها من منصات عربية، ضرورة الانتباه إلى ضم أعمال المخرج العظيم الراحل (حاتم على) على شاشتها التي أصبحت تخاطب جيلا جديدا من الشباب العربي وتداعب خيال المشاهدة لدية
وترجع أهمية أن تعرض أعمال (حاتم على) على منصات المشاهدة الجديدة إلى أنها تنبع من براعتها على مستوى الإبداع الذي تعتبر معادل ثقافي وتاريخي مهم يجب أن تتعرف عليه الأجيال الحالية، خاصة أنها لاتعتمد على ثقافة الكتاب المطبوع بعدما بات لمفهوم الدراما دور محوري في حياتنا المعاصرة وسياقاتها الثقافية المجتمعية، حيث يعتبرها أغلب علماء علم الاجتماع المعرفي (ظاهرة من ظواهر التاريخ الأدبي، ووثيقة من وثائق التاريخ الإنساني)، وفي هذه المناسبة يقول أرسطو في كتاب الشعر: (إن التاريخ يكتب الأحداث كما وقعت، ولكن الدراما تكتب الأحداث كما كان ينبغي أن تقع)، ومنذ ذلك الوقت لم يتوقف البحث في العلاقة بين التاريخ والدراما، حتى أصبح المؤرخون وكتاب الدراما،لا يرون فروقا تذكر بينهما الآن.
ولعل أعمال (حاتم على) مثل ثلاثية الأندلس (صقر قريش – ربيع قرطبة – ملوك الطوائف) وملحمته فائقة الجودة والتي تعد أيقونة الدراما العربية (التغريبة الفلسطينية) حيث قدم بحس اجتماعي فاق كل التوقعات مرثية أخيرة لاندحار الطبقة الوسطى، وإشارة ضمنية إلى قبح الطبقات البديلة، فيما كانت (التغريبة الفلسطينية) وستبقى إحدى العلامات الاستثنائية في إعادة كتابة وجع التهجير الفلسطيني، فضلا عن أعماله الرائعة (عمر، العراب) إلى جانب ما قدمه في الدراما المصرية (الملك فاروق، أهو ده اللي صار، حجر جهنم، كأنه إمبارح، تحت الأرض)، وهو ما يجعل أعماله جميعا ظاهرة من ظواهر التاريخ الأدبي، ووثيقة من وثائق التاريخ الإنساني.
وظني أنها أعمال (حاتم علي) تتفق تماما مع الأحداث اليومية الحالية في وطننا العربي والتي أصبحت الدراما بموجبها تشكل النواة الأساسية للتاريخ الإنساني الحديث، حتى أصبح السرد التليفزيونى هو البديل المثالي لتسجيل حركة التاريخ القادمة من رحم تلك الأحداث، جراء تطور صناعة الفعل الدرامي وانعاكساته الواضحة على الحياة العربية في ظل الثورات المشوبة بالتمرد والعصيان بفعل توفر حرية التعبير على مواقع التواصل الاجتماعي التي حولت حياة الإنسان من حياة افتراضية إلى حياة فعلية بفضل التكنولوجيا الحديثة، وهو ما برع في تجسيده (علي) بحرفية شديدة عبر مجمل أعماله الخالدة في الدراما العربية.
ولعل خسارة فقد (حاتم على) يعوضه أن أن تتوفر أعماله لنراها بصفة دائمة على شاشات مناصات المشاهدة الحالية، وهو الذي صنعها كقطع أرابيسك مشغولة بشغف وثقافة بصرية يمكن أن تشعل خيال الشباب الحالي الطامح نحو الجودة، كما جاءت في غالبية أعماله (الزير سالم، صلاح الدين، عمر، العراب، أوركيديا، صراع على الرمال، أبواب الغيم) وغيرها من أعمال اجتماعية عبرت بشكل واقعي عن هموم المواطن العربي كما جاء في (الفصول الأربعة، أحلام كبيرة، على طول الطريق) إلى جانب ما قدمه في الدراما المصرية (الملك فاروق، أهو ده اللي صار، حجر جهنم، كأنه إمبارح، تحت الأرض).
ظني أن ما فعله حاتم علي في مشواره الحافل الفني الحافل بأعمال عظيمة يستحق منا أن نخلده بوجود أعماله متاحة للمشاهد العربي أينما كان، فقد كان الراحل – يرحمه الله – مهموما بصناعة ذاكرة مجيدة للتلفزيون، بالرغم من كل ما تقدم من كتابة ونظريات في تمجيد طقوس الصالة المعتمة (السينما)، وكأنه خلال مشوار حياته كان يردد لماضيه بأن لا يغيره وإن ابتعد عنه، ويطلب من الحاضر أن يتريث عليه قليلا ليصنع مشروعه ويهديه للمستقبل، الذي لا يعرف ماذا يخبئ له، لكنه قطعا لم يكن يخطط بأنه سيمضي بهذه السرعة، والطريقة الصاعقة.. وحيداً، بعيداً، عن بلده، وقبل أن ينجز آخر أحلامه، فهل نحقق له جزءا من أحلامه في الوقوف على أعتاب أعماله التي برعت في تقديم تاريخ أمة أبهرت العالم بعملها وفكرها وثقافتها التي ترسخ في الضمير الإنساني العالمي؟!